أن تعيشَ بهذه اللغة الكبيرة يعني أن تكونَ في حضرة الماضي أكثر من أيِّ أزمنةٍ أخرى. ما زالت هذه سِمَة العربية الغالبة منذ قرونٍ بعيدة. فعمقُ اللغة العربية ينبعُ من سعتها التاريخية التي تُلقي بظلالها على أي حاضرٍ ممكن. معظم العرب أو الناطقين بالعربية يسمعون الماضي بكلِّ مكوناته المعرفية والصوتية يومياً بصورة أو بأخرى. هنا شيء فريد يختلفُ عن معظم، إن لم نقل كلّ، لغات (وثقافات) الأرض. طبعاً تطوُّر أو تغيُّر اللّغات مرتبط بتغييرات جذرية في البنى الاقتصادية والسياسية للمجتمع الخاص بهذه اللغة، واللغة العربية لم تسلم من تغيّيرات مهمّة.
لكن الأسئلة التي تبقى ربما الأهم بالنسبة إلى العربية تتعلّق بكثافة الماضي في اللغة العربية وديمومتهِ في الحياة العربية المعاصرة: لماذا هذه الكثافة؟ ما هو الوعي اللغوي في العالم العربي؟ كيفَ يمكن تطويره وتجديده بصُورٍ تخدم الحاضر والمستقبل؟ كيف نستفيد من المواريث العربية ونخدم الواقع وديمومة الوعي والتغييرات التي تحصل دائماً في العالم؟
هذه أسئلة صعبة وتحتاجُ إلى دقة في التعامل معها لكي نصل إلى خلاصات تساعد على وعيٍ أفضل، وحياة أفضل في العالم العربي.
عندما كتب الكاتب اللبناني جبران خليل جبران مقالته المهمّة في نهاية القرن التاسع عشر "مستقبل اللغة العربية"، كانت اللغة العربية آنذاك تترنّحُ بين الجمود والتقوقع في الماضي وبين الحيوية والديناميكية التي اتسمَ بها وقته لدرجةٍ ما.
حدّد جبران ببصيرة حادة أهمية اللغة لبناء وعيٍ جديد وكيفَ يُبنى على أعمدةِ لغةٍ جديدة تخاطبُ روح كلّ عصر بناءً على أدواته ومعطياته. لأهمية الشعر وقتها، ركز على الشعراء كفاعلين أساسيّين في ابتكار وإبداع وعيٍ جديد يواكبُ العصر ويهدم القوالب والأقانيم و"الأصانيم" التي تتكرّر يوماً بعد يوم دون تفكيرٍ في سياقها ووقتها، وكيف أنّ لا شيء ينفع هذه الأرض إلا ما يتفاعل معها ومع حركاتها التي لا تتوقّف. هكذا أسّس جبران، ربما دون أن يدري، لحداثة عربية شعرية عظيمة استمرّت حتى وقتنا هذا.
لكن الحداثة الشعرية والأدبية بشكلٍ عام، حيث ازدهرت الرواية العربية وشقّت طرقاً زاهية كثيرة، لم ترافقها أو تتطوّر معها خطابات سياسية وثقافية واجتماعية تركّز على دور الفرد والحاضر في تطوير اللغة وَجَعلها أداة لإيضاح الواقع والتعبير عنه بسلاسة وعمليّة، بحيث يتوقّف الماضي وسياقاته الخاصة عن الهيمنة، تجاه تشكيل الوعي الحاضر بكافة أشكاله بطرقٍ تحرّرية واستكشافية وتقدّمية حقّة.
السجن في الماضي مجالٌ خاض فيه كثيرٌ من المفكّرين العرب، لعل أبرزهم المصري طه حسين والمغربي محمد عابد الجابري، والسوري أدونيس وغيرهم. خلاصتهم بصورةٍ أو بأخرى أنه لا بدَّ من إعمال العقل وَتفعيله في الحاضر، ومن إبداع في الخطابات السياسية والثقافية، ومن التحرّر من قوالب الماضي القديمة، وحتى إن تمَّت الاستفادة منها كسيرورة تاريخية فيها دروس وأصداء تنفعُ أيِّ وقت.
الماضي مجاز، ولا يمكن أن يتكرّر بالصورة التي يرسمها الأصوليون، سواء المتديّنون أو العلمانيّون. كلُّ وقتٍ له سياقه ونبراته وأوجاعه وحلوله، له سماتهُ التي تحتاج إلى تجاوب خلّاق وعملي وجمالي معها.
اللغة العربية، تلك القمّة الرائعة العظيمة، بحاجة إلى تجديد، ليس بالضرورة فقط في قواعدها وكلماتها وشكلياتها، بل في كيفية استخدامها وبالطرق المرنة الواقعية والمنفتحة التي لا تنغلق في تفسيراتٍ وقوالب قديمة جاهزة. يبدو العالم العربي الكبير محاصراً خارجياً وداخلياً، وهو رهينة سجون ذهنية أيضاً، حيث يخلق ثقافات شكّاكة، قليلة الثقة بذاتها وتحبطُ الفرد الذي يفكّر وتقلّل من شأن التفكير المستقلّ والجديد بشكلٍ عام. تلكَ مشكلةٌ عميقة وتحتاجُ إلى جهود وتفكير جذري يتعلّم من التجارب التاريخية الناجحة، دون التقوقع في أيٍ منها. اللغة هي مفتاح التجديد والتحرّر من الأصوليات والانغلاق والجمود ومن الآفات الرجعية المزمنة التي تفتكُ بالعالم العربي.
لا بدّ أنّ هذا نداء القرن الواحد والعشرين كما بدأ جبران بنداءٍ مماثل ببداية القرن العشرين حينَ تحدّث عن اللغة العربية وأهمية تجديدها كبوتقةِ وعيٍ وصورة هويات بحاجةٍ ماسة إلى ابتكار وإبداع.
بدون لغة متحرّرة من قيود السلطة والمجتمع والأيديولوجيا بنصوصها القديمة وإرهاصاتها المعاصرة، سواء الدينية أو السياسية أو الاجتماعية، لا يمكن أن ينهضَ فرد ومجتمع متحرّر وقادر على مواكبة تطوّرات العصر التي هي نتاج تفاعل وابتكار واستكشاف مستمرّ.
حين كتب الشاعر الإنكليزي الأميركي ت. إس إليوت عن التقليد والإبداع الفردي فتحَ أفقاً لأفكارٍ وطرقاً عظيمة لبناء الأفراد والمجتمعات والأمم بشكلٍ عام. تقوم الفكرة الرئيسية هنا على أنه لا غنى عن الماضي، لكن لا بدَّ من تقنينه وتوجيهه نحو الحاضر والمستقبل. الموهبة الفردية والسلاسة المجتمعية تتطلّبُ تفاعلاً مستمراً مع الحاضر، كونه أساس الحياة، بوتقةُ التاريخ الآن.
إذن، لا يكفي الماضي، مهما عظمت مثاليته بِأعينِ من يراه كذلك، لبناء أيِّ حاضر مزدهر يستحقّهُ الإنسان العربي الذي عانى كثيراً، ولا يزال، من تشوهات فكرية غير مجدية، ولن تؤدّي إلّا لمزيد من العذابات. التشبَّث بالماضي هو نوع من أنواع العمى المقصود، حالة عدمية وحلقات من الفراغ عديم الجدوى التي لا تنتهي.
حانَ وقت النظر للحاضر وأدواته والعلوم وأحقّيّتها والتفكير الخلّاق الذي يحترم البشر وما يتشابهون فيه وما يختلفون، على تنوّع خلفياتهم وأيديولوجياتهم، وحوارات بَنَاءة تُوْصِلُ إلى نتائج تجعل الحاضر يرتقي ويُرتقى به وبنا.
* ناقد وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن، آخر كتبه بالإنكليزية "خارطة للغياب- أنطولوجيا لكتابات فلسطينية عن النكبة" (دار الساقي، 2019)