تبقى عقيدة الرئيس الأميركي باراك أوباما لمواجهة الإرهاب والتطرف، قائمة على شركاء يؤدون المهام بالوكالة عن الحكومة الأميركية المركزية، على الرغم من إمكان تعدّد الاستراتيجيات لدى الرئيس الأميركي في هذا الشأن.
وخلال المؤتمر الصحافي الذي عقده أوباما مع رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، في البيت الأبيض أمس الأول، تحدث أوباما عن استراتيجية لمكافحة ما سماه بـ"التطرف العنيف"، لخّص هدفها، باختصار شديد، بأنه تحصين صغار السن في المجتمعات الغربية من الانخراط في الإرهاب. أما وسيلة هذا التحصين، حسبما ورد في حديث أوباما، فهي المجتمعات المحلية والأسر والجيران ورجال الدين، إذ يرى أوباما أن لهم دوراً حيوياً في هذا الجهد.
ولوحظ في مؤتمر أوباما وكاميرون الصحافي ورود مصطلحي "التطرف" أو "التطرف العنيف" على لسان الزعيمين الأميركي والبريطاني ثلاث مرات فقط، في حين تكررت كلمة الإرهاب أو الإرهابيين أكثر من عشر مرات خلال أقل من دقيقتين في مقطع واحد فقط من حديث أوباما، الأمر الذي يدل إما على التخبط في تحديد المصطلحات، أو أن هناك استراتيجيتين لا استراتيجية واحدة في ذهن أوباما: الاستراتيجية الأولى علنية لمكافحة التطرف المسبب للإرهاب، والثانية سرّية أمنية لمكافحة الإرهاب ذاته.
وكانت إدارة أوباما في بداية فترته الرئاسية الأولى قد وزعت تعميماً على المسؤولين الحكوميين والمتحدثين الرسميين بتجنب استخدام المصطلح المفضل لدى إدارة سلفه، جورج بوش الابن، "الحرب على الإرهاب"، والاستعاضة عن ذلك بمصطلح "التطرف العنيف" أو الحرب على تنظيم "القاعدة"، لكن الإعلام الأميركي غير الخاضع لسيطرة أوباما لم يُمكّن الإدارة من تغيير المصطلح القائم، ولم تنجح المصطلحات البديلة إلا في ترسيخ استراتيجية التخبط والتناقض.
وفي كل الأحوال، فإن قاسماً مشتركاً يجمع بين الاستراتيجيتين الخاصتين بمكافحة التطرف ومكافحة الإرهاب على حد سواء. هذا القاسم المشترك هو عقيدة أوباما اللامركزية القائمة على شركاء يؤدون المهام بالوكالة عن الحكومة المركزية، سواء على المستوى الخارجي أو على مستوى الداخل الأميركي، في حين تبقى حكومته الفدرالية المركزية ممسكة بمقود التحكم والسيطرة وتخصيص الموازنات وتوزيع الهبات والمكافآت.
وحسبما علمت "العربي الجديد" في سبتمبر/أيلول الماضي، فقد كان البيت الأبيض يعتزم استضافة مؤتمر لمكافحة التطرف في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2014 بهدف تعزيز دور المجتمعات المحلية في الولايات المتحدة وتمكينها من مكافحة التطرف، غير أن الحديث عن المؤتمر توقّف فجأة، ورفض المكتب الصحافي في البيت الأبيض تبرير تأجيله أو الإقرار رسمياً بإلغائه.
تأثير هجمات باريس
بعد هجمات باريس الأخيرة، عاد البيت الأبيض مدفوعاً على ما يبدو بزخم الحدث، للحديث مرة أخرى عن مؤتمر لمكافحة التطرف العنيف، حدّد له موعداً جديداً هو الثامن عشر من فبراير/شباط المقبل، وبدأ بالتواصل مع المراسلين الصحافيين في واشنطن لتعميم الخبر، وبقيادات المجتمع المحلي في مدن أميركية للتشاور حول متطلبات عقده، بعد أن تغيرت التسمية من مؤتمر محلي إلى قمة عالمية.
وقال أوباما أثناء وجود كاميرون إلى جانبه في المؤتمر الصحافي إياه، في ختام قمة المشاورات الأميركية البريطانية حول مخاطر الإرهاب وتداعيات عملية باريس: "إنني أتطلع إلى الترحيب بأصدقائنا البريطانيين إلى قمتنا الشهر المقبل بشأن مجابهة التطرف العنيف"، مؤكداً في هذا الترحيب أن مؤتمر الشهر المقبل سيحضره ضيوف أجانب، ولم يعد مقتصراً على قيادات المجتمعات المحلية داخل الولايات المتحدة.
لكن استخدام أوباما لعبارة "أصدقائنا البريطانيين"، وليس "صديقي ديفيد كاميرون" اعتُبر مؤشراً على أن أوباما، صاحب الدعوة، لم يستقر رأيه بعد على تحديد مستويات حضور المشاركين فيه، وهل سيتحوّل المؤتمر بالفعل إلى قمة لزعماء الدول الحليفة للولايات المتحدة لتبنّي استراتيجية لمواجهة التطرف والإرهاب، أم أن الأمر سيقتصر على توجيه الدعوة لرؤساء الأجهزة المعنية بمجابهة العنف في دول محددة وتبادل الرأي حول القضايا ذات الاهتمام المشترك؟
وبالعودة إلى بيان البيت الأبيض عن قمة مجابهة التطرف العنيف في فبراير/شباط المقبل، فإن القمة سوف تستند في أعمالها على أسس الاستراتيجية التي نشرها البيت الأبيض في أغسطس/آب من عام 2011 بعنوان: "تمكين الشركاء المحليين من منع التطرف العنيف في الولايات المتحدة"، وهي أول استراتيجية قومية ترمي إلى منع التطرف العنيف على المستوى المحلي، حسب توصيف البيت الأبيض لها.
لكن استحضار هذه الاستراتيجية المفاجئ من الأدراج وتحويلها إلى مرجع أساسي لمؤتمر عالمي يستضيفه البيت الأبيض في 2015 بعد حوالى أربعة أعوام من إعداد الاستراتيجية المشار إليها، يتناقض مع الطابع الدولي للمؤتمر، بل ويتناقض كذلك مع ما يردده أوباما نفسه عن "الحاجة إلى استراتيجية جديدة تعكس حقيقة أن التهديد الرئيسي اليوم لم يعد يأتي من القيادة المركزية لتنظيم القاعدة، بل من جماعات وأفراد يؤمنون بفكر التنظيم من أبناء البلدان المستهدفة".
ونتيجة لهذه الحقيقة، فإن احتمال وقوع هجمات واسعة النطاق على غرار هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول لم يعد وارداً، لكن مستويات الخطر ارتفعت على الأميركيين في الخارج وعلى أماكن التسوّق والأهداف التي لا يمكن الدفاع عنها إلا في إطار ضيق، سواء في أوروبا أو أميركا.
تفادي مجابهة الإسلام
أهم ما في استراتيجية مجابهة التطرف التي اطلعت عليها "العربي الجديد"، هو بند ينصح بتفادي مجابهة الإسلام، وتحري الوضوح في التفريق بين الحرب على التطرف والحرب على الدين الإسلامي، لسحب عامل القوة من التنظيمات الإرهابية الإسلامية التي تتمترس خلف الإسلام وتعمل باسم الإسلام.
ومن المتوقع أن يحاول مؤتمر مجابهة التطرف الشهر المقبل، تطبيق أحد بنود الاستراتيجية المشار إليها، وهو مهاجمة الدعاية التابعة للمتطرفين وتفنيد حججهم، من خلال عروض ومحاضرات وحلقات نقاش وتفاعلات أفراد في مجموعات صغيرة. وسيعمل المشاركون على كسر دوائر التطرف والعنف في داخل الولايات المتحدة وفي الخارج. بل إن البعض يقول إن الهدف الحقيقي من المؤتمر هو مجابهة الدعاية المتطرفة بدعاية مناقضة لها.
أما الآليات التنفيذية لاستراتيجية مكافحة التطرف الخارجي المصدر، خصوصاً محاولات القاعدة تجنيد مسلمين على الأراضي الأميركية، فقد أوكلت إدارة أوباما المهمة إلى المجتمع المحلي ورجال الدين.
ولكن الاستراتيجية وآلياتها تُوصف بأنها ركيكة وغامضة ومليئة بالكلمات الرنانة عديمة المعنى وغامضة الدلالة، ولن تفيد في مواجهة التحديات والتهديدات الجديدة. وتعتمد الجهود الرامية إلى مكافحة التطرف بقوة وفقاً للاستراتيجية المشار إليها على المجتمعات المحلية التي لديها الوعي الجيد والمعلومات وتتسم بالمرونة.
وفي هذا السياق، اتخذت مدن بوسطن، ولوس أنجلوس، ومينيابوليس-سانت بول، مبادرات لوضع أطر عمل تعتمد على تكامل جهود طائفة من مقدمي الخدمات الاجتماعية، بمن فيهم الإداريون في مجال التعليم، والعاملون في مجال الصحة العقلية، وكبار رجال الدين والعلماء بالتضافر مع رجال الشرطة، لمجابهة التطرف العنيف، باعتبار أن ذلك جزء من المهمة الأكبر والأوسع نطاقًا المتمثلة في تحقيق سلامة المجتمع ومنع الجريمة.
كما تنصح الاستراتيجية عناصر مكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي) التابع للسلطة المركزية بالتنسيق مع السلطات المحلية في كل الولايات والمقاطعات والمدن الأميركية.
ولكن هذا التنسيق، حسبما ذكر مسؤول رفيع المستوى في شرطة مدينة ديربورن لـ"العربي الجديد"، يجعل السلطات المحلية عاجزة عن حماية المواطنين والمقيمين والزائرين من مرتكبي الجرائم العادية، لأن جنسياتهم أو أصولهم تتطلب إشراك مكتب التحقيقات الفدرالي، وقد لا يكون للجريمة المراد التحقيق فيها أي علاقة بالإرهاب أو بالعالم الخارجي أو بالتهديدات الجديدة.
سلاح أميركا ضد الإرهاب
أما ما يتعلق برؤية أوباما لمكافحة الإرهاب، فإن المبدأ المعلن فيها هو التمسّك بالحريات والقيم الإنسانية، كما قال أوباما خلال مؤتمره الصحافي مع كاميرون، مشيراً إلى أن سلاح أوروبا وأميركا الحاسم ضد الإرهاب هو "التمسك بالقيم والحريات، بما في ذلك التعددية والاحترام والتسامح والتنوع المجتمعي والديمقراطية".
ولكن هذا التمسك المثالي لم يوضع حرفياً موضع التطبيق منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.
وكان الرئيس أوباما قد دعا في منتصف العام الماضي في خطابه الشهير الذي ألقاه في أكاديمية ويست بوينت العسكرية، إلى وضع استراتيجية عسكرية تتناسب مع انتشار التهديدات الجديدة.
وتقوم استراتيجية أوباما في مكافحة الإرهاب الخارجي على الشراكات المحلية أيضاً، من دون إرسال قوات من الجيش ترهق الولايات المتحدة وتثقل كاهلها بالأعباء، أو تثير الاستياء في الداخل. وطلب أوباما من فريق الأمن القومي العام الماضي وضع خطة لشبكة من الشراكات تمتد من جنوب آسيا إلى منطقة الساحل، كما طلب من الكونغرس دعم صندوق الشراكة الجديدة لمكافحة الإرهاب، بما يصل إلى 5 مليارات دولار، لتمويل عمليات التدريب وبناء القدرات وتسهيل انخراط البلدان الشريكة في الخطوط الأمامية، وهو ما تحقق له في موازنة الدفاع لعام 2015.
لكن استراتيجية مكافحة الإرهاب هذه القائمة على الشراكات لم تلغِ العمليات الأميركية المباشرة في الخارج، من خلال عمليات إلقاء القبض والأسر ومحاولات إنقاذ الرهائن أو الضربات التي تقوم بها الطائرات من دون طيار.
وما لم يلتزم به أوباما في استراتيجيته هذه، هو عدم شن الضربات إلا عند وجود تهديد وشيك، حينما يكون هناك يقين بعدم وقوع إصابات بين المدنيين، وقد خلق بعدم الالتزام هذا أعداء كثرا وجدداً.
كما أن إدارة أوباما لم تلتزم بالشفافية بشأن عمليات مكافحة الإرهاب، والطريقة التي تنفذها بها وفقاً لما تعهدت به، كما لم يتمكن على الرغم من بلاغته من شرح هذه الإجراءات علناً وعلى الملأ، سواء ما يتعلق بضربات الطائرات من دون طيار أو عمليات تدريب الشركاء.
ونتيجة لذلك قوبلت إدارته بهجمات قوية من الأذرع الإعلامية للإرهابيين، كما قوبلت بشكوك دولية، وتسببت الاستراتيجية الأميركية القائمة على الشراكة في تآكل شرعية الشركاء وسقوط حكومات عديدة ضحية للاستراتيجيات الغامضة.