كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن اختلاف الأزمة الحالية، التي تضرب اقتصادات العالم وتعصف بأسعار الأسهم فيها، عن أزمة 2008 المالية، التي تسببت في إفلاس العديد من الشركات الكبرى والمؤسسات المالية، وألغت مفهوم أن بعض الكيانات قد تكون "أكبر من أن تفشل"، بزعم أن ما حدث في العام 2008 كان نتاج سنوات من الضعف المتأصل في العديد من قطاعات الاقتصاد الأميركي. لكن ما يحدث الآن بدأ بعيداً عن الاقتصاد، الأمر الذي يجعل المؤسسات المالية في وضع أفضل للتعامل مع الأزمة الحالية.
ونتج عن التصور السابق ركون البعض إلى أن البلاد لن تدخل هذه المرة في أزمة مالية ضخمة، تتعثر فيها البنوك وتتأزم سيولتها، على غرار ما حدث في 2008، ثقة منهم في ابتعاد المؤسسات المالية عن الأزمة الحالية.
وبدون الدخول في تفاصيل أوجه الاختلاف والتشابه بين الأزمتين، تشير ظروف كارثة انتشار فيروس كورونا المستجد، وما تزامن معها من حرب أسعار بقيادة السعودية في صناعة النفط، إلى وجود بعض روائح زمن الأزمة المالية العالمية 2008، خاصة مع ما نراه من تطورات متوقعة، تعكسها سوق الأسهم الأميركية بوضوح، وهي من كانت تتأهب لاستقبال أول ركود منذ أكثر من عشرة أعوام.
وتحت عنوان تسبب أزمة ظهور فيروس كورونا المستجد وانتشاره من الصين إلى أغلب دول العالم في اضطراب جانبي العرض والطلب في الاقتصاد العالمي، جاء التأثير على جانب العرض من خلال تعطل سلاسل الإمداد لمستلزمات الإنتاج والسلع الوسيطة للعديد من الشركات "الكبرى" الأميركية، بداية من شركات إنتاج الحواسب الآلية والهواتف الذكية، ومروراً بشركات صناعة السيارات، والملابس والأحذية، وتقريباً كل شيء يمكن شراؤه في الولايات المتحدة، بخلاف الطعام والشراب والنفط والغاز.
وكانت النتيجة التي بدأت تتحقق، ويتوقع استمرارها خلال الشهور القادمة على أقل تقدير، تراجع الإنتاج في تلك الشركات، وبالتالي تراجع المبيعات والأرباح والإنفاق الاستثماري فيها.
وترتب على ذلك تراجع الطلب على خدمات السفر والفنادق والمطاعم والمقاهي والانتقالات الداخلية والأماكن الترفيهية، وألغيت الحفلات وكافة أنواع الأنشطة الرياضية، بخلاف ما فقدته البلاد من سياح يحجزون الفنادق ويأكلون في المطاعم ويمشون في الأسواق!
التأثيرات السلبية على جانبي العرض والطلب تؤدي لا محالة إلى انصراف الشركات عن الإنفاق الاستثماري، بل وفي كثير من الأحيان تقليص أعمالها، والاستغناء عن العمالة فيها، وربما إفلاس العديد منها. ويؤدي ذلك في أغلب الأحيان إلى تراجع إنفاق المستهلكين، الذين يفتقد أغلبهم عنصر الأمان الوظيفي، خوفاً من التعرض لفقدان دخولهم لفترات لا يعلم أحد مداها.
ثم جاءت صدمة القرار السعودي بالدخول في حرب أسعار لينخفض سعر برميل خام برنت إلى 30 دولاراً، تمثل أقل من نصف السعر الذي كان يباع به مطلع العام الحالي، أي قبل شهرين اثنين فقط، وليتوقع البعض أن تستمر الحرب السعرية حتى يقل سعر البرميل عن العشرين دولاراً.
المحطات السابقة تعكس مراحل الدخول التدريجي في ركود، تتعرض فيه الشركات لخسائر كبيرة، وتتراجع بصورة واضحة مستويات السيولة المتاحة لها، فترتفع تكلفة حصولها على الاقتراض، إن وجدت من يقرضها! وليس أبلغ من حالة أميركان إيرلاينز التي أدركت كل ما ذكرناه مطلع الأسبوع الماضي، وقدرت حجم الضربة التي تعرضت وستتعرض لها إيراداتها خلال الشهور القادمة، فسارعت إلى سحب كامل التسهيل الممنوح لها من أحد البنوك، وحصلت على 13 مليار دولار دفعة واحدة، لمواجهة أعباء الفترة القادمة. ولنفس الغرض، اقترضت منافستها يونايتد ملياري دولار في نفس التوقيت تقريباً.
ومع تركيز الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إنقاذ الاقتصاد، باعتباره أهم ركائز حملة إعادة انتخابه، وضغطه على مؤسسات الإقراض لإتاحة الأموال للشركات المتعثرة، تجد البنوك نفسها مرة أخرى في قلب أزمة ضخمة، لم تتسبب فيها هذه المرة، وإن كان الجميع يعول عليها فيها للعب دور المنقذ.
وستجد البنوك نفسها مضطرة لإقراض شركات تعاني بصورة واضحة في الأسابيع الأخيرة من نقص الإيرادات، وتأزم السيولة، وتراجع الأرباح عند بعضها، وتحقيق خسائر عند البعض الآخر، ولا يظهر في الأفق أي علامات على تحسن وضعها في المدى القريب.
ستضطر البنوك إلى إقراض شركات تعطل الإنتاج فيها، وتراجع الطلب على منتجاتها وخدماتها بصورة واضحة، وخسر بعضها ما يقرب من 40% من قيمته السوقية خلال فترة لا تتجاوز الأسابيع الثلاثة، في وقت تشير كل الدلائل إلى دخول الاقتصاد الأميركي والعالمي فيه إلى الركود.