يوم بدأت التظاهرات "المطالبة بالديمقراطية" في هونغ كونغ، ضد الإملاءات الصينية، ترقّب البعض ردّ فعل بكين، وكيفية مواجهتها لـ"المشكلة" الناشئة على أطرافها. لم يتأخر الجواب كثيراً. فقد "ظهر" رجال ملثمون، اشتبكوا مع المتظاهرين. استغلّ الرجال "نقمة" أغنياء هونغ كونغ، الذين انقلب عدد لا بأس منهم على المتظاهرين، على قاعدة أن "الرأسمال جبان"، ويهرب من الاضطرابات، ويحتاج إلى الاستقرار المالي والمعنوي، بغضّ النظر عن أحقية مطلق قضية أو عدم أحقيتها.
في شوارع الإقليم، الذي ثار إلى حين، حضر رجال المافيا الصينية. بعضهم من هونغ كونغ، وبعضهم من مقاطعات أخرى من الصين. تعمل لغاية واحدة في الفترة الأخيرة: مواكبة أعمال الحكومة المركزية في بكين. عملت المافيا في أنحاء عدة، ممّا تعتبره الصين "مناطقها الخاصة". المافيا كانت موجودة لتصفية كثر، من أويغور مقاطعة شينجيانغ وبوذيي التيبت وصناعيي شنغهاي. لكن، وللصدف، فإن هونغ كونغ، تُعتبر معقلاً رئيسياً للمافيا الصينية، علماً أن بدايات المافيا تعود إلى العام 1644، بعد هروب خمسة من "رهبان الشاولين" (فرقة من مقاتلي الفنون القتالية) من حكام مملكة تشينغ، بعد معركة شنغهاي، وأوجدوا مجتمعاً سرياً، هو الأول من نوعه في تاريخ الصين.
تطوّر المجتمع السرّي إلى مجتمعات سريّة، لم تقتصر على الروابط العائلية فحسب بل على شبكة واسعة من علاقات الأقارب والزملاء والأصدقاء وغيرهم. على أن النقلة النوعية للمجتمعات السريّة كانت في القرن الـ19، وفي هونغ كونغ، حين بدأت المافيا الصينية، ابنة المجتمعات السرية، تتخذ أشكالاً أقرب إلى المافيا الايطالية، من ناحية تهريب أشخاص إلى العالم الجديد (الولايات المتحدة)، أو المخدرات والدعارة والامساك بالخطوط المالية الرئيسية (المرافئ والمناطق الصناعية). تطوّر عمل المافيا في هونغ كونغ، واصطدمت مع البريطانيين، مستعمري الاقليم سابقاً، كثيراً. وألّفوا "المجتمع السفلي"، الذي خشيت منه لندن. غير أنه ومع اقتراب موعد تسليم هونغ كونغ ألى الصين في 1997، خفتت أعمال المافيا، وانصرفت إلى الاعداد للمرحلة المقبلة.
تجلّت "المرحلة المقبلة" بسيطرة المافيا الصينية بالكامل، على أسواق "البضائع المقلّدة"، وعلى عمال المرفأ والطبقة المتوسطة. كما نجحت المافيا في محاصرة حكام هونغ كونغ، ليكونوا بمثابة ذراع الصين الفعلية، لا شرطة هونغ كونغ، في الاقليم. يطوّقون الحاكم بالقوة، ليخرج منه الفعل السياسي الموافق لسياسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني.
مع انطلاق التظاهرات في مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، واشتدادها فعلياً في أواخره، تركت بكين الأمور على حالها، إلى أن ضربت ضربتها عبر المافيا، التي شتتت متاريس متظاهرين "احتلوا وسط هونغ كونغ"، تحت عيني الشرطة، التي لم تصدّها ولم تحمِ المتظاهرين، بل عمدت إلى إزالة مخلّفات الصدامات.
تعلم المافيا الصينية، أن مجرّد نيل هونغ كونغ "الاستقلالية الكاملة" في القرارات السياسية، سيجرّ حكماً "استقلالية" مماثلة في عالم المال والأسواق، ما يعني انتهاء زمن "البضائع المقلّدة"، وكسر شوكة عمال المرفأ والشركات التي يهيمن عليها رجال المافيا. وردّ الفعل، الذي من الطبيعي أن يكون منسقاً مع بكين، يأتي في سياق الاحتفاظ بـ"مورد رزق" ضروري، كي لا ينتقل كل رجال المافيا إلى ماكاو (جزيرة تابعة للصين، استعمرتها البرتغال سابقاً)، وتنشب بينهم صراعات دموية، تقتل المافيا وتفسح المجال أمام عصابات أخرى، لأن الأرض صغيرة والقيادات كثيرة.
ومن المتوقع، أن تزداد عملية ضرب المتظاهرين، وسط صمت عالمي، وغضّ نظر رسمي وأمني. وسيؤدي الأمر إلى تكريس قوة الصين وقمعها أي حراك مستقبلي حتى. وسبق أن وجّهت بكين رسالة علنية، لكن رجال المافيا تلقفوها بذكاء "لا نريد انتقال هونغ كونغ إلى شنغهاي". أي أن الصين ترفض مبدأ "سقوط هونغ كونغ" وخروج المافيا الصينية منها إلى الداخل، عوضاً عن ماكاو مثلاً. ما يعني أن بكين منحت "الضوء الأخضر" للمافيا الصينية، لفعل أي شيء للبقاء "على قيد الحياة" في هونغ كونغ.
ومع أن المافيا الصينية، المعروفة بـ"ترياد"، تعمل في أنحاء عدة من العالم، وعقدت تحالفات "عالمية" مع المافيا الايطالية في الولايات المتحدة، لتقسيم مناطق النفوذ بين الفريقين، غير أنه لا يُمكنها البقاء خارج هونغ كونغ، وسيكون ذلك، كمن يُخرج الايطاليين من لاس فيغاس، ليعودوا إلى نيويورك ويفنوا بعضهم البعض. كما أن "الكرامة" الصينية على المحكّ، وستكون "إهانة" لـ"ترياد" إن تخلّوا عن معقلهم التاريخي في هونغ كونغ، بسبب بضعة "صبية صغار". والنتيجة حتى الآن: المافيا الصينية 1، "ثورة المظلات" 0.