المتشابهات بين لبنان والعراق
الأنظمة السياسية التي حكمت العالم خلال القرن العشرين كانت تتحرك من حيث الوصف النوعي بين نظامين أساسيين (الديمقراطية والديكتاتورية) بجميع مراجعها الفكرية، والحكم أو الفيصل بينهما هو توفر الحريات العامة والخاصة، وكلما كان منسوب الحرية أكبر، كلما كان النظام أقرب إلى الديمقراطية.
وليس مهماً هيكلية النظام بين ملكية أو جمهورية أو برلمانية، لكن في الآونة الأخيرة، أي في نهايات القرن العشرين، والعقدين اللذين مضيا من القرن الواحد والعشرين، برز نوع آخر من الأنظمة، ليس نظاماً من الأنواع المعروفة على المستوى الدولي -أقصد من الناحية العملية وليس الترتيبات الإدارية-، يتعامل مع الحرية ليس وفق المبادئ الدولية المعروفة ولا وفق القوانين الدينية، بل وفق الأمزجة والهوى، أي من الصعب تصنيفها، الحكم فيها ليس للشعب ولا الحريات وفق القانون، بل الحكم فيه لطائفة، وليس بناء على حكم الحزب الواحد، بل حكم مبني على طائفة دينية مذهبية واحدة، وهي التي تتحكم في الأمور، وهي التي تشكل الدولة العميقة، وهي التي تحدد هوية الدولة وروح المجتمع، أما الآخرون من الصالحين حسب تفصال الطائفة فهم أسرى، لكنهم في مكاتب دائرية، وليس في الزنازين والمعتقلات، أما غير المرغوب فيه يكون مهاجراً أو محبوساً.
وليس كل أبناء الطائفة حاكمين، بل الموالون داخل الطائفة لأصحاب النفوذ فيها، وهنا تصغر الدائرة أكثر وتضيق على أبناء الشعب، وقد تحدث خصومات شديدة بين محاور الطائفة الحاكمة نتيجة الخلاف في وجهات النظر، أو على أسس أيديولوجية أوالنزاع حول الحريات.
يبقى السلاح خارج مؤسسات الدولة من أهم أوجه التشابه بين البلدين، وليست قوة السلاح فقط بل حكم السلاح، ومحاولة ضبط دماغ الحكومة والسيطرة بإحكام على جسم الإدارات للدولة
وليس كل منتمٍ مذهبي قابل بحكم طائفي خانق،بل الدولة القائمة على مبدأ المواطنة الكاملة من دون النظر إلى الانتماء الديني المذهبي والإثني.. العراق ولبنان يتصدران هذا النموذج من الحكم الهجين، الذي لا يمكن تصنيفه إلا على مبدأ الطائفية الدينية والسياسية، والاستناد في كل بلد على مبررات أو مقومات مختلفة، وقد تكون متناقضة بين البلدين لكن الغاية هي التي تخلق تلك المبررات، والرسم في النهاية يكون مطابقاً ومستنسخاً.
فالنظام في البلدين برلماني، ففي العراق مثلاً لن يأتي الحاكم حسب نتائج التصويت بل حسب عرف يقول أنه للشيعة لأنهم يشكلون الأغلبية العددية، حتى ولو كانت قائمة أخرى هي التي فازت وبحكم النظام البرلماني يجب أن تحكم.
لا يوجد في الدستور أن رئاسة الجمهورية للمكون الفلاني أو البرلمان والحكومة، لأن من المعيب إدراجه في الدستور، لكن العرف السياسي غير الدستوري يتحكم بأن المناصب الرئاسية الثلاثة مقسومة كيفما جاءت نتيجة الانتخابات النيابية.
في العراق رئاسة الجمهورية للكرد والحكومة للشيعة العرب ومجلس النواب للسنة العرب، وفي لبنان الجمهورية للمسيحيين والبرلمان للشيعة والحكومة للسنة، هذا التقسيم غير دستوري ولا مدني ولا برلماني ولا شيء من هذا القبيل، بل يتناقض إلى حد كبير مع الدستور والغاية من جعل الشعب مصدر السلطات، لو حدث هذا التقسيم مرة وفق التحالفات السياسية ممكن، أما أن يكون محسوماً قبل الانتخابات، فهو من مميزات الحكم في لبنان والعراق، ومن المتشابهات بينهما.
ومع وجود مؤسسات عسكرية نظامية، إلا أن البلدين فيهما مؤسسات عسكرية أقوى من الجيش النظامي، بقيادة غير حكومية، تتحدى الحكومة في سياساتها الداخلية والخارجية، لها ارتباطات خارجية حسب الانتماءالمذهبي، قرارات الحرب والسلم تؤخذ بمعزل عن مؤسسات الدولة الحاكمة.
لطالما كان التوافق بين طهران وواشنطن على بعض الملفات في العراق أو خارج العراق يثمر انخفاضاً في مدى استخدام السلاح خارج المؤسسة النظامية
ويبقى السلاح خارج مؤسسات الدولة من أهم أوجه التشابه بين البلدين، وليست قوة السلاح فقط بل حكم السلاح، ومحاولة ضبط دماغ الحكومة والسيطرة بإحكام على جسم الإدارات للدولة، والتحكم بملفات الدولة الصغيرة وأن يكون لهذا السلاح رأي في كل شيء، حتى في القضايا المتعلقة بالحياة الديموغرافية ملف النازحين وإهمال التهجير مثلاً، ونتائج الانتخابات ومنع والسماح لمن يصوت، بحيث أن السلاح له جناح سياسي، كلما لم يتمكن من تحقيقه يلوح باللجوء الى السلاح..
من قبل كانت القاعدة حجة حقيقية وبعدها داعش حجة حقيقية في تناغم وانسجام بين الشعب والحكومة، لكن بعد داعش اختلف الأمر، حيث برز مصطلح المقاومة الإسلامية إلى السطح، والمقصود به هو الوجود الأميركي على الأرض، وبما أن هذا الوجود هو باتفاق رسمي بين البلدين، فإذن على الحكومة إخراج هذه القوات والامتثال لقرار البرلمان، أما نزع هذا السلاح حتى لو كان برغبة الحكومة وضبطها برغبة حركة احتجاجية صاخبة، فممنوع الاقتراب منه، ومن يصر فهو من أبناء السفارة، أو عميل للصهيونية.. لماذا ؟ لأن إيران تريد ذلك، وهذه كلمة السرّ..
ولطالما كان التوافق بين طهران وواشنطن على بعض الملفات في العراق أو خارج العراق يثمر انخفاضاً في مدى استخدام السلاح خارج المؤسسة النظامية، والقضية ليست سراً، بل هي جلية، والتصريح بها ليس من المحرمات ولا مما يثلم.
هذا النوع من الحكم أنتج نظاماً فاسداً تسبب في تعفن مؤسسات الحكومة، ولا ضير في هدم البنية التحتية للبلد أو تحطيمها إن استوجب، إذا كان الهدم والتدمير في مصلحة السلطة ومكوناتها.. وما آهات المسحوقين في البلدين سوى الجبن والخذلان للروح الوطنية المقاومة، والدليل مرفأ بيروت وقطاع الطاقة في العراق.