لم يدرك "أ.س"، البالغ من العمر ثلاثين عامًا، أن حياته ستتحول إلى جحيم لا يطاق، عقب قراره القاتل باتخاذ الترويج للمخدرات، وإدمانها بعد ذلك؛ الأمر الذي حوّل، كما يشرح لـ"جيل"، حياته في منزله إلى كهف مسكون بالعنف والصراع والقلق، حتى وصلت الأمور به لضرب زوجته وابنته التي لم يتجاوز عمرها أربع سنوات فقط.
رغم الجحيم الذي زرعه هذا الشاب في منزله، بتعاطيه الهيروين، وترويجه له في مرحلة لاحقة، إلا أن ذلك كله لم يمنعه من الاستمرار في هذا الطريق، حتى دنت منه لحظات الموت المرعبة، يصف الشاب، وكادت أن تختطفه، لتتركه وتحيط بصديق له، كانا يتعاطيان المخدرات، ليسقط مغمى عليه، بعد أن اكتنف السواد وجهه، وانفجر فمه بالزبد، ليفارق الحياة، بعد تعاطيه جرعة زائدة.
هذه الحادثة، هي من بين مئات القصص التي تروى همسًا، ولا يخرج منها لوسائل الإعلام في الأردن سوى النزر اليسير جدًا، لأسر تنهار بشكل مأساوي كل عام، نتيجة انتشار المخدرات وتعاطيها وترويجها في الأحياء والمدن وحتى الجامعات والمدارس، فضلًا عن أولئك الشباب الذين يموتون، وتتحول ذكراهم، إلى شواهد قبور صامتة مرعبة.
المكافحة: الأرقام ضمن "المعقول!"
تقلل مديرية مكافحة المخدرات الأردنية، ومن خلال البيانات التي تصدرها، أو على لسان مسؤوليها، من نسبة تعاطي وترويج المخدرات، على الرغم من هول الأرقام التي تعلنها، في ما يتعلق بعمليات مصادرة المخدرات، بكافة أنواعها، تحديدًا الحبوب المخدرة.
وفق الدراسات العالمية العلمية المعتمدة، ما زال الأردن دولة عبور للمخدرات، ونسبة المتعاطين لا تتجاوز الـواحد بالمئة من عدد السكان؛ وهو ما تؤكده تقارير الأمم المتحدة، وفق ما أعلنه مؤخرًا مدير إدارة مكافحة المخدرات، العميد أنور الطراونة.
تكشف أرقام، حصل عليها موقع "جيل"، أن عدد القضايا المضبوطة والتي تم تحويلها إلى محكمة أمن الدولة الأردنية، منذ بداية العام الجاري، حتى نهاية شهر تشرين الأول بلغت أكثر من 10 آلاف و216 قضية، منها 1490 قضية اتجار بالمواد المخدرة.
أما عن عدد الأشخاص الذين تم ضبطهم منذ بداية العام الجاري، فقد بلغ قرابة 16 ألف شخص، من ضمنهم 2800 بتهمة اتجار، وأكثر من 12 ألف شخص بتهمة تعاطي مادة مخدرة.
الأردن معبر.. وسوق للمخدرات
تدلل هذه الأرقام، وفق الخبير في الشؤون الأمنية والاستراتيجية قاصد محمود، على أن الأردن يشهد عمليات لشبكات التهريب العالمية، وبالتالي؛ فالأردن أحد أبرز الدول في العالم، التي تواجه أخطار هذه التجارة.
ويتم حاليًا استهداف الأردن من قبل تجار الموت، ليس لكونه سوقًا جاذبة ومجدية، بل لأنه بوابة رئيسة لأسواق غنية، تدر الملايين على المهربين، وفق ما يؤكده قاصد لـ"جيل".
لا شك أن أرقامًا كهذه تبعث على القلق الشديد، وتعطي الدليل على أن الأردن صار سوقًا وليس مجرد معبر للمخدرات، بحسب وصف الخبير العسكري اللواء المتقاعد قاسم محمد صالح.
وهذا ليس بالأمر المستغرب؛ يوضح صالح في حديثه لـ"جيل"، فمع الانتعاش الظاهر في تجارة المخدرات نتيجة حالة عدم الاستقرار في دول مجاورة، لا بد أن تتسرب كميات من المخدرات للسوق الأردنية.
ولادة مجتمع "المخدرات"
لم تعد تلك الروايات المتواترة لشهود عيان، حول قصص انتشار المخدرات بشكل شبه علني في أكثر من مدينة وجامعة، تخفى على أي متابع في الشأن الأردني، ومدى اتساع بقعتها، خصوصًا تلك القاتلة منها.
الطالبة الجامعية "ز. ص" تروي لـ"جيل"، بأن أكثر من 23 من زميلاتها في نفس التخصص والسنة الدراسية، يتعاطين حبوبًا مخدرة أو حبوب هلوسة، حيث يتم ذلك وسط أجواء من الصخب الموسيقي والهستيري.
توضح الطالبة، أنها أدمنت على هذه الحبوب، بعد أن وقعت في شرك إحدى زميلاتها، التي قدمت لها حبوبًا مدعية أنها طبية لألم الرأس، لتدخل بعد فترة وجيزة دائرة المتعاطين في الكلية.
الشاب "أ. س"، الذي مارس الترويج والتجارة للمخدرات لمدة تزيد عن أربع سنوات، أكد في شهادته لـ"جيل"، أن طلبة الجامعات من الجنسين، إضافة لتلاميذ المدارس الثانوية، كانوا يشكّلون ثلث قاعدة الزبائن، التي قدرها بالمئات، كانوا يترددون عليه لشراء حبوب هلوسة أو هيروين أو ماريوانا.
ولا يتوقف الأمر عند الإدمان، وإنما ينحدر بوتيرة سريعة كثير من هؤلاء الشباب والشابات لمزاولة عملية الترويج، بغية تحقيق مكاسب، تمكنهم بعد ذلك من الحصول على جرعاتهم ممن يطلق عليهم "تجار الجملة"، وفق أحد التجار "ش. م" الذي تمكن "جيل" من الوصول إليهم.
يضيف هذا التاجر، المقيم في مدينة سحاب (جنوب شرق العاصمة)، أن غالبية زبائنه هم من الشباب الجامعيين، سواء كانوا فقراء او أغنياء، مؤكدًا أنه لجأ في الآونة الأخيرة، لتجنيد الفتيات الجامعيات في ترويج المخدرات، التي بإمكانها إيصال المادة المخدرة إلى نقطة الاستهلاك مقابل زيادة في السعر أو نقص في الكمية.
يتولى عملية التوصيل المدمنون أنفسهم الذين يلجؤون إلى تأمين حاجتهم بالعمل كوسطاء، يجلبون الهيروين مثلًا، من المناطق الحدودية لبيعه في المدن، بحسب التاجر.
حدود رخوة
لن يتم بالتأكيد توزيع مثل هذه المواد المخدرة، إلى داخل المناطق السكنية، إلا بعد عبورها من منفذين رئيسيين، وهما: ميناء العقبة، الذي يعتبر نقطة العبور الرئيسية للعقاقير القادمة تحديدا من مصر إلى الأردن، فيما تعتبر الحدود والمناطق الرخوة مع الجارة المضطربة سورية، المنفذ الرئيسي الثاني، والمفضل في كثير من الأحيان بالنسبة لتجار المخدرات، وفق مصدر مسؤول في إدارة مكافحة المخدرات، فضل عدم ذكر اسمه لـ "جيل".
من جانبه، أكد التاجر "ش. م" أن معظم الكميات من المخدرات تأتي عبر سورية، ثم تدخل الأردن، وبعد ذلك يتم تهريبها لدول الجوار، محددًا، "إسرائيل" ودول الخليج؛ فيما تباع كميات وصفها بالكبيرة داخل المدن والأحياء الأردنية.
أنواع المخدرات التي يتعاطاها الشباب
تجدر الإشارة إلى أن مادة الهيروين تعد المادة المخدرة الأبرز التي يتعاطاها الشباب في الأردن، بينما تأتي مادة الحشيش في المرتبة الثانية، علما أنها اقل سعرًا وأكثر انتشارًا في الأحياء الفقيرة، إضافة للحبوب المخدرة ومادة الكوكايين وما تسمى "المذيبات الطيارة"، فضلًا عن "الجوكر"، الذي غالبا ما يصنع محليًا، ويبدو أنه من المواد الأكثر رواجًا الآن.