تروج تعابير فضفاضة عن واقع السينما في العراق، كتعبير السينما العراقية، الذي يبدو مخاتلًا ومجافيًا للواقع، فتكريس السينمائيين العراقيين حياتهم لإنجاز أفلام، لا يعني بوجود صناعة سينمائية عراقية، ويظهر أن الأوهام لا تداني، كما يظهر في هذا الحوار، المخرج العراقي عدي رشيد المولود في بغداد : "لا يمكننا القول بوجود سينما عراقية، بل أفلام عراقية. إذ لم تكن في العراق مؤسسات لإنتاج سينما عراقية.. ثمة محاولات لصنع سينما عراقية، لكنها لم تنجح حتى الآن. إحداها معهد السينما. بيد أن صناعة السينما مختلفة، فهي تعني وجود مجتمع متفاعل مع هذه الفكرة وهو ما لا ينطبق على العراق في ما يخص السينما، خلافًا للفنون الأخرى كالرسم والشعر والمسرح ربما". لم ينهِ عدي رشيد تعليمه في معهد كلية الفنون، بيد أنه تعلّم "الحرفة السينمائية" إن جاز التعبير عبر الممارسة والعمل، ولعلّ ظروف العراق غير الخافية أثّرت في ذلك، فالالتحاق بمجالات مختلفة من أجل التعلّم ومن ثم تركها نبع لديه كما يقول "من شعوري بالأمور وسيرورتها في البلاد، وإحساس كامل باللا جدوى. كانت طفولتي ومراهقتي في ثمانينيات القرن المنصرم، ومرحلة عبث مطلق غير منته: الحرب مع إيران، التوابيت القادمة من الجبهة بلا انقطاع. وبعد احتلال الكويت، تمّ سحق الصورة الموجودة للعراقي؛ صورتنا عن أنفسنا وصورة الآخرين عنا. ثم بدأت تظهر آثار الحصار على المجتمع العراقي، كانت قاسية جداً. هذه هي الفترة التي تشكّلت فيها هوّيتي. كان الأمل غائبًا، أمّا الشعور باللا جدوي فقد كان المسيطر. رغم ذلك، توّلد لدي أمل بإنجاز فيلم. عندها قرّرت ألاّ أهاجر، رفضت الفكرة. هكذا بدأت فيلمي الأوّل مباشرةً بعد سقوط صدّام".
اختار رشيد لفيلمه الأوّل عنوانًا معبّرًا: "غير صالح"، إذ هو يبطن إلى حدّ ما ظروف إنجاز الفيلم، ويشير في الوقت ذاته إلى حال الخراب التي كانت عليها بغداد عشية نيسان 2003 وصباحه أيضًا. يغيب السيناريو عن الفيلم بسبب ظروف إنجازه وملابساتها التي يعرفها عدي جيدًا: "علينا العودة إلى الوراء لمعرفة كيف صُنع الفيلم مباشرة بعد احتلال بغداد. في التسعينيات كان لدي، أنا ومجموعة من الأصدقاء، حلم بصناعة فيلم على شريط 35 ملم. وكنت أعمل في معهد الفنون الجميلة، رغم توقفي عن الدراسة. عرفت بوجود مادة خام وأشرطة في مخزن دار السينما والمسرح، لكنها غير صالحة للتصوير والاستعمال، أي أن ألوانها منتهية الصلاحية. استخدمت هذه المواد رغم ذلك، في تصوير فيلم "نبض المدينة"، قبل الاجتياح الأميركي. وعند القصف احترق ما صورته مع أصدقائي، واحترقت مواد التصوير الخام، ونُهب بعضها الآخر. سرقوها لبيعها كـ "خردات فضة". فلملمت ما احترق أنا وأصدقائي، واشترينا ما سُرق منها وما نُهب". المواد التالفة والخام القديمة، هي ما قدح شرارة الفيلم الأولى، فقد طرح عدي رشيد الفكرة على مسؤول التصوير زياد تركي :"قال لي زياد، في هذه الحال سيكون الفيلم من دون ألوان، فأجبته وأين ترى الألوان في هذه المدينة، لنصنع فيلمًا يظهرها؟، هكذا غدا الشريط التالف واستعماله في التصوير، رمزًا للحال التي وصل إليها العراق. صحيح لم أكتب سيناريو، بل ملاحظات وأفكار رفقة الشاعر فارس حرام ومدير التصوير زياد تركي، وحيدر حلو مساعد الإخراج وسمير قحطان الممثل الرئيس في الفيلم. وكنّا نستنطق المشهد من أحاسيسنا. لم نعمل بشكل تقليدي، واستغرق تصوير الفيلم اثنين وثلاثين يومًا امتدّت على فترة سبعة شهور. قصّة الفيلم نمت وتطوّرت مع التصوير والمونتاج. هو فيلم مليء بأحاسيس ذاتية، وفيه أيضًا ما يشبه النبوءة لما سيصيب العراق بعد عام 2003، للأسف صحّت النبوءة. وأفكر أن عدم صلاحية الشريط السينمائي يشبه عدم صلاحية الحياة التي عشناها".
هذه الظروف الاستثنائية التي أُنجز "غير صالح" في ظلّها، تختلف عن ظروف إنجاز فيلم عدي رشيد الثاني؛ "كرنتينا" الذي يتناول موضوع "القتل المأجور"، ذاك الذي شاع في العراق وبلغ ذروته عام 2006 عند انتشار النزاعات الطائفية، العنوان أيضًا لافت وحاملٌ للمجاز، فأفصح عدي عن ذلك: "كرنتينا مصطلح عتيق، يعني المكان الذي ظنّ بعض الناس أنه يحمي المرضى النفسيين الذين لا أمل بشفائهم. لكنه كان أقرب إلى السجن، إذ بدا نزلاؤه وكأنهم ارتكبوا جرماً لا ذنب لهم فيه". يوضّح رشيد موضوع الفيلم: "لم يعرف العراق ظاهرة القتل المأجور، حتّى تحت حكم نظام البعث والبلاهة التي حكمنا بها والسطوة الصدّامية التي عشنا تحتها. بدأت أنسج الحكاية، المبنية على شخصية حقيقية. ثم تطورت كتابة السيناريو، فذهب باتجاه وضع المرأة ودورها في المجتمع العراقي. لأنه أمر يقضّ مضجعي وأراه مرتبطًا بالسطوة الأبوية والشوفينية في مجتمعاتنا. الفيلم يتناول أكثر من حكاية ولكنه يربط بينها".
ربما تصلح ظروف إنجاز الفيلمين، إلى التطرّق إلى خلفيات العمل السينمائي العراقي في ظلّ غياب "سينما عراقية"، بالمعنى الاصطلاحي وكذا الواقعي. لذا سألت المخرج، عن الأمر الذي يشغل بال أغلب السينمائيين العرب لا العراقيين وحدهم : التمويل. أجاب عدي رشيد: "اختلفت ظروف التمويل بين الفيلمين؛ "غير صالح" و"كرنتينا". فظروف إنجاز الأوّل، أدّت إلى تمويله على مرحلتين: الأولى مرحلة التصوير والتحضير، وكانت على نفقتنا نحن الذين اشتركنا بإنجاز الفيلم، بل إن بعضنا باع حاجيات خاصة من أجل التمويل. المرحلة الثانية، كانت بعد الانتهاء من تصويره، حيث حصلنا على تمويل للقيام بعملية المونتاج من شركة ألمانية، وبالطبع لم نجنِ أي ربح. أمّا فيلم "كرنتينا"، فبلغت تكلفة إنجازه حوالى 400 ألف دولار. ومولته جهات عدّة، من بينها وزارة الثقافة العراقية، ومهرجان أبو ظبي ومهرجان نوتردام ومهرجانات أخرى. التمويل كما لا يخفى مشكلة كبرى تواجه السينمائيين العرب، وبشكل خاصّ السينمائيين العراقيين. لأن العراق بلد غني، وكثير من شركات الانتاج لا تموّل أبناء البلدان الغنية، وحجّتهم في ذلك أن في العراق ثمة رأس مال وأغنياء يمكنهم تمويل الإنتاج. وأعكف الآن على إنجاز فيلم ثالث، ويحتاج لتمويله إلى أكثر من مليون دولار، حصلت على جزءٍ منها من منتجة فرنسية، وأبحث عن ممولين آخرين لأتمكّن من إنجازه، وأرغب بتصويره في العراق بالطبع، وفي بغداد تحديدًا، فهو أمرٌ مهمّ جدًا بالنسبة لي".
وهنا سألته عن هذا الفيلم، فتبيّن أنه مقتبس من رواية "يا مريم" للروائي العراقي سنان أنطون. وأردت معرفة السبب، فقال عدي: "بحسب رأيي، فإن رواية يا "مريم" تمثّل المدخل الأهم في السرد العربي المعاصر، في ما يخصّ مفهوم الهويّة وارتباطها بالرحيل، بقطع النظر عن هوية الراحل. إذ إن صراعات الشخصيات الرئيسة في الرواية، هي الصراعات التي عشتها بشكلٍ كاملٍ. لكنني، عند كتابة السيناريو، فقد كتبت لغتي، واستطعت إيجاد تلك المنطقة الرمادية بين السيناريو والرواية. إنها منطقة جديدة، وأجد في العلاقة بين الرواية والفيلم تحدياً كبيراً. الرواية كما تعلمين عن الأقليات والأغلبية في بلد هو العراق، بيد أن ذلك ينطبق بالطبع على دولٍ عربية أخرى، فنحن أبناء الأغلبية سواءٌ أكانت دينية أم مذهبية، نتعامل مع النسيج الاجتماعي والثقافي للبلد الذي نعيش فيه، من منظور الأغلبية، وكثيرًا ما نهمّش مسألة تقول إن "الأقليات" جزءٌ من ثقافتا وهويتنا. تتحدّث الرواية عن عائلة عراقية مسيحية، بيد أن كل ما يحصل لها يمكن عدّه رمزًا وجزءًا لكل ما يحدث في العراق. حيث يتم التعامل مع "الأقليات" كما لو أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، على الرغم من دورهم الرئيس في بناء ثقافة العراق وإرثه التاريخي. وإذ أفكّر ببغداد، أجد أن عدم قدرتي على العيش فيها مجدّدًا لا يعني البتة أن الحياة انتفت فيها، أو اختفت منها ولذا أرغب في تصوير الفيلم وعمله فيها، لأن الحياة تستمرّ". وإذ بدا كلام عدي رشيد عن بغداد مفاجئًا، كان لا بدّ من سؤاله مباشرة: وماذا لو تغيّر الوضع في العراق وفي بغداد مستقبلًا، ألن تعود لتعيش فيها؟ فأجاب رشيد: "مستحيل. سأذهب من أجل الزيارة فحسب، لكنني لن أعود للعيش فيها. فهنا في نيويورك حيث أقيم، حققّت لي هذه المدينة كلّ ما كنت أبحث عنه في بغداد؛ الحرية المطلقة سواء أكانت حرية إبداعية أو شخصية. أضحت حياتي الشخصية هنا، والأشخاص الذين أحبهم وجدتهم هنا. كذلك ثمة هذا التنوع الثقافي في الحيز المديني. لقد جرّبت الحياة في أوروبا ولم تعجبني كثيراً. في حين، توّفر لي نيويورك سهولة التوازن مع فكرة المواطنة. فهنا الجميع مهاجر، والجميع عابر سبيل. هي واحدة من أكثر مدن العالم حريةً، ولعلّها المركز الثقافي الأهم عالميًا كذلك. كما أن طبيعة التنوع الإثني والديني فيها، منسجمة تماماً مع رغبتي بالعيش ضمن هذا التنوع. أمّا بغداد، فهي الذاكرة. أحملها كمدينة في داخلي، هذه حقيقة مؤلمة. ستبقى بغداد هكذا بالنسبة لي".