من هيكل لباص مدمر يتخذ أحمد عبد الله العنزي (43 عاماً) منزلاً مؤقتاً له مع زوجته وثلاثة من أطفاله، بعدما عاد إلى مدينة الفلوجة مطلع العام الحالي ليجد منزله وقد سوي بالأرض تماماً. يقول إنه بانتظار إحدى المؤسسات الخيرية القطرية التي دخلت المدينة لمساعدة السكان على إعادة إعمار منازلهم، إذ إن الحكومة العراقية في بغداد أعلنت على لسان رئيسها حيدر العبادي، في أكثر من مناسبة، عجزها عن تعويض السكان المدمرة منازلهم أو إعمارها.
وهناك عشرات الآلاف من العراقيين الذين تشبه حالهم حال هذا الرجل في الفلوجة وفي الرمادي وهيت والرطبة والخالدية والكرمة وتكريت وأبو غريب والقيارة والبعاج والموصل وجرف الصخر ويثرب والرياض، وفي نحو 200 بلدة وناحية أخرى شمال وغرب ووسط العراق. غير أن مشكلة السكن والخدمات كالماء والكهرباء والاتصالات والبنى التحتية وانعدام المستشفيات والمدارس وحتى البطالة واستشراء الفقر والأمراض المعدية، لا تعتبر شيئاً مقابل الهاجس الأعظم للسكان وهو الأمن. ويعيش هؤلاء في ظل خوف دائم من الاعتقالات العشوائية، والتي يصفها كثير من السكان الذين تحدثوا إلى "العربي الجديد"، باعتبارها اعتقالات مزاجية تنفذها مليشيات "الحشد الشعبي" والجيش الحكومي.
وبحسب تقرير سري وشخصي يحمل رقم 32/1، موجه لمكتب رئيس الوزراء من جهاز الاستخبارات العراقية، واطلع عليه "العربي الجديد"، فإن أكثر من 12 ألف مواطن تم اعتقالهم في المناطق المحررة خلال ستة أشهر فقط من دون مذكرات اعتقال أو تهم قضائية. وتم إطلاق سراح كثير منهم بعد تلقيهم جرعات تعذيب كافية لأن تجعل بعضهم طريح الفراش، أو دفع ذووهم مبالغ مالية تصل إلى 30 ألف دولار، مقابل الإفراج عنهم.
ورفع اسم شخص من قائمة المطلوبين أو المشتبه بهم لقاء مبالغ مالية يدفعها السكان، بات رائجاً خلال الشهرين الماضيين. وبين حين وآخر، تجمع العشيرة أو أبناء الحي أو أصدقاء الشخص الضحية، مبلغاً مالياً لدفعه لضابط في الجيش أو قائد مليشيات "الحشد" لكي يرفع اسمه مما بات يعرف بـ"الحاسبة"، في إشارة إلى قائمة الأسماء التي توجد في حواجز التفتيش لدى الجيش والمليشيات على أجهزة الحواسيب المحمولة.
الهجمات والاعتداءات الإرهابية أيضاً لم تتوقف. ففي شهر يونيو/ حزيران الحالي، شهدت المدن المحررة 39 هجوماً إرهابياً راح ضحيتها نحو 200 قتيل وجريح، وفقاً لأحد ضباط الداخلية، العقيد ليث السعدي، والذي يؤكد لـ"العربي الجديد"، في حديث بمكتبه قرب بغداد، أن وضع المدن المحررة هش للغاية، لافتاً إلى أن أحد أسباب ذلك يتمثل في الفجوة بين السكان والأمن العراقي، معتبراً أن أخطاء ما قبل "داعش" بدأت تتكرر، إذ إن الظلم والتمييز الطائفي على أشده، وفق تعبيره. إلا أنه يؤكد أن عودة التجاوزات لا تندرج ضمن خطة ممنهجة، بل هي تصرفات يومية من ضباط وجنود وأفراد مليشيات "لم يجدوا من يردعهم" في إشارة إلى حكومة بغداد.
ويروي سكان المدن العراقية التي تحررت من قبضة تنظيم "داعش" انهم ما زالوا يعيشون وضعاً أمنياً غير مستقر. ويشيرون إلى أنه باستمرار تقع اشتباكات بين القوات الأمنية وعناصر التنظيم، في ظل وجود تفجيرات وعمليات قتل داخل تلك المدن. ويؤكدون أن "داعش" يمكن أن يعود ويسيطر مجدداً على أي منطقة، أو يفرض قوته حتى وإن كان لفترة قصيرة. ويشير بعضهم في هذ السياق، إلى وجود جيوب للتنظيم بالقرب من مناطقهم، بالإضافة إلى خلايا نائمة داخل المدن قد تنشط في أي وقت.
وفي تأكيد على هذه التوقعات والمخاوف التي يعبّر عنها الأهالي، يمكن التذكير بما حصل في قضاء الشرقاط التابع لمحافظة صلاح الدين، شمالي البلاد، والذي تحرر من سيطرة تنظيم "داعش" في يونيو/ حزيران 2016. اعتقد الناس هناك أن الهدوء سيعود. لكن القضاء شهد ولا يزال يشهد، بعد تحريره، معارك شرسة بين القوات الحكومية وقوة عشائرية محلية من جهة، ومسلحي "داعش" من جهة أخرى. فعناصر التنظيم ما زالوا يسيطرون على مناطق قريبة من القضاء الذي عاد أغلب سكانه من النزوح. ويقول المواطن هادي الربيعي من سكان القضاء، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن السكان هنا لن يسمحوا بعودة "داعش" مرة أخرى. ويضيف "قوتنا العشائرية من أبناء الشرقاط تقاتل إلى جانب الجيش العراقي، لقد سقط عدد من الشهداء ولا تزال المدينة تدفع ثمن رفضها وجود داعش"، وفق تعبيره. وما يتأسف له الربيعي هو أن اتهامات تطاول أبناء القضاء بالوقوف إلى جانب "داعش"، مشيراً إلى أن تلك الاتهامات تصدر عن رجال الأمن، وتحمل في طياتها ظلماً كبيراً بحق الأهالي. ويبيّن في المقابل، أن "عودة الناس لمدينتهم تؤكد أنهم ضد الإرهاب والإرهابيين".
ونجح السكان من خلال مبادرة التكافل التي أطلقوها في ما بينهم بإعادة عمل الأسواق، وبمساعدة الأسر المتضررة وأخرى غير قادرة على مجابهة الظروف المعيشية. لكنهم يشكون من الهجمات التي باتت تقع بشكل أسبوعي بواقع هجوم أو اثنين، إذ تستهدف التفجيرات تجمعات بشرية لهم فضلاً عن الاعتقالات والاختفاء القسري. ويقول المواطن أحمد العبيدي، من سكان الرمادي، إن المناسبات العامة تحظى بحماية من قبل قوات من الجيش أو "الحشد العشائري" وقوات من أهالي المدينة أو مسلحين عشائريين للحفاظ على أمن الناس الذين يحضرون بكثافة إلى تلك المناسبات، لا سيما مناسبات العزاء والزواج. ويضيف في حديث لـ"العربي الجديد" أنه "كان تفجير بيت عزاء قبل نحو ثلاثة أشهر حدثاً مفزعاً، لقد استهدف داعشي الرجال داخل بيت العزاء، بحزام ناسف، وقتل وأصاب العشرات، وكان داعشي آخر ينوي الدخول إلى عزاء النساء لكنه كُشف وقتل قبل أن ينفذ مهمته". ويبيّن العبيدي أن الوضع الأمني في الأنبار "لا يزال مقلقاً"، مشيراً إلى أن ذلك "يتسبب بحصول اعتقالات تطاول أبرياء ظلماً"، وفق وصفه.
القلق الذي يتحدث عنه العبيدي يستشعر به جميع سكان الأنبار، بحسب ما يوضح مواطنون تحدثوا لـ"العربي الجديد" وأشاروا إلى وجود سعي لإبقاء المدينة ضعيفة في كل المجالات، وجعل أهلها يشعرون دائماً بالخوف، بحسب الشيخ القبلي، فيصل الدليمي. ويقول الأخير إن عدداً من أقاربه الشباب معتقلون في سجون حكومية، بينهم أحد أبنائه. ويشير إلى أن "هناك من يعمل لأجل وسم الأنبار وسكانها بالإرهاب". ويتابع أنه يقصد بكلامه "المليشيات الطائفية وقادة في الأجهزة الأمنية يتبعون لأحزاب طائفية"، مبيناً أن "الاتهام الغريب وغير المعقول بأن السيارات المفخخة التي يجري تفجيرها في بغداد تأتي من محافظة الأنبار خير دليل على أن هناك سعياً لإبقاء المحافظة تحت ضغط الإجراءات الأمنية، وإيجاد ذرائع لعمليات اعتقالات بحق أبنائها"، بحسب قول الدليمي.
وكان النائب، حاكم الزاملي، قد صرّح بعد تفجير وقع في حي الكرادة ببغداد وتسبب بسقوط عشرات الضحايا بين قتلى وجرحى، أخيراً، بأن "السيارة المفخّخة التي انفجرت في الكرادة كانت آتية من مدينة القائم، وأن الدليل الذي ساعد الانتحاري الذي قاد مفخخة الكرادة هو مواطن نازح يسكن في بغداد حالياً". والقائم، أو حصيبة الغربية، مدينة ومركز قضاء في محافظة الأنبار تقع غرب العراق على بعد 480 كيلومتراً شمال غربي بغداد، على ضفاف نهر الفرات، ومحاذية للحدود العراقية السورية، ولا تزال تخضع لسيطرة تنظيم "داعش" منذ أكثر من عامين. وتتخلل المسافة بين القائم وبغداد نحو 30 نقطة تفتيش عسكرية، وهو ما أثار استغراب ناشطين، متسائلين عن كيفية مرور هذه السيارة المفخخة من جميع هذه النقاط الأمنية ووصولها العاصمة. كذلك أثار الاستغراب مقطع فيديو تناقله ناشطون، مطلع الشهر الحالي، يصوّر اعتقال قوة تابعة للأجهزة الأمنية، مواطناً من سكان الأنبار يدعى سعد حسين السلماني، أثناء مروره بسيارته من نقطة تفتيش (سيطرة الصقور) بين مدينة الفلوجة (غرب) والعاصمة بغداد. وحول عملية الاعتقال هذه، يعرب مركز حقوقي عراقي عن خشيته من صدور اعترافات بالإكراه من مواطنين يُعتقلون بـ"طريقة مريبة"، لتبرير التفجيرات.
ويصف "مركز بغداد لحقوق الإنسان"، في تقرير له صدر مطلع يونيو/ حزيران، الاعتقال بأنه جرى "بطريقة أثارت تساؤلات عديدة عن علاقة الاعتقال وتوقيته بتصريحات أدلى بها رئيس لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب العراقي، النائب حاكم الزاملي، قبل الاعتقال بـ24 ساعة". ويظهر الشريط المصوّر للاعتقال، والذي صوّره أفراد من الأجهزة الأمنية، لحظة اعتقال سعد حسين السلماني، وتفجير سيارته بدعوى أنها "سيارة مفخخة"، ويبيّن أن الكاميرا كانت بيد أحد العناصر الأمنيين، وأنها كانت موجهة صوب سيارة سعد مباشرةً، وأن أفراداً أمنيين أنزلوه من سيارته وهم يصرخون بأنها مفخّخة، وهو ينفي أن تكون سيارته مفخّخة، مستغرباً مما يجري. ويضيف المركز في تقريره أن "المثير للدهشة أن رجال الأمن أنزلوا سعد وصرخوا أن السيارة مفخخة قبل أن يقوموا بتفتيشها يدوياً، أو بأي من الأجهزة، ودون أن يفتحوا أبوابها أو صندوقها، كما هو واضح في شريط الفيديو، ثم اقتادوا سعد إلى الجهة التي يقف فيها الشخص الذي يحمل كاميرا التصوير".
الموصل حياة بدائية
ولا يبدو الوضع في الموصل أفضل حالاً من الناحية الأمنية. والمعاناة والمضايقات التي يتعرض لها أهلها تشير إلى أن الحكومة العراقية لم تضع حداً بعد للممارسات التي كانت سائدة قبل سيطرة "داعش" عام 2014. ويصف المواطن ثامر حسن، والذي عاد إلى السكن في مدينته الموصل، بعد تحرير الجانب الأيسر منها في يناير /كانون الثاني الماضي، حال سكان مدينته قائلاً "نعيش حياة بدائية". ويضيف حسن الذي فقد أمه واثنين من أولاده، في قصف لطائرات "التحالف الدولي" على المدينة، قبل تمكنه من الهرب والنجاة هو وزوجته وبناته الثلاث، أن "كل شيء هنا أصبح كئيباً". ويضيف أن "البيوت مهدمة والشوارع جرى جرفها، ونعيش بلا أدنى خدمات، فالمعارك قضت على كل شيء"، وفق تعبيره. كل ذلك أمر يسهل تحمله، يؤكد حسن لـ"العربي الجديد"، قبل أن يلفت إلى أن "استمرار التهديد الأمني على حياة أهل الموصل هو أمر لن نستطيع تحمله"، بحسب قوله. ويتابع "لا تزال تقع تفجيرات وتقتل الأبرياء، والكثير من عناصر القوات الحكومية يصفوننا بالإرهابيين والدواعش، وبعضهم يهدد بمحونا من على وجه الأرض، إنهم يسمعوننا باستمرار عبارات تظهر كرهاً شديداً لنا"، على حد تعبيره.
ويشار إلى أن القوات العراقية نجحت في السيطرة على غالبية مدينة الموصل. وشنت معركة تحرير الموصل من سيطرة "داعش" في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2016. وأعلن رئيس الوزراء حيدر العبادي، الخميس الماضي، أن أياماً قليلة تفصل العراق عن إعلان تحرير مدينة الموصل بالكامل من سيطرة تنظيم "داعش".