لم يكن الكثيرون في المغرب يعتقدون أن حادثة مقتل محسن فكري بائع السمك بإقليم الحسيمة، الواقع في منطقة الريف، طحناً داخل شاحنة لجمع القمامة يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي سوف تتسع تداعياتها والاحتجاجات المواكبة لها طيلة قرابة سبعة أشهر كاملة.
ومرت الاحتجاجات التي شهدتها ولا تزال تشهدها الحسيمة المغربية في ثلاث مراحل رئيسية؛ الأولى اتسمت في البداية، وخلال الأسابيع القليلة الأولى، بمطالب خاصة بمعاقبة المسؤولين عن فرم بائع السمك بآلة طحن الأزبال، إذ كان يحاول استرجاع بضاعته التي صادرتها السلطات المحلية من داخل الشاحنة.
والمرحلة الثانية من احتجاجات الريف عموماً، والحسيمة خصوصاً، تمثلت في مطالب اجتماعية أكبر من معرفة قاتلي فكري، سواء المباشرين أو غير المباشرين من مسؤولي الصيد بالمدينة، من قبيل مطلب التنمية والتشغيل ورفع "عسكرة الإقليم".
وأمّا المنعرج الثالث من احتجاجات الريف المغربي، فقد ظهر في الأيام الأخيرة من خلال تصريحات وشعارات بعض متزعمي الحراك بالمنطقة، من قبيل ناصر الزفزافي، والتي رآها البعض تتسم بنوع من العنف والمس برموز وثوابت البلاد.
لم يتأخر رد الحكومة كثيراً على هذه التصريحات المناوئة للنظام الحاكم، والدعوات الكثيفة من متزعمي الحراك بشن إضراب عام في الريف، حيث أصدرت بلاغاً رسمياً تتهمهم فيه بتلقي تمويلات من الخارج، وتحديداً من خصوم المملكة المطالبين بانفصال الصحراء عن السيادة المغربية.
غير أن صرامة الرد الحكومي أثارت مخاوف كثيرة وسط حقوقيين وسياسيين، من أن يكون البلاغ الحكومي تمهيداً لسلسة من الاعتقالات والتدخلات العنيفة في حق نشطاء التظاهرات الاحتجاجية بالحسيمة تحديداً.
ويبقى السؤال هنا، ما الذي أشعل غضب شباب ونشطاء الحسيمة، وجعلهم يحولون احتجاجات عفوية على مقتل بائع السمك إلى مطالب اجتماعية كبرى جعلت خيط التواصل بينهم وبين الدولة مفقوداً إلى حدود اليوم؟
وللإجابة عن هذا السؤال، لا بد أولاً من التعرف على المنطقة التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات وهي الحسيمة، إذ تعد من أهم مدن منطقة الريف بالمملكة، نالت شهرة تاريخية باعتبار أنها آوت المقاومة الريفية بقيادة الزعيم الراحل محمد عبد الكريم الخطابي، الملقب بأمير الريف، في وجه الاستعمار الإسباني، وحظيت بنوع من الاستقلال الذاتي خلال ولاية هذا القائد العسكري المحنك.
وعاشت الحسيمة طيلة تاريخها تهميشاً اقتصادياً لأسباب تاريخية تعود إلى فترة الخطابين، ولكن لدوافع سياسية بالأساس ترجع إلى مرحلة حكم الملك الراحل الحسن الثاني الذي كانت علاقته بمنطقة الريف متوترة إلى أبعد الحدود.
وشهدت الحسيمة ونواحيها الممتدة إلى بني بوعياش وإمزورن وغيرهما من المراكز الحضرية الصغيرة، انتفاضة شعبية ضد التهميش سنتي 1958 و1959، قابلتها السلطات الأمنية حينها بالقوة.
وفي سنة 1984، زمن الملك الراحل، عاود سكان الحسيمة الانتفاضة من جديد على السياسات المحلية المتبعة، والتي لم تفرز بحسبهم سوى التفقير والتهميش والحرمان الاجتماعي، وهي الانتفاضة التي قوبلت بتدخلات عنيفة للقوات الأمنية.
وبمجيء العاهل الحالي محمد السادس، وبخلاف والده الحسن الثاني، الذي لم يسبق له زيارة الحسيمة "عقاباً" لها، تعددت زيارات الملك إلى المنطقة، كما تم الإعلان عن مشروع "الحسيمة منارة المتوسط"، في محاولة لجبر الضرر الذي عانت منه المنطقة منذ سنوات طويلة.
ويروم مشروع الحسيمة منارة المتوسط، الذي أطلقه العاهل المغربي في أكتوبر/تشرين الأول 2015، والذي يمتد زمنياً بين 2015 و2019، تنمية الإقليم، وإحداث المستشفيات، وتهيئة منطقة صناعية، ومشاريع اجتماعية لفائدة الشباب والفئات الهشة.
غير أن المحتجين اليوم يقولون إنه لا أثر لهذا المشروع الملكي على أرض الواقع، حيث لا يزال التهميش يضرب أطنابه في الحسيمة، ولا تزال جحافل العاطلين تجوب الشوارع، كما أن حشد القوات الأمنية في المدينة يتزايد باستمرار.
من جهته، وعد رئيس الحكومة الجديدة سعد الدين العثماني، خلال لقائه بأحزاب الأغلبية الحكومية قبل أيام قليلة، بأن يتم تفعيل مشاريع الحسيمة منارة المتوسط لفائدة سكان المنطقة، لكنه حذّر مما سماها نعرات الانفصال التي يؤجّجها عدد من متزعمي الحراك.