المسجد الأول مرآة العرب
في بعض لحظات التاريخ، تتركز كرامة أمة في لحظةٍ أو في مكان. رقص هتلر مبتهجاً في باريس، بعد اجتياح القوات الألمانية خط ماجينو الدفاعي الفرنسي واحتلالها باريس. رقص هتلر على جرح فرنسا وكرامتها، شعر بأنه انتقم لكل الهزائم الألمانية على يد فرنسا. أما على الفرنسيين، فقد كان ذلك مشهداً مفزعاً ثقيلاً على الذاكرة. في الناحية الأخرى من الجبهة، أرسل هتلر قواته إلى ستالينغراد، جنوب روسيا، هادفاً، من الناحية المادية، إلى الاقتراب من حقول النفط، ومن الناحية المعنوية، إلى ضرب السوفييت في كرامتهم باحتلال المدينة التي كانت مسقط زعيمهم التاريخي ستالين. هاجم هتلر المدينة بـ300 ألف عسكري، ورفض كل نُصح بتأخير الهجوم إلى ما بعد الشتاء، وطوقه الروس، وهو داخلها، بمليون رجل.. تقول أرقام إن الذين عادوا إلى الديار من الغزاة هم ستة آلاف رجل فقط. في قتال كهذا، يقاتل الناس من أجل شيء، لا تمكن عقلنته أو تبريره برهانياً.
تبدو محاولات الاستهجان العقلانية لمثل هذه الأحداث في التاريخ محاولة لا عقلانية، لأنها تلغي حجم هذه الحركة الكبيرة والمتكررة والمستمرة، عند كل الأمم، وفي حقب زمنية مختلفة تركزت الكرامة في موقف. الدفاع عن الكرامة لا يحتاج إلى تبرير عقلاني، أو إلى أغلبية برلمانية تؤيده. الدفاع عن الكرامة هو الغاية والوسيلة في آنٍ. العقلانية تفقد عقلانيتها، حين تسعى إلى تفسير كل شيء ورسم خوارزمية رياضية، تُفسر نشوء هذه الظاهرة أو تلك.
عربياً، وفي كتابات عديدة ترتدي رداء العقلانية، يتساءل كتابها عن "العقلانية" في تحليل كل هذا الوجع من أجل 27 ألف كم مربع، هي مساحة فلسطين، بينما يمتد عالم العرب إلى 14 مليون كم مربع. هذا الخطاب يعرّف معنى "الوطن" و"الحق".. إنه يحول الوطن إلى عقار يمكن أن يتم تبادله، أو بيعه، والحق إلى مقدار الكسب من هذا التفاعل أو ذاك. كما أن هذا الخطاب، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، كان مقولة أساسية في خطاب مشروع "تهجير الفلسطينيين" الصهيوني الذي كان يرى أن لدى العرب مساحة أرض واسعة، تكفي للعرب الذين سيتم طردهم من فلسطين!
في الأسابيع الماضية، أخذ الاقتحام الصهيوني للمسجد الأقصى زخماً متزايداً، ليس مسبوقاً في مسيرة الوجع الفلسطيني والهوان العربي المتراكم. وعلى الرغم من أن عرباً كثيرين يعرفون قصيدة الشاعر العراقي، مظفر النواب، الشهيرة "القدس عروس عروبتكم"، إلا أن الخبر كان لملء الشاشة وأوراق الصحف. ليست هذه الاقتحامات حوادث اعتباطية، أو مجرد استفزاز للعرب، بل هي جزء من برنامج عملي مقرر سلفاً، يستهدف المسجد بشكل حقيقي. فهذه الاقتحامات متكررة، ويتم الدعوة إليها والتنسيق لها، كما أنها تتم بحماية الحكومة الإسرائيلية. المقدسيون المدافعون عن المسجد يدفعون، وحدهم، كلفة المواجهة مع المقتحمين وعسكرهم. ليس هذا فحسب، بل إن مسمى مكان المسجد لدى هذه الجماعات هو "جبل الهيكل"، وليس الأقصى أو القدس، وكأن المسجد يتم إعدامه في اللغة وفي الوعي.. ليتم إعدامه، لاحقاً، في الواقع.
جرت العادة على أن تتحول هذه الاقتحامات إلى مناسبات لندب الحال والغضب البياني على الأمة والحزن على مآل الأمور، يتراكم هذا لينشأ الزوج (الاعتداء على القدس/ رثاء حال الأمة). هذا التكرار لفعل الاقتحام الصهيوني، وندب الحال العربي، يجعلهما إحدى الظواهر اليومية، والظواهر اليومية لا تُثير الناس. قد تأتي لحظة يتم فيها تقسيم المسجد بين العرب واليهود، يكون حينها الشعور العام قد اعتاد كل هذا أو تهيأ له، أي صرخة استغاثة ستشعر أنها غريبة وستضيع.
تروي آثار دينية كثيرة الفضل العظيم للأقصى ولفلسطين، بل حتى لبلاد الشام. لكن، مع كل هذا تبدو مدن فلسطين والعواصم العربية هادئة. في مناسبات مصورة، تم امتهان القدس بالعسكر وبالمهرجانات وزيارات المشاهير.
إن عدم القدرة على فعل شيء حيال هذا كله هي حالة إعاقة. وتكون هناك حالة إعاقة، إذا توفر جسم (مادة)، لكنه من دون فعالية أو أثر، نحن نطلق وصف المعاقين على الذين فقدوا القدرة على الحركة أو الكلام أو الإبصار. كيف حدثت الإعاقة لأمة بهذا الحجم والاتساع؟ كيف حدثت الإعاقة حيال إحدى مقدساتها؟
استخدم مفكرون عرب كثيرون فلسطينَ مرآة للحياة العربية، أي أن فلسطين/ القضية هي التي تُضمر واقع العرب وتشرحه. بعبارة أخرى: سنعرف حال العرب حين نتعرف على حال فلسطين، وسنعرف حال فلسطين حين نتعرف على حال العرب. العرب وفلسطين مرآتان لبعضهما.
وفي واقع العرب، اليوم، لم تعد فلسطين ضمن أي برنامج عمل سياسي، بل إنه، في أقطار عربية، تتم ملاحقة الأنشطة والفعاليات الشعبية الخاصة بفلسطين ومحاصرتها. قد يقول بعضهم إن هذا يتم بسبب غياب الديمقراطية، فالعرب، كأمة، لا يملكون مؤسسات سياسية تمثلهم.. هذا صحيح، وهو يعيدنا، في الوقت نفسه، إلى ماهية هذه الذات التي تمتلك هذه المؤسسات، وتعمل من خلالها، أي إلى الأمة. الذات ذات الكرامة الجماعية التي لا يمر عليها اقتحام المسجد الأول كأي خبر يومي.