31 أكتوبر 2024
المشرق العربي وتحوّلات النظام العالمي
لا يصح احتساب ما يحصل في سورية والعراق مجرد حرب أهلية، على الرغم من انطوائه على الأعراض التي يتمظهر فيها هذا النمط من الصراعات، والأصح هو اندماج الصراع الأهلي في إطار صراعٍ أكبر، وتحوّله إلى واحدةٍ من تعقيدات هذه الحرب، بحيث يجري توظيف هذه الجزئية في التغطية على الصراع الأكبر في قمة الهرم الدولي على المواقع والمراتب ومناطق النفوذ، تلك القيم التي طالما كانت المحرّكات الأساسية للصراعات العالمية على مر التاريخ.
ما بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الروسي صراع على عدة مسارح دولية، من الشرق الأوسط إلى بحر البلطيق إلى التخوم الأوروبية، صراع الهدف منه تحريك المعادلات الإستراتيجية العالمية وتوجيهها لمصلحة أحد طرفي الصراع. والمشكلة أنّ هذا الصراع لا ينظر إليه بمناظير الحرب الباردة، التي طالما اعتمدها خبراء الإستراتيجيا في تفسير الصراع الحالي، ليس فقط لعدم امتلاكها آليات مواجهة، مثل التي جرى الاعتماد عليها في الماضي. ولكن، لأن أطراف الصراع لا تعتمد الإطار الزمني نفسه، المفتوح لتحقيق التآكل والانهيار على جبهة الخصم، بل على العكس، لا تحتمل طاقة الخصوم وقتاً طويلاً، وينعكس إدراك هذه الحقيقة على شكل نزق سياسي وتصاعد في حدة التوتر، ما تنتج عنه زيادة في منسوب الخطر.
لا تعكس الاختراقات الإستراتيجية الكبيرة التي حققتها روسيا في سورية ضعفاً أميركياً، بقدر ما يكشف عن لعبةٍ تشكّل أميركا طرفها الآخر، لا بد أنّ التقديرات الأميركية للنهوض الروسي الجديد قد أخذت، في الاعتبار، أنّ التشدّد في ضبط هذا النهوض إلى أبعد درجة، ستكون له تداعيات خطيرة، قد تصل إلى حد إشعال روسيا حرباً كونية، وذهابها إلى هدم المعبد على الجميع، وبالتالي، لا بد من البحث عن الخيارات الأقل ضرراً بأميركا. وبالنسبة لواشنطن، يصعب السماح لروسيا اللعب على مسارح معينة، مثل البلطيق وأوروبا، والأفضل توجيه الجهود والطاقات الروسية إلى أماكن أخرى، مثل الشرق الأوسط، والتي إن لم تستنفد طاقة روسيا، فإنها كفيلةٌ بإشغالها وقتاً طويلاً، كما أنّ موسكو ستشعر أنها حقّقت اختراقاً، ما يتوجب عليها الحفاظ عليه، وتشذيب سلوكها الدولي. وفي كل الحالات، إن لم تكن الخسارة الأميركية معدومة فهي محدودة، ذلك أن التحرك الروسي سيكون محدوداً ضمن الإطار السوري، بإعتبار أن العراق وإسرائيل وتركيا والأردن مصالح أميركية معروفة ومحدّدة، كما أن جغرافيتها تحاصر الوجود الروسي في البقعة الشرق أوسطية، على عكس المسارح الأخرى في البلطيق وأوروبا التي قد تتداعى بشكل أوتوماتيكي، حسب تطورات الصراع.
لكن هذا الوجود الروسي يستحضر إعادة تموضع أميركية في العراق، من أجل تعظيم القيمة
لكن، تبدو تداعيات ذلك النهوض الروسي، وتلك الإدارة الأميركية له، على المشرق العربي، أكثر من كارثية، ويمكن وصفها جذرية، لجهة إعادة تشكيل الجغرافيا والديمغرافيا، خصوصاً أن الطرفين، الأميركي والروسي، تغاضيا عن إيران، كل لأسبابه ودوافعه الخاصة التي تقوم بدور توظيب الأوضاع على الأرض، من دون أن تلتفت واشنطن وموسكو إلى حقيقة أن الحيز الذي تتباريان فيه هو، قبل أي اعتبار، وبعيداً عن التقييمات الإستراتيجية وأولوياتها، مكان لحياة ملايين البشر واجتماعهم، وأن حقول النفط والموانئ ليست أكثر من وسائل لإنتاج استقرار تلك المجتمعات، واستمرار عيشها، وليست فوائض، يتم الرهان بها في المقامرات الإستراتيجية، أو لتغيير موازين القوة العالمية، ولا لتعديل مزاج ذلك الزعيم أو الحاكم.
في المجمل، وبعيداً عن كل الأوهام، لن ينتهي هذا الدبيب الجاري على أرض المشرق العربي، والذي يتخذ طابع الصراع الإستراتيجي بين القوى الكبرى، قبل إعادة تكوين ما بات يعرف
سيدفع المشرق العربي ثمن تحولات النظام العالمي، ويتصادف ذلك ليس فقط مع وجود قوى عالمية، مستعدّة لجرف كل شيء في طريق تحقيق مصالحها الإستراتيجية، بل المفارقة أن جزءاً من مكونات المشرق يعمل على تسريع الأحداث، للوصول إلى هذا المآل، في ظل تراجع الإحساس بالهوية الوطنية، وصعود الانتماءات الضيّقة.