المصالحةِ الوطنيّة والحرب ضد الإرهاب في ليبيا
تقولُ حكمة شعبيّة في ليبيا إن الأحداث السياسيّة والعسكريّة المفصليّة في تاريخ البلاد كانت دوماً تندلِع من بُرقة. وبالفعل، في هذه المِنطقةِ كانت المقاومةُ الأقوى ضدّ الاحتِلال الإيطالي، تحتَ تأثيرِ الطريقة السنوسيّة التي انحدرَ منها مؤسِّس الملكيَّة الليبيَّة عام 1951. منها أيضاً، أعلن العقيد معمّر القذافي وزملاؤه ثورةَ "الفاتح من سبتمبر" في 1969. ومنها انطلقَت في 2011 الانتِفاضةُ الشعبيّة التي أنْهَت حكمَه بعد ثمانيَةِ أِشهرَ من حرب أهليّة. يبدو أنّ التاريخَ يكرِّر نفسَه في 2016، فمن هذه المنطقةِ، تلوحُ ملامحُ أحداثَ قد تَقلِب، في الأسابيعِ المقبلة، مشاريعَ الأُمَم المتَّحدة والدولِ الغربيَة التي أنشأت حكومةِ وفاقٍ وطنيٍّ في طرابلس، إثر اتِّفاقيّة الصخيرات الموقَّعة في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2015.
مع أنَّ الأمور جاءت يسيرةً في بدايتِها، مع وصولِ سفينة رئيس حكومة الوفاق، فائز السرَاج، إلى طرابلس عندِ الضحى في 31 مارس/ آذار، مُرفَقاً بستَّة من الأعضاءِ الثمانِيَة في المجلسَ الرئاسيَّ. وكانت أغلبيَّةُ الفصائلِ الكبرى في طرابلس ومِصراتة قد قبلت عودتِه إثر مفاوضاتٍ سريَّةِ مُسبَقة، ما أمَّن له حمايتها له. فتفادَت الفصائلُ المسلَّحة الرافِضةُ عودته، والمتجمِّعةِ في "جبهةِ الرفض" الواقعةِ تحت سلطةِ المصراتيِّ صلاح بادي، المجابهة، َوعادت إلى ثكناتِها في جنوب العاصمة. وحظِيَت عودة السراج هذه مباشرةً بترحيبِ الدولِ الأوروبيَّة (زيارات وزراءِ الخارجيَّة، الإيطاليِّ والبريطانيِّ والفرنسيِّ والإسبانيِّ، في أقلِّ من أسبوع) والأممِ المتَّحدة، إذ تشكِّل بدايةً لمسارٍ إيجابيِّ.
لم تمرَّ أيّامٌ قليلة وتمَّ الاعترافُ بسلطةِ السرّاج من المؤسَّستَين اللّتيْن بقيتا بعد انهيارِ نظام القذافي، البنكِ المركزي والشركة الوطنيّة للنفط، ومن بلديّات كثيرة في إقليم طرابلس. كما أنَّ سكّان العاصمة، وقد أنهكَتهم خمسُ سنواتٍ من التنافسِ والانسدادِ في طرقِ الحل، وأنهكَتهم حالةٌ اقتصاديّةٌ تزدادُ صعوبةً، تقبَّلوا هذه الفرصةَ بارتياحٍ واندِفاع. فضَّلَ جزءٌ من المؤتمرِ الشعبيِّ العامِّ الذي تمَّ انتخابُه عام 2012 استقطابَ الحكومة الجديدة، بدلاً من معارضَتِها، وباشرَ بتأسيسِ مجلسِ الأمَّة، وهو هيئةٌ استشاريَّة تنصُّ اتفاقيّة الصخيرات على إنشائها، لكنَّ الاتفاقيَّة نفسها تقولُ إن تعيينَ هذا المجلس لن يتمَّ قبلَ موافقةِ برلمان طبرق على حكومةِ الوفاق الوطنيِّ الجديدة، بحكمِهِ السلطةَ الرسميَّة الوحيدةَ المنتخَبة، المعترفَ بها من المجتمع الدولي.
تسبب التسرُّع في تعيينِ مجلس الأمّة، وكذا هويَّة الشخص الذي ترأسه، عبد الرحمن السويحلي، وهو مصراتي، بادرَ إلى حملةٍ عسكرية انتقاميَّة ضدَّ مدينة بني وليد (مدينةٌ بقِيَت حليفةَ النظام السابق فترة طويلةٍ في حرب 2011، ومنافِسةٌ تاريخيّة لمصراتة)، بالإضافةِ إلى قانونِ الإقصاءِ في عام 2013 ضدَّ كلِّ كوادِر نظام القذافي السابق، تسبّبا في تأكيدِ شكوكِ برلمانِ طبرق تجاهَ المسارِ السياسيِّ المطروح، وهو على وجهِ حقٍّ في تخوفِّه هذا.
كان في ذلك المسارِ وعدُ خيرٍ من نواحٍ عديدة، إلّا أنَّ الديناميَّة التي بدأت في الغرب ساهمَت، من غيرِ شكٍّ، بتوسيعِ الهوَّة مع شرقِ البلاد، فكان من شأنِ وصولِ فائز السراج ومجلسِه الرئاسي الذي تتَصاعدُ فيه هيمنةُ شخصيَّةِ أحمد معيتيق، المصراتي والمساعدِ الأوَّل للسراج، أن تجعل الأعضاء الأكثر راديكاليَّةً في برلمانِ طبرق يتمسّكون برفضِهم حكومةِ الوفاقِ الوطني. وتعكسُ الطريقُ المسدودةُ حاليّاً تعمُّقَ الهوّةِ بين المنطقَتين، وهي هوّةٌ أعمق وأبعدَ من الحجَّة المعلنة لعدمِ الموافَقةِ على حكومةِ الوفاق الوطنيِّ، ومفادُها رفض تنحيَة الجنرال خليفة حفتر عن منصبِه لقيادةِ الجيش الوطني.
وكما يحدثُ غالباً، التركيز المفرطُ على الأفراد، الذي دفعَ، مثلاً، الاتحاد الأوروبيّ إلى الحديثِ
عن معاقبةِ رئيس برلمان طبرق، عقيلة صالح، يدفعُ أيضاً إلى غضِّ الانتِباه عن الأسبابِ الأكثرَ بنيويّة. واقعُ الأمر إذاً أنَّ الاستِغلالَ من زعماءِ الشرق، مدعومين بإعلامِ مصرَ والإماراتِ المتحدة، لحقدِ القبائل في برقة تجاهَ الغربِ المتَّهَم بمساعدة بنغازي ودرنة، يساهمُ في تغذيَةِ مشاعر التعصُّبِ الإقليميِّ في برقة. من جهةٍ أخرى، في إقليم طرابلس، لم تتورّع النخبُ الطرابلسيّة، وتكوَّنت بمعظمِها بعدَ الثورةِ، عن وصفِ سلطاتِ طبرق بأنَّها "ثورة مضادّة". وتبرِّر النخبُ الطرابلسيّة تُهمَتَها هذه بذرائعَ عديدة: عودةُ مسؤولين كبار في النظام الأسبق إلى برقة، في ظلِّ تغطِيةٍ إعلاميّة كبيرة؛ البيانُ الذي أصدرَه في 27 إبريل/ نيسان مجلسُ البلديّة وقبائلُ البيضاء، والذي يدعو أرملةَ القذافي إلى العودةِ إلى مدينتِها؛ وتجنيدُ جزءٍ من كتائبِ النظام السابق الأمنيّة، لا سيَما الكتيبةِ 32 الشرِسة التي كانت تحت أُمرةِ خميس القذافي، في الجيشِ الوطني الليبي.
كانَ من المفروضِ، في الأيّام المقبلة، أن تخوضَ قوّاتُ "الجيشِ الوطنيّ الليبيّ" بقيادةِ الجنرال خليفة حفتر الذي أحرزَ انتصاراتٍ عسكريّة على جبهاتِ بنغازي وأجادبيا، عمليَّةَ هجومٍ على تنظيمِ الدولةِ الإسلاميَّةِ المتحصِّنِ في سرت، وبدعمٍ لوجيستيٍّ مكثَّف من الإمارات ومصر. ويبدو أنَّ الغاية من العمليَّة (غردابيا 2) أبعدَ من الهدف المعلن، وهو تحريرِ سرت. الغاية هي السيطرةُ على مواقعِ النفطِ التي يحميها حاليّاً حرسُ المنشآت النفطيّة المواليةِ حتى اليوم لحكومةِ الوفاق الوطني. لم يَخْفَ هذا الخطرَ على فائز السراج الذي ذكّر، في مؤتمرٍ صحفيٍّ في 28 أبريل/ نيسان، أنَّ عمليَّةً "مبكِّرةَ الأوانِ" ضدَّ سرت غيرُ مستحَبَّة. هذا بالإضافة إلى أنَّ ميليشيات مصراتة بدأت استعداداتٍ لهجومٍ ضدَّ سرت، واستبَقت الأمرَ بوضعِ قوّاتِها في مواقعَ مختلفَةٍ في غربِ المدينة وجنوبِها.
أضحى تحريرُ سرت، إذاً، موضوعاً جوهريّاً للفريقين المتنافسَين اللَّذَين يعَوِّلان على نصرٍ عسكريٍّ، يُعزِّزُ من خلالِه كلٌّ منهُما موقفَه السياسيَّ ضدَّ خصمِه. إذ قد تؤدي أيَّة مجابهةٍ مباشرةٍ بين الفريقين إلى إنهاءِ المسار السياسيِّ الذي ترعاهُ الأمم المتَّحدة، ناهيكَ عن أنَّها تفتحُ على مخاطرَ جسيمةٍ. وإذا أخَذْنا بالاعتِبار أنَّ جيش حفتر يضم ضبّاطاً من النظام السابق، من سرت وبني وليد، وأنَّ الإهانةَ التي تعرضَت لها بالتحديد مدينةُ بني وليد عام 2012 ما زالَت في الأذهان، فيُخشى أن تتفتّحَ جروح حربِ 2011. وكثيرون هم، من الشرقِ والغرب، يتمنَّون أن يُدَفِّعوا مصراتة ثمنَ هيمنتِها السياسيَّة والعسكريَّة في السنوات الأخيرة.
ها هيَ الأمورِ من جديد تسيرُ على غيرِ المتوقَّع في ليبيا، فالدوَلُ الغربيّة، بعد اعتِرافها في أغسطس/ آب 2014 ببرلمانِ طبرق، منذ مباشرتِه مهامّه، ممثِّلاً وحيداً للشعبِ الليبي، فرضَت في ديسمبر/ كانون الأول 2015 على فاعلين سياسيّين عصاة، لا يمثِّلون كلَّ القوى على الأرض، توقيعَ اتِّفاقيّة تحملُ بذور الوضع الحالي. وكانَ خيارُ الدول الغربيّة، في نهايةِ 2015، إعطاءُ الأولوية لـ"محاربةِ الإرهاب" على حساب إعادة البناء، وهذا ما دعمَه بشكلٍ مبكِّرٍ وحصريٍّ برلمانُ طبرق في 2014. هذه المرة، كان الهدفُ استِحداثَ حكومةِ وفاقٍ وطنيٍ، يكون لها، في أسرع وقت، صلاحية أن تطلبَ من "المجتَمعِ الدولي" لقيادةِ الحربِ ضدَّ تنظيمِ الدولة الإسلامية. وكما سبقَ وحذَّرَ مراقبون، تؤدّي الاتفاقيَّةُ إلى تعميقِ الخلافاتِ، وتعقيدِ آليّة الخروج من الأزمةِ ليس إلّا. كما أنّه لم يتمَّ التطرقُ أبداً، لا من الولايات المتَّحدة ولا من الدولِ الغربيّة، للتدخُّلِ المباشرِ لفاعلين خارجيين، كمصر والإمارات اللَّتَيْن لم تنفِيا ألبتّة دعمَهما حكومةِ طبرق. وما يثيرُ الحيرةَ أكثر، إن تأكدَّت معلوماتُ صحيفةُ لوموند الفرنسية عن وجودِ فِرَقٍ من القوّاتِ الخاصّةِ الفرنسيّة إلى جانبِ الجنرال حفتر في الشرقِ الليبيّ. هذا يعني أنَّنا نؤكِّد دعمَنا رئيس حكومةِ الوفاق الوطني في طرابلس، وفي الوقت نفسه، يقف جنودٌ فرنسيّون إلى جانبِ الفريقِ المنافِس، ويشجِّعونه في خيارِهِ الأحادي تجاهلِ الحلِّ السياسيِّ لمصلحةِ الحلِّ العسكريّ.
ولئن كان ميزان القوى في سرت يفيد بأنَّ تنظيمَ الدولة الإسلاميّة ذاهب إلى الهزيمةِ في المدينة، إلّا أنَّ معركةَ سرت قد تفتحُ على حربٍ أهليّةٍ جديدةٍ بين فصائلَ ليبية، ستكونُ أبعادها مجهولة، تؤخِّر من عمليّة إعادةِ البناءِ الوطنيِّ المنشودِ إلى أجلٍ غيرِ منظور.
مع أنَّ الأمور جاءت يسيرةً في بدايتِها، مع وصولِ سفينة رئيس حكومة الوفاق، فائز السرَاج، إلى طرابلس عندِ الضحى في 31 مارس/ آذار، مُرفَقاً بستَّة من الأعضاءِ الثمانِيَة في المجلسَ الرئاسيَّ. وكانت أغلبيَّةُ الفصائلِ الكبرى في طرابلس ومِصراتة قد قبلت عودتِه إثر مفاوضاتٍ سريَّةِ مُسبَقة، ما أمَّن له حمايتها له. فتفادَت الفصائلُ المسلَّحة الرافِضةُ عودته، والمتجمِّعةِ في "جبهةِ الرفض" الواقعةِ تحت سلطةِ المصراتيِّ صلاح بادي، المجابهة، َوعادت إلى ثكناتِها في جنوب العاصمة. وحظِيَت عودة السراج هذه مباشرةً بترحيبِ الدولِ الأوروبيَّة (زيارات وزراءِ الخارجيَّة، الإيطاليِّ والبريطانيِّ والفرنسيِّ والإسبانيِّ، في أقلِّ من أسبوع) والأممِ المتَّحدة، إذ تشكِّل بدايةً لمسارٍ إيجابيِّ.
لم تمرَّ أيّامٌ قليلة وتمَّ الاعترافُ بسلطةِ السرّاج من المؤسَّستَين اللّتيْن بقيتا بعد انهيارِ نظام القذافي، البنكِ المركزي والشركة الوطنيّة للنفط، ومن بلديّات كثيرة في إقليم طرابلس. كما أنَّ سكّان العاصمة، وقد أنهكَتهم خمسُ سنواتٍ من التنافسِ والانسدادِ في طرقِ الحل، وأنهكَتهم حالةٌ اقتصاديّةٌ تزدادُ صعوبةً، تقبَّلوا هذه الفرصةَ بارتياحٍ واندِفاع. فضَّلَ جزءٌ من المؤتمرِ الشعبيِّ العامِّ الذي تمَّ انتخابُه عام 2012 استقطابَ الحكومة الجديدة، بدلاً من معارضَتِها، وباشرَ بتأسيسِ مجلسِ الأمَّة، وهو هيئةٌ استشاريَّة تنصُّ اتفاقيّة الصخيرات على إنشائها، لكنَّ الاتفاقيَّة نفسها تقولُ إن تعيينَ هذا المجلس لن يتمَّ قبلَ موافقةِ برلمان طبرق على حكومةِ الوفاق الوطنيِّ الجديدة، بحكمِهِ السلطةَ الرسميَّة الوحيدةَ المنتخَبة، المعترفَ بها من المجتمع الدولي.
تسبب التسرُّع في تعيينِ مجلس الأمّة، وكذا هويَّة الشخص الذي ترأسه، عبد الرحمن السويحلي، وهو مصراتي، بادرَ إلى حملةٍ عسكرية انتقاميَّة ضدَّ مدينة بني وليد (مدينةٌ بقِيَت حليفةَ النظام السابق فترة طويلةٍ في حرب 2011، ومنافِسةٌ تاريخيّة لمصراتة)، بالإضافةِ إلى قانونِ الإقصاءِ في عام 2013 ضدَّ كلِّ كوادِر نظام القذافي السابق، تسبّبا في تأكيدِ شكوكِ برلمانِ طبرق تجاهَ المسارِ السياسيِّ المطروح، وهو على وجهِ حقٍّ في تخوفِّه هذا.
كان في ذلك المسارِ وعدُ خيرٍ من نواحٍ عديدة، إلّا أنَّ الديناميَّة التي بدأت في الغرب ساهمَت، من غيرِ شكٍّ، بتوسيعِ الهوَّة مع شرقِ البلاد، فكان من شأنِ وصولِ فائز السراج ومجلسِه الرئاسي الذي تتَصاعدُ فيه هيمنةُ شخصيَّةِ أحمد معيتيق، المصراتي والمساعدِ الأوَّل للسراج، أن تجعل الأعضاء الأكثر راديكاليَّةً في برلمانِ طبرق يتمسّكون برفضِهم حكومةِ الوفاقِ الوطني. وتعكسُ الطريقُ المسدودةُ حاليّاً تعمُّقَ الهوّةِ بين المنطقَتين، وهي هوّةٌ أعمق وأبعدَ من الحجَّة المعلنة لعدمِ الموافَقةِ على حكومةِ الوفاق الوطنيِّ، ومفادُها رفض تنحيَة الجنرال خليفة حفتر عن منصبِه لقيادةِ الجيش الوطني.
وكما يحدثُ غالباً، التركيز المفرطُ على الأفراد، الذي دفعَ، مثلاً، الاتحاد الأوروبيّ إلى الحديثِ
كانَ من المفروضِ، في الأيّام المقبلة، أن تخوضَ قوّاتُ "الجيشِ الوطنيّ الليبيّ" بقيادةِ الجنرال خليفة حفتر الذي أحرزَ انتصاراتٍ عسكريّة على جبهاتِ بنغازي وأجادبيا، عمليَّةَ هجومٍ على تنظيمِ الدولةِ الإسلاميَّةِ المتحصِّنِ في سرت، وبدعمٍ لوجيستيٍّ مكثَّف من الإمارات ومصر. ويبدو أنَّ الغاية من العمليَّة (غردابيا 2) أبعدَ من الهدف المعلن، وهو تحريرِ سرت. الغاية هي السيطرةُ على مواقعِ النفطِ التي يحميها حاليّاً حرسُ المنشآت النفطيّة المواليةِ حتى اليوم لحكومةِ الوفاق الوطني. لم يَخْفَ هذا الخطرَ على فائز السراج الذي ذكّر، في مؤتمرٍ صحفيٍّ في 28 أبريل/ نيسان، أنَّ عمليَّةً "مبكِّرةَ الأوانِ" ضدَّ سرت غيرُ مستحَبَّة. هذا بالإضافة إلى أنَّ ميليشيات مصراتة بدأت استعداداتٍ لهجومٍ ضدَّ سرت، واستبَقت الأمرَ بوضعِ قوّاتِها في مواقعَ مختلفَةٍ في غربِ المدينة وجنوبِها.
أضحى تحريرُ سرت، إذاً، موضوعاً جوهريّاً للفريقين المتنافسَين اللَّذَين يعَوِّلان على نصرٍ عسكريٍّ، يُعزِّزُ من خلالِه كلٌّ منهُما موقفَه السياسيَّ ضدَّ خصمِه. إذ قد تؤدي أيَّة مجابهةٍ مباشرةٍ بين الفريقين إلى إنهاءِ المسار السياسيِّ الذي ترعاهُ الأمم المتَّحدة، ناهيكَ عن أنَّها تفتحُ على مخاطرَ جسيمةٍ. وإذا أخَذْنا بالاعتِبار أنَّ جيش حفتر يضم ضبّاطاً من النظام السابق، من سرت وبني وليد، وأنَّ الإهانةَ التي تعرضَت لها بالتحديد مدينةُ بني وليد عام 2012 ما زالَت في الأذهان، فيُخشى أن تتفتّحَ جروح حربِ 2011. وكثيرون هم، من الشرقِ والغرب، يتمنَّون أن يُدَفِّعوا مصراتة ثمنَ هيمنتِها السياسيَّة والعسكريَّة في السنوات الأخيرة.
ها هيَ الأمورِ من جديد تسيرُ على غيرِ المتوقَّع في ليبيا، فالدوَلُ الغربيّة، بعد اعتِرافها في أغسطس/ آب 2014 ببرلمانِ طبرق، منذ مباشرتِه مهامّه، ممثِّلاً وحيداً للشعبِ الليبي، فرضَت في ديسمبر/ كانون الأول 2015 على فاعلين سياسيّين عصاة، لا يمثِّلون كلَّ القوى على الأرض، توقيعَ اتِّفاقيّة تحملُ بذور الوضع الحالي. وكانَ خيارُ الدول الغربيّة، في نهايةِ 2015، إعطاءُ الأولوية لـ"محاربةِ الإرهاب" على حساب إعادة البناء، وهذا ما دعمَه بشكلٍ مبكِّرٍ وحصريٍّ برلمانُ طبرق في 2014. هذه المرة، كان الهدفُ استِحداثَ حكومةِ وفاقٍ وطنيٍ، يكون لها، في أسرع وقت، صلاحية أن تطلبَ من "المجتَمعِ الدولي" لقيادةِ الحربِ ضدَّ تنظيمِ الدولة الإسلامية. وكما سبقَ وحذَّرَ مراقبون، تؤدّي الاتفاقيَّةُ إلى تعميقِ الخلافاتِ، وتعقيدِ آليّة الخروج من الأزمةِ ليس إلّا. كما أنّه لم يتمَّ التطرقُ أبداً، لا من الولايات المتَّحدة ولا من الدولِ الغربيّة، للتدخُّلِ المباشرِ لفاعلين خارجيين، كمصر والإمارات اللَّتَيْن لم تنفِيا ألبتّة دعمَهما حكومةِ طبرق. وما يثيرُ الحيرةَ أكثر، إن تأكدَّت معلوماتُ صحيفةُ لوموند الفرنسية عن وجودِ فِرَقٍ من القوّاتِ الخاصّةِ الفرنسيّة إلى جانبِ الجنرال حفتر في الشرقِ الليبيّ. هذا يعني أنَّنا نؤكِّد دعمَنا رئيس حكومةِ الوفاق الوطني في طرابلس، وفي الوقت نفسه، يقف جنودٌ فرنسيّون إلى جانبِ الفريقِ المنافِس، ويشجِّعونه في خيارِهِ الأحادي تجاهلِ الحلِّ السياسيِّ لمصلحةِ الحلِّ العسكريّ.
ولئن كان ميزان القوى في سرت يفيد بأنَّ تنظيمَ الدولة الإسلاميّة ذاهب إلى الهزيمةِ في المدينة، إلّا أنَّ معركةَ سرت قد تفتحُ على حربٍ أهليّةٍ جديدةٍ بين فصائلَ ليبية، ستكونُ أبعادها مجهولة، تؤخِّر من عمليّة إعادةِ البناءِ الوطنيِّ المنشودِ إلى أجلٍ غيرِ منظور.