23 يناير 2020
المعارضة السورية واليوم التالي
تشيع التوقعات أكثر فأكثر بحتمية سقوط الأسد، إثر نتائج الانتصارات العسكرية للثوار السوريين في الفترة الماضية، وتختلف معظم هذه التوقعات في التنبؤ بزمن ذلك السقوط، وخصوصاً في الأوساط القريبة من مراكز القرار الدولي والإقليمي المتصل بهذا الشأن. ويعود ذلك، بطبيعة الحال، إلى علاقة تلك المراكز بأطراف الصراع السوري، الأمر الذي يلحظ بقوة لدى حلفاء النظام، الروس والإيرانيين، لكنه يعبر أيضا عن تخوف الجميع من مستقبل ما سيحدث بعد ذلك السقوط. فكلا النظامين، الروسي والإيراني، المتشددين في الدفاع عن حليفهما حتى اللحظة الأخيرة، راغبان في أن يستمر النظام السوري بعد الرحيل المسلم به لرأسه، على الرغم من أن ذلك الاستمرار سيتطلب تعديله بشكل ما، مع أطراف في المعارضة أو غيرها، لكنه بذلك سيضمن مصالحهما والارتباط بهما في مستقبل سورية على كل حال، وهو ما كان خلف بعض مؤتمرات المعارضات السورية المبعثرة في غير مكان!
أما الخوف المتنامي، والذي يتشارك فيه الجميع، فمن البيّن أنه خوف من سقوط النظام كليا، ووقوع سورية تحت سيطرة داعش وغيرها من قوى التطرف التي تتزايد قوتها، وتعظم امتداداتها في كل مكان من سورية، بينما لا توجد دلائل واقعية على قوة المعارضة الديمقراطية، وإمكانية تشكيلها بديلاً في مستقبل قريب.
مسألة البديل القادم والمتوفرة دلائله على أرض الميدان هي ما تحكم الصراع السوري اليوم، وهي ما تفسر السياسات الدولية والإقليمية الفاعلة فيه. فبالأمس القريب، نقلت الأنباء أخبار تعثر برنامج التدريب العسكري الذي رعته واشنطن للمعارضة السورية المعتدلة، بسبب قصر أهدافه ضد داعش، وعدم شمولها النظام، ما حدا بقسم من المتدربين للانسحاب من برنامج التدريب نفسه. أما دعوة بوتين المستغربة لتشكيل تحالف ضد الإرهاب، يضم روسيا والسعودية وتركيا ومصر إلى جانب سورية (!)، فهي دليل آخر على تفعيل مسألة الإرهاب، وجعلها أولوية في أي بحث يستهدف المستقبل السوري.
هذا المستقبل، أو ما سيجري في اليوم التالي لرحيل الأسد، هو محط اهتمام السيناريوهات المتعددة التي ينطلق أولها من تكريس الوقائع العسكرية الحالية، ملحقة بها التغييرات الديمغرافية والاجتماعية المترتبة عليها بين أكثريات وأقليات، فتتحول إلى دويلات طائفية وقومية متنافسة، بينما يشير السيناريو الثاني إلى استدامة الصراع، كي يستهلك بلدان المنطقة واحتياطات النمو والطاقة فيها إلى أمد غير محدد. لكن، ستتغير فيه الموازين ومعادلات القوة، في حين يرجح السيناريو الثالث استمرار النظام معدلاً ومدعوماً، كي يكفل المصالح الدولية والإقليمية المتصلة.
وإذ تناقش طاولات البحث الدولي والإقليمي تلك السيناريوهات، فإن السوريين وممثليهم لا يشاركون فيها إلا بصورة هامشية واستشارية. أما معارضتهم فهي لاجئة في الخارج وضعيفة في الداخل أو محدودة الفاعلية في الشمال والجنوب، بينما يستمر تقاسم النظام وداعش والمسلحون الكرد خريطة سورية، بانتظار السيناريو المرجح!
على هذه الصورة، إذا كان مستقبل اليوم التالي يقلق جميع المهتمين بسورية، ويحكم سياساتهم اليوم، فالأولى به أن يقلق المعارضة السورية نفسها، ويدفعها للعمل من أجله أيضا. وهو أمر يتطلب من المعارضة القيام بمراجعة جذرية لدورها الذي من المسلم به أنه يزداد ضعفا مع جسدها الذي تشكل وتكرس خارج سورية، لا بسبب العنف القاتل للنظام فقط، بل بسبب سياسته العميقة والهادفة إلى التغيير الديمغرافي أيضا، والذي شمل تهجير أي حاضنة اجتماعية، يمكن أن تسمح لنمو لمعارضة محتملة مستقبلاً.
وتتطلب هذه المراجعة، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، من المعارضة تعزيز وجودها الميداني بين قوى الداخل السوري، ليس رداً على سياسة النظام وحسب، في ظل الظروف الراهنة وتطورها، بل لأنه الأمر الأكثر بداهة في تاريخ الثورات، وأقربها لنا مثالاً الثورتان الجزائرية والكوبية. والتي لم تكن تحضيراتهما ومؤتمراتهما واستعداداتهما في الخارج، إلا مقدمة ودعما للانتقال إلى الداخل، ما شكل العامل الحاسم للنصر في النهاية.
قد يبدو هذا الكلام ترفاً، في ظل تغير الظروف، واختلاف درجات القمع والعنف التي اشتدت بصورة شديدة الفظاعة والهمجية اليوم، في ظل البراميل المتفجرة والصواريخ التي تطاول البشر والحجر على مشهد من العالم كله. ومع ذلك، هناك في الداخل السوري مناطق محررة، في الشمال، وفي إدلب خصوصاً، وفي الجنوب أيضا، كما أن هناك حياة وأنشطة مدنية مستقلة إلى هذا الحد أو ذاك، في كل مكان من سورية. ومنها مظاهرة الغوطة ضد الغلاء وضد تحكم المتطرفين، والنوادي السينمائية والثقافية في وعر حمص المحاصر، ولافتات كفر نبل النقدية، وهي بعض ما يستمر تحت القصف والقنص، وفي ظل الغلاء والحصار، وتلك معجزات "شعب الجبارين" السوري، فلماذا لا يكون ذلك كله ملهما للمعارضين السوريين أيضاً؟
وإذا كان مفهوما أن الثورة السورية انطلقت عفوية، وبرزت "قومة" أو فزعة أهلية، ردا على مجزرة درعا وأطفالها، وعلى تاريخ طويل من الاستبداد والاضطهاد، وأن المعارضة الخارجية سارعت لتعبر عن هذه الثورة وتمثيلها في ظل تصحر وغياب سياسي طويل. لكنه ليس مفهوماً، ولا مقبولاً، بعد خبرة السنوات الأربع المريرة، أن تستمر المعارضة الديمقراطية على هذا المنوال الهزيل، والذي لا يعدو أن يكون امتداداً آخر للعفوية والاستسهال. وقد آن الأوان للعودة إلى الداخل بكل الاستعداد للتضحية، من أجل العيش مع الثوار وإلى جانبهم. الأمر الذي يمكن أن يبدأ بعودة شباب المعارضة القادرين أولاً، وخصوصاً من مخيمات اللجوء، كي يعيشوا بين أهلهم ومواطنيهم، فيتقاسمون معهم صعوبات الحياة ومشاقها. وذلك وحده ما يمكن أن يجددهم، ويكسب المعارضة الديمقراطية والمدنية قوة الدور، ويمنحها شرعية التمثيل، كي تشارك في تقرير مهام اليوم التالي في سورية، وكي تحاول إعادة مسيرة ثورة الحرية والكرامة إلى سيرتها الأولى.
أما الخوف المتنامي، والذي يتشارك فيه الجميع، فمن البيّن أنه خوف من سقوط النظام كليا، ووقوع سورية تحت سيطرة داعش وغيرها من قوى التطرف التي تتزايد قوتها، وتعظم امتداداتها في كل مكان من سورية، بينما لا توجد دلائل واقعية على قوة المعارضة الديمقراطية، وإمكانية تشكيلها بديلاً في مستقبل قريب.
مسألة البديل القادم والمتوفرة دلائله على أرض الميدان هي ما تحكم الصراع السوري اليوم، وهي ما تفسر السياسات الدولية والإقليمية الفاعلة فيه. فبالأمس القريب، نقلت الأنباء أخبار تعثر برنامج التدريب العسكري الذي رعته واشنطن للمعارضة السورية المعتدلة، بسبب قصر أهدافه ضد داعش، وعدم شمولها النظام، ما حدا بقسم من المتدربين للانسحاب من برنامج التدريب نفسه. أما دعوة بوتين المستغربة لتشكيل تحالف ضد الإرهاب، يضم روسيا والسعودية وتركيا ومصر إلى جانب سورية (!)، فهي دليل آخر على تفعيل مسألة الإرهاب، وجعلها أولوية في أي بحث يستهدف المستقبل السوري.
هذا المستقبل، أو ما سيجري في اليوم التالي لرحيل الأسد، هو محط اهتمام السيناريوهات المتعددة التي ينطلق أولها من تكريس الوقائع العسكرية الحالية، ملحقة بها التغييرات الديمغرافية والاجتماعية المترتبة عليها بين أكثريات وأقليات، فتتحول إلى دويلات طائفية وقومية متنافسة، بينما يشير السيناريو الثاني إلى استدامة الصراع، كي يستهلك بلدان المنطقة واحتياطات النمو والطاقة فيها إلى أمد غير محدد. لكن، ستتغير فيه الموازين ومعادلات القوة، في حين يرجح السيناريو الثالث استمرار النظام معدلاً ومدعوماً، كي يكفل المصالح الدولية والإقليمية المتصلة.
وإذ تناقش طاولات البحث الدولي والإقليمي تلك السيناريوهات، فإن السوريين وممثليهم لا يشاركون فيها إلا بصورة هامشية واستشارية. أما معارضتهم فهي لاجئة في الخارج وضعيفة في الداخل أو محدودة الفاعلية في الشمال والجنوب، بينما يستمر تقاسم النظام وداعش والمسلحون الكرد خريطة سورية، بانتظار السيناريو المرجح!
على هذه الصورة، إذا كان مستقبل اليوم التالي يقلق جميع المهتمين بسورية، ويحكم سياساتهم اليوم، فالأولى به أن يقلق المعارضة السورية نفسها، ويدفعها للعمل من أجله أيضا. وهو أمر يتطلب من المعارضة القيام بمراجعة جذرية لدورها الذي من المسلم به أنه يزداد ضعفا مع جسدها الذي تشكل وتكرس خارج سورية، لا بسبب العنف القاتل للنظام فقط، بل بسبب سياسته العميقة والهادفة إلى التغيير الديمغرافي أيضا، والذي شمل تهجير أي حاضنة اجتماعية، يمكن أن تسمح لنمو لمعارضة محتملة مستقبلاً.
وتتطلب هذه المراجعة، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، من المعارضة تعزيز وجودها الميداني بين قوى الداخل السوري، ليس رداً على سياسة النظام وحسب، في ظل الظروف الراهنة وتطورها، بل لأنه الأمر الأكثر بداهة في تاريخ الثورات، وأقربها لنا مثالاً الثورتان الجزائرية والكوبية. والتي لم تكن تحضيراتهما ومؤتمراتهما واستعداداتهما في الخارج، إلا مقدمة ودعما للانتقال إلى الداخل، ما شكل العامل الحاسم للنصر في النهاية.
قد يبدو هذا الكلام ترفاً، في ظل تغير الظروف، واختلاف درجات القمع والعنف التي اشتدت بصورة شديدة الفظاعة والهمجية اليوم، في ظل البراميل المتفجرة والصواريخ التي تطاول البشر والحجر على مشهد من العالم كله. ومع ذلك، هناك في الداخل السوري مناطق محررة، في الشمال، وفي إدلب خصوصاً، وفي الجنوب أيضا، كما أن هناك حياة وأنشطة مدنية مستقلة إلى هذا الحد أو ذاك، في كل مكان من سورية. ومنها مظاهرة الغوطة ضد الغلاء وضد تحكم المتطرفين، والنوادي السينمائية والثقافية في وعر حمص المحاصر، ولافتات كفر نبل النقدية، وهي بعض ما يستمر تحت القصف والقنص، وفي ظل الغلاء والحصار، وتلك معجزات "شعب الجبارين" السوري، فلماذا لا يكون ذلك كله ملهما للمعارضين السوريين أيضاً؟
وإذا كان مفهوما أن الثورة السورية انطلقت عفوية، وبرزت "قومة" أو فزعة أهلية، ردا على مجزرة درعا وأطفالها، وعلى تاريخ طويل من الاستبداد والاضطهاد، وأن المعارضة الخارجية سارعت لتعبر عن هذه الثورة وتمثيلها في ظل تصحر وغياب سياسي طويل. لكنه ليس مفهوماً، ولا مقبولاً، بعد خبرة السنوات الأربع المريرة، أن تستمر المعارضة الديمقراطية على هذا المنوال الهزيل، والذي لا يعدو أن يكون امتداداً آخر للعفوية والاستسهال. وقد آن الأوان للعودة إلى الداخل بكل الاستعداد للتضحية، من أجل العيش مع الثوار وإلى جانبهم. الأمر الذي يمكن أن يبدأ بعودة شباب المعارضة القادرين أولاً، وخصوصاً من مخيمات اللجوء، كي يعيشوا بين أهلهم ومواطنيهم، فيتقاسمون معهم صعوبات الحياة ومشاقها. وذلك وحده ما يمكن أن يجددهم، ويكسب المعارضة الديمقراطية والمدنية قوة الدور، ويمنحها شرعية التمثيل، كي تشارك في تقرير مهام اليوم التالي في سورية، وكي تحاول إعادة مسيرة ثورة الحرية والكرامة إلى سيرتها الأولى.