11 نوفمبر 2024
المعارضة السورية وتحدّي انتزاع السلطة
خسر الأسد الحرب، كما خسرها حليفاه حزب الله والنظام الإيراني أيضا. الأول لأنه أراد أن يقلب الوقائع، وينكر الحقائق البسيطة، ويفرض على الجميع القتال على قاعدة كل شيء للأسد أو لا أحد، وتحولت معركة الحفاظ على كرسيه في الحكم إلى حرب وجود أو موت، بالنسبة لشعب بأكمله. ولا يستطيع أحد، مهما حظي من دعم خارجي وقوة، أن يحكم على شعب بالموت، ليخلد نفسه في الحكم على جماجم ضحاياه. وخسرها حليفاه، لأنه لم يعد لهما ما يدافعان عنه، أو ما يتذرعان به لمتابعة الحرب ضد السوريين.
لا يستمر نظام الأسد، لأنه لا يزال قادراً على الصمود، أو لما تبقى له من رصيد عسكري
ومعنوي، وإنما لعدم جاهزية منظومة المعارضة، في نظر الرأي العام السوري والدولي أيضاً، لاستلام السلطة والحفاظ على وحدة الدولة واستمرارها. ولذلك، لم يعد التحدي الذي يواجهه السوريون، اليوم، إسقاط الأسد وتفكيك نظامه، لكن بناء نواة النظام البديل الذي يعيد توحيد الشعب الذي قسمته الحرب، طائفياً وسياسياً وأيديولوجياً، ويضمن بسط الأمن والسيطرة على المليشيات والقوى المسلحة الصديقة والعدوة، وتنظيم شؤون الدولة والإدارة وتوفير الخدمات الضرورية، أو على الأقل الذي يقدم من الدلائل ما يظهر قدرته على ذلك.
وتجد المعارضة اليوم نفسها أمام فرصة نادرة لاستثمار الانهيار المعنوي والسياسي للنظام، حتى في نظر أصدقائه وحاضنته الاجتماعية، من أجل توجيه الضربة القاضية له، وهي بالتأكيد ضربة سياسية، قبل أن تكون عسكرية. وجوهر ما هو مطلوب منها لتحقيق ذلك، وانتزاع السلطة التي تنتظر من يلمها ويلتقطها، الارتقاء إلى مستوى اللحظة التاريخية، وتجاوز حالة التنافس والانقسام التي سادت في الفترة الماضية، ووضع قاعدة التعاون والتنسيق والتفاهم والدعم المتبادل محل قاعدة التنافس والتنازع على النفوذ. ليست اللحظة لحظة الانتقادات وسوق الاتهامات والتذكير بالمآخذ المتبادلة، وإنما لحظة التضامن والتعاون والتكتل من أجل سورية الواحدة، وإيجاد الحل المناسب للمعضلات الكبرى التي حالت، حتى الآن، دون انتصار السوريين، وأدت إلى خروج مقاليد الأمور من بين أيديهم، وإلى إضعاف العمل الوطني وإفشال مؤسسات المعارضة الثلاث، الائتلاف والمجلس العسكري الأعلى والحكومة المؤقتة، وسيطرة الدول على مصيرها.
أربع معضلات
المعضلة الأولى هي غياب الإجماع والتوافق السياسي، وهذا ما حال دون توحيد قوى الثورة، ووضعها في خدمة مشروع واحد، يشجع الشعب على الالتفاف من حوله. وللأسف، لم تساهم تجمعات المعارضة الكبرى، في المجلس الوطني ثم في الائتلاف الوطني السوري، كثيرا في مساعدة السوريين على تجاوز انقساماتهم، فبدل أن تعمل إطاراً لتجميع القوى وتوحيد الرؤية وتوليد إجماع سياسي، تحولت إلى منتديات مغلقة على أعضائها، وتجاهلت تساؤلات ومخاوف قطاعات الرأي العام السوري بأكملها، كما تجاهلت حاجات الفصائل العسكرية ومشكلاتها. وعندما حاولت الانفتاح، توجهت إلى قوى معارضة ثانوية أكثر هامشية منها، وأكثر بعداً عن مشكلات الشعب وعن الفصائل المسلحة معا، كهيئة التنسيق وتيار بناء الدولة، وأمثالهما. وبقيت تعتمد، في نفوذها ورصيدها، على دعم القوى العربية والدولية، ولم تبذل أي جهد لبناء قوة دعم داخلية، شعبية أو عسكرية، فعلية. ولا يختلف عن ذلك وضع تنظيمات المعارضة السياسية الأخرى التي بقيت تعيش على معارضة الائتلاف أو مناكفته، وتعاني من انفصال أكبر عن حركة الأحداث، وعن التفاعل مع حاجات ومطالب الجمهور والشعب. ولم تنجح المعارضة، بكل تنظيماتها، في تحقيق أي إنجاز سياسي، بعد مؤتمر توحيد مواقفها الذي عقد في القاهرة عام 2012.
والنتيجة أنها بقيت بعيدة عن التحولات العميقة التي غيرت وجه الثورة ورهاناتها، وعجزت عن مواجهة أكبر شرخ حصل في صفوف الثورة، مع تبلور مشروعين متصادمين ومتنافسين، الجهادي والوطني. وقد غلب على قيادات المعارضة السياسية موقف تجاهل الأمر والتغطية عليه، مع تغذية الأمل بأن يتغلب الشعور الوطني عند الجهاديين على أي مشاعر أخرى. وراهنت على نفوذ بعض رجال الدين المعتدلين للتأثير على بعض القوى الجهادية، أو التخفيف من غلوائها. ومن الواضح، الآن، للجميع أن ما يجمع قوات المعارضة السياسية والعسكرية اليوم هو عداؤها المشترك للأسد، وما يقسمها هو اختلافها على طبيعة النظام البديل. ويوفر هذا النزاع بين المشروعين المتنافيين داخل صفوف الثورة واختياراتها ورؤيتها ذريعة للقوى الداعمة للأسد، والخائفة من التغيير، بمقدار ما يهدد بفتح حقبة حرب جديدة، ربما لن تقل ضراوة عن سابقتها، كما يشكل العقبة الرئيسية أمام بناء تحالف وطني واسع في مواجهة تحديات الانتقال.
والآن، وصلنا إلى اللحظة التي ندرك فيها أننا لن نستطيع إقناع السوريين، ولا المجتمع الدولي، بقدرتنا على إدارة الدولة، وحقنا في استعادتها من خاطفيها، من دون أن نقرر في اختياراتنا النهائية: دولة وطنية لشعبها من السوريين الذين عانوا أقسى المعاناة دفاعاً عنها، أو مسرحاً لحرب جهادية يشكل الشعب السوري وقودها، وسورية وحضارتها ومدنها ضحيتها الرئيسية.
والمعضلة الثانية هي التشتت الواسع للفصائل والقوى العسكرية، وامتناعها عن العمل تحت راية واحدة وقيادة مشتركة، تزيد من فاعليتها، وتحد من مخاطر واحتمالات تفجر النزاعات في ما بينها، وتعمل على توحيد جهودها وتنسيقها، للارتقاء بأدائها وتمكين قياداتها من العمل ضمن استراتيجية وخطة سياسية عسكرية شاملة، وتشكيل النواة التنظيمية للجيش الحر التي تسمح بدمج ما يتبقى من الجيش النظامي داخلها، بعد زوال النظام القائم. ويشكل هذا التشتت والتعدد في مراكز القوى والقرار العسكري مصدر خوف وقلق عميقين لقطاعات واسعة من الشعب السوري وللدول الداعمة، أو الرافضة بقاء الأسد، وتعطل إمكانية التوصل إلى تفاهم دولي، لوضع حد للمحنة السورية. وليس من المبالغة القول إن الدول الكبرى تخشى اليوم، بسبب تعدد الفصائل وتباين توجهاتها واحتمالات توسع دائرة نزاعاتها، من الانهيار المفاجئ لنظام الأسد أكثر مما تخشى من استمرار المأساة، خوفا من الانتقال إلى مزيد من الفوضى والحرب الشاملة.
والمعضلة الثالثة هي الفشل في تشكيل إدارة تتمتع بالحد الأدنى من الفاعلية، وتستجيب لحاجات السكان في المناطق المحررة، سواء ما يتعلق منها بتسيير مرافق الدولة والمؤسسات العامة والمجالس المحلية، أو بتقديم الخدمات والاستفادة من الكوادر والخبرات السورية، فقد كانت مساهمة الحكومة المؤقتة في إنجاز هذه المهام الرئيسية، مثل العدالة والقضاء والصحة والتعليم واستثمار الموارد ورعاية الشرائح المتضررة من اللاجئين والمهجرين والفقراء والمشردين، ضعيفة إلى درجة مؤسية. وقد أضعف هذا الفشل كثيراً من صدقية المعارضة، وشكك في مقدرتها على قيادة الانتقال إلى نظام ما بعد الأسد. وترجع أسباب هذا الفشل إلى تخبط المعارضة السياسية، الممثلة بالائتلاف الوطني، والتنازع المستمر الذي ميز أسلوب قيادته وتعامله مع الحكومة، كما ترجع إلى ضعف الدعم الخارجي المنتظر. لكن، قبل ذلك إلى عجز الحكومة نفسها عن تكوين هامش مبادرة لها، مهما كان محدوداً، تجاه الائتلاف والقوى الداعمة معا، ووجود خطة عمل للاستفادة من الموارد المحلية، وتشغيل الطاقات الموجودة من الكوادر والمبادرات داخل سورية وعند السوريين في كل مكان.
أما المعضلة الرابعة فتتعلق بالرد على تحدي داعش، وما تمثله من تهديد لمكاسب الثورة برمتها، ومن مخاطر على وجود الدولة السورية نفسها. وفي هذا المجال، لم تبد المعارضة السياسية أي اهتمام يذكر ببلورة موقف موحد من هذا التنظيم الذي عمل بالتنسيق الموضوعي أو المدرك مع نظام الأسد، ولا في صوغ رؤية واضحة للطريقة التي ينبغي أن تواجه بها تقدم هذا التنظيم في مناطق المعارضة المحررة نفسها، واكتفت الفصائل المقاتلة بتبني موقف الدفاع عن النفس في المواقع التي تعرضت للهجوم فيها. وبالإجمال، لا تزال المعارضة مترددة في تقدير إمكانات تطور القوة الداعشية، ومخاطرها على الثورة والدولة السورية نفسها.
الحوار بين الفصائل مفتاح الحل
لا توجد حلول أخرى لحل المعضلة السياسية، وتجاوز الشرخ القائم في صفوف القوى السورية المناهضة للأسد ونظامه بين مشروعين، جهادي ووطني، سوى التفاهم، من خلال حوار منظم وطويل بين قادة الفصائل العسكرية المختلفة، والقادة السياسيين، على قاعدة إدارة هذا الخلاف واحتواء نتائجه ومخاطره، على أمل أن يعيد هذا الحوار بناء الثقة بين الأطراف، ويساعدها على تفهم مخاوف وقلق بعضها، والعمل، المضني ربما، لتشكيل حد أدنى من التوافق الوطني. من دون ذلك، سوف تخسر الثورة تضحياتها، ولن يكون من الممكن تحقيق أي انتقال سياسي ذي معنى. ولا ينبغي أن نتوهم، كما نفعل حتى الآن، أن هناك حلا في التصفيات المتبادلة، أو أن هناك في هذا المجال مكانا لتسويات عقائدية، يمكن انتزاعها بالوعظ والإقناع الديني أو الفكري، فالتصفيات، باسم التطرف وغيره، لن تقود إلا إلى تمديد أجل الحرب والنزاع، في وقت يعرف فيه الجميع أن المسائل العقائدية لا تقبل التسويات.
ما ينبغي تحقيقه، في المرحلة الأولى من الحوار، هو اتفاق على إدارة الخلافات، وتحييد بعض مجالات النشاط السياسي والعسكري والاجتماعي عنها. وهذا يعني أمرين: الأول، الاعتراف المتبادل بشرعية الخلاف العقائدي وحق الجميع في حرية الرأي والاعتقاد، والثاني، الاتفاق على القاعدة التي ينبغي أن تحكم الخلافات وتديرها بشكلٍ يضمن للجميع الاحترام والمشاركة، وفي الوقت نفسه الحد الأدنى من التفاهم والتعاون والتنسيق. وهناك، في نظري، قاعدة واحدة ممكنة لتحقيق هذا الهدف، هي رفض أن يقرر فريق وحده مصائر المجتمع والسياسة والدولة والدين، وجميعها موضوعات يثير الاستئثار بقرارها أو فرض كل فريق موقفه فيها على الآخرين ثوراتٍ لا تخمد، وخير مثال عليها ثورة آذار العظيمة نفسها التي قامت ضد الاستئثار بالقرار، وإقصاء المجتمع والشعب والاستفراد بالسلطة والرأي. وهذا يعني، أيضاً، أنه لا مخرج من الصراع ومخاطر اندلاع حروب جديدة، إلا بالتسليم من كل الأطراف بحق الشعب كمجموع، لا أي طرف بمفرده فيه، في تقرير الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية الكبرى، وهذا ما نسميه السياسة أو السياسات، وتحديد الأسوب الذي يريد أن يسود في حكم نفسه وإدارة شؤونه في كل الميادين. وهذه هي الوسيلة الوحيدة لضمان ممارسة الاختلاف في الرأي مع حفظ وحدة الشعب والبلد وضمان استقرار الدولة وفاعليتها وازدهار العمران.
بالنسبة لتعدد الفصائل والقيادات ومراكز القرار العسكري، حصل تقدم كبير في الأشهر القليلة الماضية، نتيجة تقارب الفصائل المقاتلة على مختلف الجبهات، وكان له نتائج بارزة على مكاسبها في الميدان. وهناك دول عديدة تسعى، أيضاً، إلى الضغط على بعض هذه الفصائل، لحثها على الالتزام بخطة عمل واحدة، لكن حركة التقارب والتنظيم الموحد لم تتعد المشاركة في غرف عمليات موحدة. ومن الصعب لهذه العملية أن تتقدم أكثر، ما لم تحل المعضلة السياسية التي تقسم المعارضة المسلحة أكثر من المعارضة السياسية، وهي، كما ذكرت، وجود مشروعين معلنين ومتناقضين للثورة على النظام: الأول مشروع الثورة المدنية الذي سعى النظام، بكل قوته، إلى تدمير أسسه، وتشريد حاضنته الشعبية وحوامله من النخب المدينية ونخب الطبقة الوسطى، تنفيذاً لخطته في تصوير الثورة على أنها حركة تمرد طائفية، لعزلها ونزع الشرعية عنها. ومشروع الحركة الجهادية الذي تعزز، مع مرور الوقت، وتوافد المجاهدين الأجانب وتوسع انتشار الثورة داخل الأرياف والمدن الصغيرة، وتلقيها المزيد من المعونات والدعم من المحيط العربي والإسلامي. ويعتقد أصحابه أن قتالهم لم يكن في سبيل تحرير الشعب وتسليمه مقاليد الأمور، وتمكينه من حقه في تقرير مصيره، وإنما في سبيل الله،
وبالتالي، تطبيق شرعه وشريعته، كما يفسرها رجال الدين المعترف بهم منهم.
ولن يمكن النجاح في تجاوز هذا الانقسام أو الشرخ من دون حسم المواقف السياسية، وإعادة العلاقة بين الفصائل والمؤسسات العسكرية القائمة، من غرف عمليات ومجالس قيادة في الجبهات، ومراكز إعلام مرتبطة بها، والتنظيمات السياسية أو الهيئات المختلفة العاملة على الصعيد السياسي، وتجاوز القطيعة القائمة بين القيادات العسكرية والقيادات السياسية والتفاهم على خطة المرحلة الانتقالية، التي ينبغي أن يكون محورها إنقاذ سورية، شعباً ووطناً ودولة، بصرف النظر عن أي طموحات أو تطلعات أو غايات أخرى.
وتجد المعارضة اليوم نفسها أمام فرصة نادرة لاستثمار الانهيار المعنوي والسياسي للنظام، حتى في نظر أصدقائه وحاضنته الاجتماعية، من أجل توجيه الضربة القاضية له، وهي بالتأكيد ضربة سياسية، قبل أن تكون عسكرية. وجوهر ما هو مطلوب منها لتحقيق ذلك، وانتزاع السلطة التي تنتظر من يلمها ويلتقطها، الارتقاء إلى مستوى اللحظة التاريخية، وتجاوز حالة التنافس والانقسام التي سادت في الفترة الماضية، ووضع قاعدة التعاون والتنسيق والتفاهم والدعم المتبادل محل قاعدة التنافس والتنازع على النفوذ. ليست اللحظة لحظة الانتقادات وسوق الاتهامات والتذكير بالمآخذ المتبادلة، وإنما لحظة التضامن والتعاون والتكتل من أجل سورية الواحدة، وإيجاد الحل المناسب للمعضلات الكبرى التي حالت، حتى الآن، دون انتصار السوريين، وأدت إلى خروج مقاليد الأمور من بين أيديهم، وإلى إضعاف العمل الوطني وإفشال مؤسسات المعارضة الثلاث، الائتلاف والمجلس العسكري الأعلى والحكومة المؤقتة، وسيطرة الدول على مصيرها.
أربع معضلات
المعضلة الأولى هي غياب الإجماع والتوافق السياسي، وهذا ما حال دون توحيد قوى الثورة، ووضعها في خدمة مشروع واحد، يشجع الشعب على الالتفاف من حوله. وللأسف، لم تساهم تجمعات المعارضة الكبرى، في المجلس الوطني ثم في الائتلاف الوطني السوري، كثيرا في مساعدة السوريين على تجاوز انقساماتهم، فبدل أن تعمل إطاراً لتجميع القوى وتوحيد الرؤية وتوليد إجماع سياسي، تحولت إلى منتديات مغلقة على أعضائها، وتجاهلت تساؤلات ومخاوف قطاعات الرأي العام السوري بأكملها، كما تجاهلت حاجات الفصائل العسكرية ومشكلاتها. وعندما حاولت الانفتاح، توجهت إلى قوى معارضة ثانوية أكثر هامشية منها، وأكثر بعداً عن مشكلات الشعب وعن الفصائل المسلحة معا، كهيئة التنسيق وتيار بناء الدولة، وأمثالهما. وبقيت تعتمد، في نفوذها ورصيدها، على دعم القوى العربية والدولية، ولم تبذل أي جهد لبناء قوة دعم داخلية، شعبية أو عسكرية، فعلية. ولا يختلف عن ذلك وضع تنظيمات المعارضة السياسية الأخرى التي بقيت تعيش على معارضة الائتلاف أو مناكفته، وتعاني من انفصال أكبر عن حركة الأحداث، وعن التفاعل مع حاجات ومطالب الجمهور والشعب. ولم تنجح المعارضة، بكل تنظيماتها، في تحقيق أي إنجاز سياسي، بعد مؤتمر توحيد مواقفها الذي عقد في القاهرة عام 2012.
والآن، وصلنا إلى اللحظة التي ندرك فيها أننا لن نستطيع إقناع السوريين، ولا المجتمع الدولي، بقدرتنا على إدارة الدولة، وحقنا في استعادتها من خاطفيها، من دون أن نقرر في اختياراتنا النهائية: دولة وطنية لشعبها من السوريين الذين عانوا أقسى المعاناة دفاعاً عنها، أو مسرحاً لحرب جهادية يشكل الشعب السوري وقودها، وسورية وحضارتها ومدنها ضحيتها الرئيسية.
والمعضلة الثانية هي التشتت الواسع للفصائل والقوى العسكرية، وامتناعها عن العمل تحت راية واحدة وقيادة مشتركة، تزيد من فاعليتها، وتحد من مخاطر واحتمالات تفجر النزاعات في ما بينها، وتعمل على توحيد جهودها وتنسيقها، للارتقاء بأدائها وتمكين قياداتها من العمل ضمن استراتيجية وخطة سياسية عسكرية شاملة، وتشكيل النواة التنظيمية للجيش الحر التي تسمح بدمج ما يتبقى من الجيش النظامي داخلها، بعد زوال النظام القائم. ويشكل هذا التشتت والتعدد في مراكز القوى والقرار العسكري مصدر خوف وقلق عميقين لقطاعات واسعة من الشعب السوري وللدول الداعمة، أو الرافضة بقاء الأسد، وتعطل إمكانية التوصل إلى تفاهم دولي، لوضع حد للمحنة السورية. وليس من المبالغة القول إن الدول الكبرى تخشى اليوم، بسبب تعدد الفصائل وتباين توجهاتها واحتمالات توسع دائرة نزاعاتها، من الانهيار المفاجئ لنظام الأسد أكثر مما تخشى من استمرار المأساة، خوفا من الانتقال إلى مزيد من الفوضى والحرب الشاملة.
والمعضلة الثالثة هي الفشل في تشكيل إدارة تتمتع بالحد الأدنى من الفاعلية، وتستجيب لحاجات السكان في المناطق المحررة، سواء ما يتعلق منها بتسيير مرافق الدولة والمؤسسات العامة والمجالس المحلية، أو بتقديم الخدمات والاستفادة من الكوادر والخبرات السورية، فقد كانت مساهمة الحكومة المؤقتة في إنجاز هذه المهام الرئيسية، مثل العدالة والقضاء والصحة والتعليم واستثمار الموارد ورعاية الشرائح المتضررة من اللاجئين والمهجرين والفقراء والمشردين، ضعيفة إلى درجة مؤسية. وقد أضعف هذا الفشل كثيراً من صدقية المعارضة، وشكك في مقدرتها على قيادة الانتقال إلى نظام ما بعد الأسد. وترجع أسباب هذا الفشل إلى تخبط المعارضة السياسية، الممثلة بالائتلاف الوطني، والتنازع المستمر الذي ميز أسلوب قيادته وتعامله مع الحكومة، كما ترجع إلى ضعف الدعم الخارجي المنتظر. لكن، قبل ذلك إلى عجز الحكومة نفسها عن تكوين هامش مبادرة لها، مهما كان محدوداً، تجاه الائتلاف والقوى الداعمة معا، ووجود خطة عمل للاستفادة من الموارد المحلية، وتشغيل الطاقات الموجودة من الكوادر والمبادرات داخل سورية وعند السوريين في كل مكان.
أما المعضلة الرابعة فتتعلق بالرد على تحدي داعش، وما تمثله من تهديد لمكاسب الثورة برمتها، ومن مخاطر على وجود الدولة السورية نفسها. وفي هذا المجال، لم تبد المعارضة السياسية أي اهتمام يذكر ببلورة موقف موحد من هذا التنظيم الذي عمل بالتنسيق الموضوعي أو المدرك مع نظام الأسد، ولا في صوغ رؤية واضحة للطريقة التي ينبغي أن تواجه بها تقدم هذا التنظيم في مناطق المعارضة المحررة نفسها، واكتفت الفصائل المقاتلة بتبني موقف الدفاع عن النفس في المواقع التي تعرضت للهجوم فيها. وبالإجمال، لا تزال المعارضة مترددة في تقدير إمكانات تطور القوة الداعشية، ومخاطرها على الثورة والدولة السورية نفسها.
الحوار بين الفصائل مفتاح الحل
لا توجد حلول أخرى لحل المعضلة السياسية، وتجاوز الشرخ القائم في صفوف القوى السورية المناهضة للأسد ونظامه بين مشروعين، جهادي ووطني، سوى التفاهم، من خلال حوار منظم وطويل بين قادة الفصائل العسكرية المختلفة، والقادة السياسيين، على قاعدة إدارة هذا الخلاف واحتواء نتائجه ومخاطره، على أمل أن يعيد هذا الحوار بناء الثقة بين الأطراف، ويساعدها على تفهم مخاوف وقلق بعضها، والعمل، المضني ربما، لتشكيل حد أدنى من التوافق الوطني. من دون ذلك، سوف تخسر الثورة تضحياتها، ولن يكون من الممكن تحقيق أي انتقال سياسي ذي معنى. ولا ينبغي أن نتوهم، كما نفعل حتى الآن، أن هناك حلا في التصفيات المتبادلة، أو أن هناك في هذا المجال مكانا لتسويات عقائدية، يمكن انتزاعها بالوعظ والإقناع الديني أو الفكري، فالتصفيات، باسم التطرف وغيره، لن تقود إلا إلى تمديد أجل الحرب والنزاع، في وقت يعرف فيه الجميع أن المسائل العقائدية لا تقبل التسويات.
بالنسبة لتعدد الفصائل والقيادات ومراكز القرار العسكري، حصل تقدم كبير في الأشهر القليلة الماضية، نتيجة تقارب الفصائل المقاتلة على مختلف الجبهات، وكان له نتائج بارزة على مكاسبها في الميدان. وهناك دول عديدة تسعى، أيضاً، إلى الضغط على بعض هذه الفصائل، لحثها على الالتزام بخطة عمل واحدة، لكن حركة التقارب والتنظيم الموحد لم تتعد المشاركة في غرف عمليات موحدة. ومن الصعب لهذه العملية أن تتقدم أكثر، ما لم تحل المعضلة السياسية التي تقسم المعارضة المسلحة أكثر من المعارضة السياسية، وهي، كما ذكرت، وجود مشروعين معلنين ومتناقضين للثورة على النظام: الأول مشروع الثورة المدنية الذي سعى النظام، بكل قوته، إلى تدمير أسسه، وتشريد حاضنته الشعبية وحوامله من النخب المدينية ونخب الطبقة الوسطى، تنفيذاً لخطته في تصوير الثورة على أنها حركة تمرد طائفية، لعزلها ونزع الشرعية عنها. ومشروع الحركة الجهادية الذي تعزز، مع مرور الوقت، وتوافد المجاهدين الأجانب وتوسع انتشار الثورة داخل الأرياف والمدن الصغيرة، وتلقيها المزيد من المعونات والدعم من المحيط العربي والإسلامي. ويعتقد أصحابه أن قتالهم لم يكن في سبيل تحرير الشعب وتسليمه مقاليد الأمور، وتمكينه من حقه في تقرير مصيره، وإنما في سبيل الله،
ولن يمكن النجاح في تجاوز هذا الانقسام أو الشرخ من دون حسم المواقف السياسية، وإعادة العلاقة بين الفصائل والمؤسسات العسكرية القائمة، من غرف عمليات ومجالس قيادة في الجبهات، ومراكز إعلام مرتبطة بها، والتنظيمات السياسية أو الهيئات المختلفة العاملة على الصعيد السياسي، وتجاوز القطيعة القائمة بين القيادات العسكرية والقيادات السياسية والتفاهم على خطة المرحلة الانتقالية، التي ينبغي أن يكون محورها إنقاذ سورية، شعباً ووطناً ودولة، بصرف النظر عن أي طموحات أو تطلعات أو غايات أخرى.
وغياب هذا التفاهم هو الذي يفسر فشل تجارب تجميع الفصائل المقاتلة في السنوات الماضية، من تجربة المجلس العسكري الأعلى إلى تجربة هيئة الأركان، ثم في ما بعد، وزارة الدفاع التابعة للحكومة المؤقتة.
وفي ما يتعلق بالحكومة المؤقتة والإدارة، فليس هناك أمل في توفير الحد الأدنى من الإدارة الفعالة، إن لم تقرر الفصائل والتنظيمات السياسية، التعاون معها، ودعمها وتجاوز الخلافات العقائدية والسياسية في التعامل معها، وما لم تقرر الحكومة المؤقتة نفسها أن تلتزم بصلاحياتها التنفيذية، وتكف عن تشتيت جهودها في أي أمور أخرى، كما فعلت حتى الآن.
وفي موضوع مواجهة تنظيم الدولة، فلا بد من خطة مواجهة دفاعية، في انتظار إنهاء الحرب الأسدية وإعادة تأهيل وهيكلة الجيش والدولة، والاستعانة بعد ذلك بقوى التحالف العربية والدولية.
والنتيجة سوف تستمر فصائل المعارضة المسلحة في تحقيق الانتصارات على الأرض، لأن قوى النظام قد تهالكت، ومن المحتمل أن تدفع مكاسبها إلى تقويض استقرار النظام أو انحسار نفوذه إلى منطقة ضيقة، وربما انهياره، قبل أن يستطيع حلفاؤه تقديم الدعم الكافي لمساعدته على الوقوف، لكنها لن تستطيع أن تضمن ولاء الشعب وانحيازه لها، ولا تحقيق التطلعات العميقة التي كانت وراء تضحيات السوريين الهائلة، ما لم تجد الحل لهذه المعضلات، وهو الحل الوحيد الذي يفتح طريق إعادة بناء الدولة، وتوحيد قوى الشعب، ويحيي الأمل في عودة الأمن والاستقرار، ويجنب البلاد حقبة ثانية من الحرب الأهلية بالمعنى الصحيح للكلمة.