23 سبتمبر 2024
المعارضة المصرية بين الاصطفاف والتعدّدية
تكشف بيانات المعارضة المصرية في الخارج ( المنفى)، أخيراً، عن وجود مشكلات هيكلية وفكرية، تحول دون التلاقي على أطر ومفاهيم مشتركة للتعامل مع الأزمة السياسية في مصر، ولعل تناول هذه البيانات الصادرة في الفترة (ديسمبر/ كانون الأول 2016 ـ يناير/ كانون الثاني 2017) يوضح الملامح الأساسية لتطور ميراث المعارضة في علاقاتها الداخلية والخارجية، ومدى نضج تصوراتها السياسية، ومن ثم، تظل إشكالية اتساع المناقشات حول "الاصطفاف" وعلاقتها بقبول التنوع. ولذلك، يشكل الارتباك في التعامل مع هذه المسألة مؤشراً مهماً على قدرات المعارضة في بناء التعدّدية والقبول بها.
الاقتراب من الاصطفاف
منذ الشروع في تكوين المعارضة في بداية العام 2014، ظهرت محاولات لتأطير كان من الأمور اللافتة، أنه على الرغم من توافق المعارضة على استعادة الشرعية إطاراً يعبر عن أهدافها المشتركة، ظهرت اتجاهاتٌ لإعادة تعريف الشرعية بطريقةٍ أقرب إلى بناء نظام ديمقراطي، وقد ارتبط هذا التغير بعاملين؛ ظهور حالة من التفكك الداخلي لمكونات المعارضة ترتبت عليها زيادة مساحة الاستقلالية في تبني خياراتٍ مختلفة، أما العامل الثاني، فيتمثل في دخول فئات أخرى للمعارضة، تميل توجهاتها نحو بناء الدولة على أسس ليبرالية أو اشتراكية. ولذلك، لا تبدو استعادة دستور 2012 مطلباً مهماً لديها.
ولمعالجة هذه المشكلة، صدرت أربعة بيانات، في شهري ديسمبر 2016 ـ ويناير الجاري 2017، تتناول العمل المشترك بين أطراف المعارضة، في مقدمتها "ميثاق الشرف الوطني" في 10 ديسمبر. حيث مكّن النظر إليه كمحاولة متأخرة لتعريف العلاقات البينية وتخفيف حدة الاستقطاب، وليس تطوير سياسات العمل المشترك، فالبيان لا يطرح أجندةً جديدةً، بقدر ما أنه يركز على فتح فرص الحوار الداخلي. وبالتالي، فإنه في ظل اختلاف الأولويات، سوف تتراجع الأهداف المشتركة من دون وضوح خريطة عمل لتناولها، بما يمثل تحدياً رئيسياً ينعكس سلباً على عمليات صياغة الأجندة، ويساهم في تباطؤ بناء التصورات حول مستقبل الدولة.
فقد انصب "ميثاق الشرف الوطني" على أهمية وقف خطاب الكراهية بين أطراف المعارضة من خلال التوافق على مبادئ عامة، تسعى إلى وقف الصراع، وتمنع الانحراف عن أهداف ثورة يناير ووقف التحريض. وبهذا المعنى، يضع الميثاق إطاراً ينظم العلاقة بين الأطراف السياسية، وعلى الرغم من أهمية أهدافه، فإنه لم يحدّد سياقاً لتطوير العمل السياسي أو نظرية التغيير، سوى الحديث عن تشكيل "لجنة حكماء". وهنا، تمكن الإشارة إلى أن ظهور البيان يعكس عمق التباينات الداخلية في المعارضة تجاه مسألة الاصطفاف.
كما يشير بيان "توحيد قوى الثورة" ( 26 ديسمبر 2016) إلى عدد من "الثوابت الثورية" إطاراً ملزماً لكل الأطراف المعارضة، يرتبط بأهداف "ثورة يناير" وتطلعاتها، واستعادة
الشرعية، وبشكل عام يشير اتجاه البيان لتبني الخط الثوري وصولاً لـ" دحر الانقلاب" وبالاستعادة التامة لوضع ما قبل يوليو/ تموز 2013، ويمكن القول إن رفع سقف التطلعات يتجاهل حالة التذبذب في مواقف المعارضة وأدائها خلال السنوات الماضية، وهي لغةٌ كانت مناسبةً للحظة تنحّي حسني مبارك، ومن ثم، فإن طرحها على هذا النحو يعكس نمطاً من التقاليد الخطابية الخالية من التقييم والمراجعة السياسية.
وكانت لافتةً دعوة "المجلس الثوري" (6 يناير 2017) للتوقف عن شراء الصحف، باعتبارها من مصادر دخل السلطة، وهي اجتهادات تنقطع عن التطور، سواء في بنية الإعلام والاتصال أو عدم مراعاة التغيير في تركيبة النظم السياسية، فإن اتساع الصحافة الإلكترونية والنطاقات الافتراضية، وتراجع السيطرة على النشر، يكشف أن هذه الأفكار هي أقرب إلى أنماط المعارضة في النصف الثاني من القرن الماضي.
قد يفسر هذا الوضع جانباً من التحولات التي شهدها "المجلس الثوري"، بعد انقساماته الداخلية، بطريقةٍ أدّت إلى تراجعه من الإطار السياسي، ليكون أحد الأشكال الاجتماعية للمعارضين في المنفى، وخصوصاً بعد خروج المجموعات الأكثر نشاطاً أو انسحابها، ما أدى إلى انحسار الوجوه السياسية المعروفة للمهتمين بالشأن العام، كما أنه من الملاحظ أن إعادة تشكيله لم تكن بعيدةً عن الخلافات الداخلية في جماعة الإخوان المسلمين وصراع الأدوار مع "مكتب إدارة الأزمة في الخارج". ولعل المفارقة الأساسية تتمثل في أنه، على الرغم من اضطلاع "المجلس الثوري" بعبء الاصطفاف السياسي، فإنه شهد انقساماتٍ داخلية، أدخلته في أزمةٍ مع أطراف المعارضة الأخرى.
وفي ظل هذا التباين، لم تنجح محاولات بناء موقفٍ متقارب. وهنا، يمكن النظر إلى حملة "يناير يجمعنا" (3 يناير 2017) إعلاناً عن فرصةٍ للتعامل مع مناسبة سنوية، وليس إطاراً لعمل سياسي مشترك، فعلى الرغم من تناول البيان مطالب مكافحة الفساد والعدالة الانتقالية، لم يكشف عن توفر سياساتٍ تقوم على معالجة اختلال الإطار السياسي للمعارضة.
قيود المعارضة
وبشكل عام، تكشف البيانات الصادرة، في هذه الفترة، عن الخصائص الملازمة للمعارضة المصرية، في مقدمتها أنها تعبر عن انحدارٍ واضح في البنية التنظيمية للمعارضة، فمن الملاحظ هيمنة الطابع الفردي والشخصي في التوقيع على ميثاق الشرف، وغيره من البيانات، حيث تم ترويج تنوع المشاركين فيه ظاهرةً إيجابية في العمل السياسي.
غير أن هذا الوضع يكشف عن المشكلات التنظيمية التي تواجه المعارضة، فمن جانبٍ أول، أنه بعد مرور ثلاث سنوات، يوضح الطابع الفردي، وليس التمثيلي للمشاركين، أن المعارضة تسير نحو التفكك، وبشكل يشير إلى تراجع المؤسسية، فقد كشف "الميثاق" عن تغيّر مهم في أحد مكوّنات المعارضة، حيث ساهم في تفكيك "برلمان المنفى" (البرلمان المصري في الخارج)، وذلك عندما صنف المشاركين نواباً سابقين، وهي صيغةٌ تقضي على فكرة الثورية، وتنقلها إلى حالة المعارضة.
أما الجانب الثاني، فتمكن قراءة البيانات باعتبارها محاولاتٍ لإبراز الطابع الشعبوي للمعارضة،
غير أن هيمنة المشاركين في الخارج في التوقيع على البيانات توضح أن قدرات المعارضة في التعبير عن نفسها ظاهرة سياسية ارتبطت بالمقيمين في الخارج، باعتبارهم المكون الأكثر ظهوراً وتعبيراً عن الشأن السياسي. وبالنظر إلى قائمة المشاركين في البيان (توحد قوى الثورة)، يتضح أنهم خمس منظمات حديثة النشأة، تقع ضمن تصنيف منظماتٍ مدنية، يقع مقرّها في الولايات المتحدة، وأفراد عديدين مقيمين في الخارج، وتمكن ملاحظة أن هذا الخطاب هو امتداد لأفكار "المجلس الثوري" الواردة في البيان التأسيسي (أغسطس/ آب 2014).
كما لازمت معضلة الاصطفاف نشاط المعارضة، وهي معضلةٌ تكمن في الخلاف حول الأجندة السياسية واختلاف البنية التنظيمية، وليس في استيعاب أطراف المعارضة ضمن تفاهم الحد الأدنى، فبينما يذهب اتجاه إلى التركيز على تحقق المبادئ الديمقراطية والدولة المدنية (إعلان بروكسل 7 مايو/ أيار 2014)، وهي مسائل تضمنتها بياناتٌ لاحقة أخرى، فإن ثمة اتجاها آخر يتبنى استعادة الوضع السياسي المترتب على دستور 2012، ويعكس هذا الجدل، ليس فقط الخلاف حول إمكانية الوصول إلى الديمقراطية أو الارتكاز على الإرادة الشعبية، بل بالأساس الخلاف حول تصوّر الدور السياسي لجماعة الإخوان المسلمين. ولذلك، تشكل مسألة "استعادة الشرعية" قلقاً مشتركاً لدى بعض أطراف المعارضة، حيث ترتبط بفكرة توزيع السلطة والقيود التي تفرضها على بناء نظام جديد، فخبرة الاستقطاب السياسي منذ 2011 لا تزال ماثلةً في وعي الكيانات والأحزاب السياسية، وتشير إلى قدر كبير من أزمة الثقة في ما بينها.
ولعله من الخصائص المهمة ما يتعلق بتآكل العمر الافتراضي للمبادرات والبيانات، فصدورها بشكل متتالٍ ومتقارب زمنياً، لا يعكس فقط مستوى الخلاف حول مسائل أساسية، لكنه يعكس أيضاً ندرة الأفكار الحيوية التي تؤدي إلى الانتقال إلى مرحلةٍ أخرى، فالإعلانات المتتالية للمعارضة تكشف عن سيولة المواقف السياسية أو تفككها، بشكلٍ يضعف الثقة في أن تؤدي البيانات الجماعية إلى تغيّر نوعي، يساهم في تحولها إلى جبهةٍ معارضة، فقد ظلت متوافقةً على "إسقاط الانقلاب"، لكنها كانت مختلفةً على مفهوم "استعادة الشرعية". وفي ظل صعوبة الفصل بين الموضوعين، لم يحدث تكاملٌ للأجندة السياسية للمعارضة، ودخلت في حالاتٍ من الاستقطاب والمزايدة حول عودة إلى وضع ما قبل 3 يوليو 2013 وبين الوصول إلى نظام ديمقراطي تعدّدي.
وثمّة مشكلة أخرى لا تقل أهمية، وهي تتعلق بتصنيف الكيانات والأفراد على تقاربهم أو تباعدهم عن الثورة أو المعارضة. وهنا، يمكن القول إن الخلافات التنظيمية لا تقتصر فقط على تباين حجم التنظيمات المعارضة وانقساماتها الداخلية، ولكنها تتعلق بوجود توجهاتٍ استبعادية واحتكارية للتغيير السياسي. وعلى الرغم من ارتباط هذه الظاهرة بمشكلات الثقة، فإن استمرارها يكشف قصور المعارضة عن التقدّم السياسي باتجاه استيعاب الخلاف حول مسألة "الشرعية" وتفهمها، ومدى اعتبارها أساساً للتعاون والاستبعاد.
المنفى ونزيف السياسة
على الرغم من سعي المعارضة إلى طرح نفسها ممثلاً لمصر على المستوى الدولي كـ"حكومة شرعية"، فإن قدراتها السياسية قصّرت عن تحقيق أهدافها الأساسية، وكانت النتائج عكسية، وظهرت آثارها في أشكالٍ كان أهمها انحسار تواصلها السياسي مع الدول والمنظمات الدولية، واقتصاره على بعض الجوانب الإنسانية، وتراجع تأثيرها على السياسة المصرية. وبمرور الوقت، واجهت أوضاعاً أخرى، حيث تبلورت مشكلاتٌ اجتماعيةٌ ساهمت في تراجع زخم المعارضة ونشاطها في الخارج.
وعلى المستوى الإعلامي، استفادت المعارضة من التغطية الإعلامية للشؤون المصرية، وأيضاً،
تمكّنت من إنشاء قنوات فضائيةٍ، تحت مسمى "إعلام الثورة"، وهي بمثابة منابر مهمة لنشر خطابها الإعلامي تجاه التعامل مع الأزمة السياسية في مصر، وظهرت مجموعة من البرامج لنقض أداء السياسة المصرية، كما ظهرت نوعية من البرامج لا ترتبط بالسياسة، بقدر ما ترتبط بالفن والثقافة، وهي برامج ضعيفة الارتباط بالخطاب الثوري.
غير أنه، بشكل عام، لم يعكس "إعلام الثورة" سياسة إعلامية متماسكة، تستند إلى معايير تقييم الأداء السياسي، وكانت أكثر ميلاً إلى التعبير عن أفكار متناثرة، قليلة الاهتمام بالسياسات البديلة لبناء الدولة. ولذلك، ظلت الحالة الاحتجاجية السمة الرئيسية التي تواجه الإعلام والاتصال، وتمكن قراءتها انعكاساً لضعف الإطار السياسي وندرة الرؤية الاستشرافية، على الرغم من الميزات والوفورات التي لقيها الإعلام في الخارج.
لم يكن فقدان الميزات الشكل الوحيد لأداء المعارضة، لكنها بدأت في الانتقال إلى مرحلة تشكل فيها عبئاً على الأطراف المتسامحة معها، فاستمرار تركز الأنشطة في تركيا، من دون وضوح جدواها السياسية، يكشف عن مشكلةٍ في إدراك الأبعاد الجيوسياسية للعلاقات بين الدول أو التغيرات الإقليمية والدولية الراهنة، فمن جهةٍ، تشير خبرات المعارضة في المنفى إلى أن الدول المضيفة ليست على استعدادٍ دائم للمضي في تبني سياسة عدائية بسبب مشكلة تمكن تسويتها، ومن جهةٍ أخرى، تبدو التقلبات الحالية، في الشرق الأوسط، مختلفةً بشكل كبير عن أوضاع السنوات الماضية، فقد تشكّلت عوامل تدفع باتجاه إعادة النظر في سياساتٍ إقليمية كثيرة، وبشكل يؤثر على المعارضة المصرية.
يشير الوضع الراهن إلى تضاؤل تحقيق أهداف المعارضة في المنفى، وهي نتيجة ترتبط بغموض رؤيتها وتشتتها حول الأزمة السياسية، حيث يزداد انطباعٌ بتراجع القناعة بالمعارضة بديلاً أو طرفاً سياسياً، وهي انعكاس لتشتت قدرات النخبة السياسية واهتماماتها وتحولاتها، سواء بسبب الصراعات الداخلية للهيمنة على الكيانات المعارضة في الخارج، أو تذبذب خطها السياسي، وهو ما يمكن اعتباره من مؤشرات تراجع الجدوى السياسية للمعارضة، وهذا ما أدى إلى نتيجتين؛ تدهور فاعليتها وتزايد نخبويتها، وانصراف البلدان المضيفة عن مساندتها وانخفاض الثقة في قدراتها.
يمكن القول إن هذه النتائج ترجع إلى مغالاة تقديرات المعارضة بإمكانية "إسقاط الانقلاب"، ما أنشأ فجوة توقعاتٍ دعمت عدم الاهتمام بالقضايا الفكرية المتعلقة بالتغيير السياسي، أو مراجعة سياساتها، وهناك قلقٌ من احتمال تحول معارضة المنفى إلى حالةٍ وظيفية.
الاقتراب من الاصطفاف
منذ الشروع في تكوين المعارضة في بداية العام 2014، ظهرت محاولات لتأطير كان من الأمور اللافتة، أنه على الرغم من توافق المعارضة على استعادة الشرعية إطاراً يعبر عن أهدافها المشتركة، ظهرت اتجاهاتٌ لإعادة تعريف الشرعية بطريقةٍ أقرب إلى بناء نظام ديمقراطي، وقد ارتبط هذا التغير بعاملين؛ ظهور حالة من التفكك الداخلي لمكونات المعارضة ترتبت عليها زيادة مساحة الاستقلالية في تبني خياراتٍ مختلفة، أما العامل الثاني، فيتمثل في دخول فئات أخرى للمعارضة، تميل توجهاتها نحو بناء الدولة على أسس ليبرالية أو اشتراكية. ولذلك، لا تبدو استعادة دستور 2012 مطلباً مهماً لديها.
ولمعالجة هذه المشكلة، صدرت أربعة بيانات، في شهري ديسمبر 2016 ـ ويناير الجاري 2017، تتناول العمل المشترك بين أطراف المعارضة، في مقدمتها "ميثاق الشرف الوطني" في 10 ديسمبر. حيث مكّن النظر إليه كمحاولة متأخرة لتعريف العلاقات البينية وتخفيف حدة الاستقطاب، وليس تطوير سياسات العمل المشترك، فالبيان لا يطرح أجندةً جديدةً، بقدر ما أنه يركز على فتح فرص الحوار الداخلي. وبالتالي، فإنه في ظل اختلاف الأولويات، سوف تتراجع الأهداف المشتركة من دون وضوح خريطة عمل لتناولها، بما يمثل تحدياً رئيسياً ينعكس سلباً على عمليات صياغة الأجندة، ويساهم في تباطؤ بناء التصورات حول مستقبل الدولة.
فقد انصب "ميثاق الشرف الوطني" على أهمية وقف خطاب الكراهية بين أطراف المعارضة من خلال التوافق على مبادئ عامة، تسعى إلى وقف الصراع، وتمنع الانحراف عن أهداف ثورة يناير ووقف التحريض. وبهذا المعنى، يضع الميثاق إطاراً ينظم العلاقة بين الأطراف السياسية، وعلى الرغم من أهمية أهدافه، فإنه لم يحدّد سياقاً لتطوير العمل السياسي أو نظرية التغيير، سوى الحديث عن تشكيل "لجنة حكماء". وهنا، تمكن الإشارة إلى أن ظهور البيان يعكس عمق التباينات الداخلية في المعارضة تجاه مسألة الاصطفاف.
كما يشير بيان "توحيد قوى الثورة" ( 26 ديسمبر 2016) إلى عدد من "الثوابت الثورية" إطاراً ملزماً لكل الأطراف المعارضة، يرتبط بأهداف "ثورة يناير" وتطلعاتها، واستعادة
وكانت لافتةً دعوة "المجلس الثوري" (6 يناير 2017) للتوقف عن شراء الصحف، باعتبارها من مصادر دخل السلطة، وهي اجتهادات تنقطع عن التطور، سواء في بنية الإعلام والاتصال أو عدم مراعاة التغيير في تركيبة النظم السياسية، فإن اتساع الصحافة الإلكترونية والنطاقات الافتراضية، وتراجع السيطرة على النشر، يكشف أن هذه الأفكار هي أقرب إلى أنماط المعارضة في النصف الثاني من القرن الماضي.
قد يفسر هذا الوضع جانباً من التحولات التي شهدها "المجلس الثوري"، بعد انقساماته الداخلية، بطريقةٍ أدّت إلى تراجعه من الإطار السياسي، ليكون أحد الأشكال الاجتماعية للمعارضين في المنفى، وخصوصاً بعد خروج المجموعات الأكثر نشاطاً أو انسحابها، ما أدى إلى انحسار الوجوه السياسية المعروفة للمهتمين بالشأن العام، كما أنه من الملاحظ أن إعادة تشكيله لم تكن بعيدةً عن الخلافات الداخلية في جماعة الإخوان المسلمين وصراع الأدوار مع "مكتب إدارة الأزمة في الخارج". ولعل المفارقة الأساسية تتمثل في أنه، على الرغم من اضطلاع "المجلس الثوري" بعبء الاصطفاف السياسي، فإنه شهد انقساماتٍ داخلية، أدخلته في أزمةٍ مع أطراف المعارضة الأخرى.
وفي ظل هذا التباين، لم تنجح محاولات بناء موقفٍ متقارب. وهنا، يمكن النظر إلى حملة "يناير يجمعنا" (3 يناير 2017) إعلاناً عن فرصةٍ للتعامل مع مناسبة سنوية، وليس إطاراً لعمل سياسي مشترك، فعلى الرغم من تناول البيان مطالب مكافحة الفساد والعدالة الانتقالية، لم يكشف عن توفر سياساتٍ تقوم على معالجة اختلال الإطار السياسي للمعارضة.
قيود المعارضة
وبشكل عام، تكشف البيانات الصادرة، في هذه الفترة، عن الخصائص الملازمة للمعارضة المصرية، في مقدمتها أنها تعبر عن انحدارٍ واضح في البنية التنظيمية للمعارضة، فمن الملاحظ هيمنة الطابع الفردي والشخصي في التوقيع على ميثاق الشرف، وغيره من البيانات، حيث تم ترويج تنوع المشاركين فيه ظاهرةً إيجابية في العمل السياسي.
غير أن هذا الوضع يكشف عن المشكلات التنظيمية التي تواجه المعارضة، فمن جانبٍ أول، أنه بعد مرور ثلاث سنوات، يوضح الطابع الفردي، وليس التمثيلي للمشاركين، أن المعارضة تسير نحو التفكك، وبشكل يشير إلى تراجع المؤسسية، فقد كشف "الميثاق" عن تغيّر مهم في أحد مكوّنات المعارضة، حيث ساهم في تفكيك "برلمان المنفى" (البرلمان المصري في الخارج)، وذلك عندما صنف المشاركين نواباً سابقين، وهي صيغةٌ تقضي على فكرة الثورية، وتنقلها إلى حالة المعارضة.
أما الجانب الثاني، فتمكن قراءة البيانات باعتبارها محاولاتٍ لإبراز الطابع الشعبوي للمعارضة،
كما لازمت معضلة الاصطفاف نشاط المعارضة، وهي معضلةٌ تكمن في الخلاف حول الأجندة السياسية واختلاف البنية التنظيمية، وليس في استيعاب أطراف المعارضة ضمن تفاهم الحد الأدنى، فبينما يذهب اتجاه إلى التركيز على تحقق المبادئ الديمقراطية والدولة المدنية (إعلان بروكسل 7 مايو/ أيار 2014)، وهي مسائل تضمنتها بياناتٌ لاحقة أخرى، فإن ثمة اتجاها آخر يتبنى استعادة الوضع السياسي المترتب على دستور 2012، ويعكس هذا الجدل، ليس فقط الخلاف حول إمكانية الوصول إلى الديمقراطية أو الارتكاز على الإرادة الشعبية، بل بالأساس الخلاف حول تصوّر الدور السياسي لجماعة الإخوان المسلمين. ولذلك، تشكل مسألة "استعادة الشرعية" قلقاً مشتركاً لدى بعض أطراف المعارضة، حيث ترتبط بفكرة توزيع السلطة والقيود التي تفرضها على بناء نظام جديد، فخبرة الاستقطاب السياسي منذ 2011 لا تزال ماثلةً في وعي الكيانات والأحزاب السياسية، وتشير إلى قدر كبير من أزمة الثقة في ما بينها.
ولعله من الخصائص المهمة ما يتعلق بتآكل العمر الافتراضي للمبادرات والبيانات، فصدورها بشكل متتالٍ ومتقارب زمنياً، لا يعكس فقط مستوى الخلاف حول مسائل أساسية، لكنه يعكس أيضاً ندرة الأفكار الحيوية التي تؤدي إلى الانتقال إلى مرحلةٍ أخرى، فالإعلانات المتتالية للمعارضة تكشف عن سيولة المواقف السياسية أو تفككها، بشكلٍ يضعف الثقة في أن تؤدي البيانات الجماعية إلى تغيّر نوعي، يساهم في تحولها إلى جبهةٍ معارضة، فقد ظلت متوافقةً على "إسقاط الانقلاب"، لكنها كانت مختلفةً على مفهوم "استعادة الشرعية". وفي ظل صعوبة الفصل بين الموضوعين، لم يحدث تكاملٌ للأجندة السياسية للمعارضة، ودخلت في حالاتٍ من الاستقطاب والمزايدة حول عودة إلى وضع ما قبل 3 يوليو 2013 وبين الوصول إلى نظام ديمقراطي تعدّدي.
وثمّة مشكلة أخرى لا تقل أهمية، وهي تتعلق بتصنيف الكيانات والأفراد على تقاربهم أو تباعدهم عن الثورة أو المعارضة. وهنا، يمكن القول إن الخلافات التنظيمية لا تقتصر فقط على تباين حجم التنظيمات المعارضة وانقساماتها الداخلية، ولكنها تتعلق بوجود توجهاتٍ استبعادية واحتكارية للتغيير السياسي. وعلى الرغم من ارتباط هذه الظاهرة بمشكلات الثقة، فإن استمرارها يكشف قصور المعارضة عن التقدّم السياسي باتجاه استيعاب الخلاف حول مسألة "الشرعية" وتفهمها، ومدى اعتبارها أساساً للتعاون والاستبعاد.
المنفى ونزيف السياسة
على الرغم من سعي المعارضة إلى طرح نفسها ممثلاً لمصر على المستوى الدولي كـ"حكومة شرعية"، فإن قدراتها السياسية قصّرت عن تحقيق أهدافها الأساسية، وكانت النتائج عكسية، وظهرت آثارها في أشكالٍ كان أهمها انحسار تواصلها السياسي مع الدول والمنظمات الدولية، واقتصاره على بعض الجوانب الإنسانية، وتراجع تأثيرها على السياسة المصرية. وبمرور الوقت، واجهت أوضاعاً أخرى، حيث تبلورت مشكلاتٌ اجتماعيةٌ ساهمت في تراجع زخم المعارضة ونشاطها في الخارج.
وعلى المستوى الإعلامي، استفادت المعارضة من التغطية الإعلامية للشؤون المصرية، وأيضاً،
غير أنه، بشكل عام، لم يعكس "إعلام الثورة" سياسة إعلامية متماسكة، تستند إلى معايير تقييم الأداء السياسي، وكانت أكثر ميلاً إلى التعبير عن أفكار متناثرة، قليلة الاهتمام بالسياسات البديلة لبناء الدولة. ولذلك، ظلت الحالة الاحتجاجية السمة الرئيسية التي تواجه الإعلام والاتصال، وتمكن قراءتها انعكاساً لضعف الإطار السياسي وندرة الرؤية الاستشرافية، على الرغم من الميزات والوفورات التي لقيها الإعلام في الخارج.
لم يكن فقدان الميزات الشكل الوحيد لأداء المعارضة، لكنها بدأت في الانتقال إلى مرحلة تشكل فيها عبئاً على الأطراف المتسامحة معها، فاستمرار تركز الأنشطة في تركيا، من دون وضوح جدواها السياسية، يكشف عن مشكلةٍ في إدراك الأبعاد الجيوسياسية للعلاقات بين الدول أو التغيرات الإقليمية والدولية الراهنة، فمن جهةٍ، تشير خبرات المعارضة في المنفى إلى أن الدول المضيفة ليست على استعدادٍ دائم للمضي في تبني سياسة عدائية بسبب مشكلة تمكن تسويتها، ومن جهةٍ أخرى، تبدو التقلبات الحالية، في الشرق الأوسط، مختلفةً بشكل كبير عن أوضاع السنوات الماضية، فقد تشكّلت عوامل تدفع باتجاه إعادة النظر في سياساتٍ إقليمية كثيرة، وبشكل يؤثر على المعارضة المصرية.
يشير الوضع الراهن إلى تضاؤل تحقيق أهداف المعارضة في المنفى، وهي نتيجة ترتبط بغموض رؤيتها وتشتتها حول الأزمة السياسية، حيث يزداد انطباعٌ بتراجع القناعة بالمعارضة بديلاً أو طرفاً سياسياً، وهي انعكاس لتشتت قدرات النخبة السياسية واهتماماتها وتحولاتها، سواء بسبب الصراعات الداخلية للهيمنة على الكيانات المعارضة في الخارج، أو تذبذب خطها السياسي، وهو ما يمكن اعتباره من مؤشرات تراجع الجدوى السياسية للمعارضة، وهذا ما أدى إلى نتيجتين؛ تدهور فاعليتها وتزايد نخبويتها، وانصراف البلدان المضيفة عن مساندتها وانخفاض الثقة في قدراتها.
يمكن القول إن هذه النتائج ترجع إلى مغالاة تقديرات المعارضة بإمكانية "إسقاط الانقلاب"، ما أنشأ فجوة توقعاتٍ دعمت عدم الاهتمام بالقضايا الفكرية المتعلقة بالتغيير السياسي، أو مراجعة سياساتها، وهناك قلقٌ من احتمال تحول معارضة المنفى إلى حالةٍ وظيفية.