المعنى الشرقي للاستبداد العادل

11 نوفمبر 2014

عمل بصري لـ(أوكلاد ديبي)

+ الخط -

لم يجد الذين طالبوا بالاستبداد العادل في العالم العربي، حلاً من أجل تحقيق التقدم الحضاري، يوماً، عيباً في الدعوة إلى حصر المشاركة والمشاورة في يد "نخبة" دون سائر "الجماهير"، معتقدين أن الناس لا يختارون الشخص الأفضل، والقرار الأفضل، بالضرورة، ما يعني أن إشراكهم في كل قرار سيعطل فرص التقدم، وبذلك يصير حصر الخيار والقرار بيد "أصحاب الرأي" واجباً لا فكاك منه.

والحال أنه حتى لو كان مفهوم "المستبد العادل"، بحسب ما نستعمله في لغتنا اليوم، يختلف عن الذي كان مقصوداً في تراثنا العربي والإسلامي، وفي التراث الشرقي عموماً، كما كان يؤكد المفكر الراحل، محمد عابد الجابري، إذ كان يُقصد به الحزم، لا الطغيان والظلم، فإن الاستبداد يظل، في كل الأحوال، نقيضاً للمفهوم الغربي للديمقراطية، وبديلاً لها. فالاستبداد، حتى لو كان عادلاً، لا يتيح فرصة المشاركة في القرار لجميع الناس، كما تفعل الديمقراطية الغربية، بل يحصره في يد الحاكم والنخبة التي يشاورها.

هكذا يكون "حصر القرار بيد أصحاب الرأي"، المعنى الذي ما يمكن استقاؤه من كل الطروحات المطالبة بـ"الاستبداد العادل"، منذ أُعيد طرح هذا المفهوم في ثقافتنا قبل نحو قرن، فكل مناهضة لفكرة الديمقراطية، بدعوى أنها تتيح حرية القرار لكل من "هبّ ودبّ!"، إنما تُطالب ضمنياً بالاستبداد العادل، من دون أن تصرّح بذلك علناً، متخفية، في معظم الأحيان، تحت مصطلحات تُستقى من المفاهيم الإسلامية، مثل "الشورى".

نحن، إذن، أمام طرحين من أجل النهوض والتقدم: الديمقراطية الكاملة، والاستبداد العادل، الذي هو بشكل أو بآخر، ديمقراطية لنخبة بعينها يختارها الحاكم المستبد، العادل. فأيهما يمكن أن نختار، لو كان لنا أن نختار؟!

أوضحت التجارب الأكثر قرباً التي عايشناها في مجتمعاتنا العربية، كم أن "الجماهير" غارقة في تفاصيل حياتها الصغيرة، إلى درجة يسهل معها انقيادها لمن لا يملكون فهماً استراتيجياً لمصالح الأمة، إذا ما كانوا قادرين فقط على تحقيق مصالح آنية وفردية وثانوية. "الجماهير" غير المؤهلة لا تنفعها الديمقراطية، بمعناها الكلاسيكي، بل تعيقها، وهذه حقيقة جلية لكل ذي بصيرة. فالوعي يجب أن يكون سابقاً على الديمقراطية، ولا نفع منها بدونه.

هذا، على أي حال، ما أثبتته تجربة شرقية ليست بعيدة عن عالمنا العربي، بالمعنى الحضاري، هي التجربة الصينية المعاصرة. الصين، بالطبع، ليست "دولة ديمقراطية" بالمقاييس الغربية، لكن غياب هذه الديمقراطية الغربية لم يُعق تقدمها، بل يمكن القول إن ذلك الغياب هو الذي مكّن من إنجاز النهضة الصينية، في بضعة عقود، لأنه خوّل القيادة الصينية المخلصة، استخدام الاستبداد، بمعنى الحزم، في إيقاظ الأمة الصينية، ووضعها على سكة العمل الدؤوب من أجل ازدهار الدولة.

من العبارات المشهورة للزعيم الصيني دينغ شياو بنغ، رائد النهضة الصينية، قوله لشعبه متعهداً، في بداية حكمه أواخر سبعينيات القرن العشرين: "أنتم تتركون السياسة لي، وأنا أقودكم للرخاء"، وهذا هو بالضبط المعنى الشرقي للاستبداد العادل، الذي يشير إلى حاكم غير متردد، يعمل على تعبئة الأمة من أجل إنجاز أهدافها الكبرى، في وقتٍ يحرص فيه على "إنزال الناس منازلهم"، وتحقيق العدل بينهم، فيستمد شرعية استبداده من إنجازه الأهداف الكبرى، وحفظ مصالح الناس الخاصة والآنية. ولم يكن دينغ في استبداده العادل ديكتاتوراً بالمعنى المعروف للكلمة، إذ لم يسلك طريق "عبادة الفرد"، بل قدّم مصالح الدولة على الأيديولوجيا والأفكار الجاهزة، بما يستدعيه ذلك من إعادة تقييم وتعديل قراراته وخططه باستمرار. وها قد أفضى ذلك النهج إلى النجاحات المبهرة التي تعيشها الصين اليوم.

منطقي، إذن، أن تحيلنا الاتهامات الغربية للصين بعدم احترام حقوق الإنسان، التي تحاول أن توحي بطغيان النخبة الصينية التي تقود الدولة، وافتقادها للعدل، إلى التساؤل التالي: هل مشكلة القيادة الصينية بالنسبة للغرب، يا تُرى، أنها مستبدة لم تحقق العدل، أم أنها مستبدة حققت النهضة؟!

منذ انتشرت في العالم العربي مطالبات الوحدة والحرية، في الربع الثاني من القرن العشرين، والسياسيون يستمدون أفكارهم من التجارب الغربية، التي نجحت في مجتمعات ليست كمجتمعاتنا. لكننا فشلنا في تحقيق أي تقدم، وبقينا، في الوقت نفسه، نعيش في استبداد مطلق. أفلم يحن الوقت للنظر شرقاً، والاعتبار من تجارب نجحت في مجتمعاتٍ، لا تختلف كثيراً عن مجتمعاتنا؟!

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.