31 أكتوبر 2024
المغرب.. التنمية المُعتلّة
أصدر المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي أخيرا تقريرا عن الانقطاع الدراسي في المغرب ما بين 2014 و2018. وحسب هذا التقرير، فقد غادر ''431.876 تلميذا وتلميذة أسلاك التعليم المدرسي العمومي سنة 2018 قبل الحصول على شهادة. وينتمي 78% منهم إلى سلكي التعليم الابتدائي والإعدادي، وهما السلكان اللذان يُفترض فيهما أن يحافظا على الأطفال في المدرسة حتى بلوغهم سن الخامسة عشرة على الأقل''.
ليست هذه البيانات مستقـاةً من تقرير إحدى المنظمات غير الحكومية الدولية أو الوطنية، بل كشفت عنها هيئة رسمية. وإذا كان الدستور المغربي ينص على أن مهمةَ المجلس ''إبداءُ الآراء حول السياسات العمومية التي تهم التربية والتكوين والبحث العلمي، والإسهامُ في تقييمها''، فإن ما خلص إليه المجلس بشأن الانقطاع الدراسي يفتح الباب أمام سيلٍ من الأسئلة حول السياسات العمومية في المغرب، وإخفاقِها المدوّي في وقف النزيف الذي تعرفه المنظومة التربوية المغربية منذ عقود.
لم تعد هذه المنظومة معنيةً بالاشتباك برهانات التحديث والتنوير والتنمية، بقدر ما أصبحت أولوياتها تنحصر في وقف هذا النزيف، ضمن رؤيةٍ تقنيةٍ تعزل هذه المنظومة عن حاجات المجتمع المغربي وتطلعاته، وتُلحقها بما تفرضه التوازنات المالية والسياسية والاجتماعية من إكراهات. وقد أثبتت الوقائع أن التوسل بهذه الرؤية يُفضي إلى إعادة إنتاج الأمية وتفشيها، بصيغ جديدة، داخل المجتمع، مع ما يواكب ذلك من ارتفاع تكاليف استمرار وضع هذه المنظومة على ما هو عليه، ما يعيد إلى الواجهة سؤال التنمية في صيغه الجديدة التي بات يُطرح بها منذ أعلن الملك محمد السادس، قبل أكثر من سنتين، فشل النموذج التنموي المتبع في المغرب.
ولعلها مفارقةٌ دالةٌ أن يتزامن صدور تقرير المجلس سالف الذكر مع انطلاقِ أشغال ''لجنة النموذج التنموي'' التي كلفها الملك بإعداد تصوّر عن الكيفيات الممكنة لبناء تنميةٍ حقيقيةٍ تستجيب لتطلعات المغاربة. ولعل التصور الجديد لهذه التنمية، ويتوخّى أعضاءُ اللجنة صياغته خلال الأشهر الستة المقبلة، يُفترض أن يشتبك، بكثير من الجدية، مع ما خلص إليه تقرير المجلس بشأن آفة الانقطاع الدراسي وتبعاتها على المدى البعيد. ولا حاجة للتذكير بما تذهب إليه معظم أدبيات التنمية عن دور التعليم في النهوض الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ذلك أن تحقيق تنميةٍ منتجةٍ ومتوازنةٍ يتوقف على مدى نجاعة المنظومة التربوية، وقدرتها على تغذية المجتمع بما يلزمه من طاقات، والرفع من قدراته لمجابهة التحدّيات المعرفية والاقتصادية التي يطرحها عالم اليوم.
سيكون من العبث البحث عن نموذج تنموي جديد، من دون إطلاق نقاش عمومي جاد يستدعي الأسباب العميقة التي تقف خلف الوضع المزري للمنظومة التربوية المغربية، ويمهد الطريق أمام توافق مجتمعي واسع على برامج وسياسات عمومية، كفيلة بإصلاح جدّي وشامل لهذه المنظومة.
كل التجارب التنموية الناجحة في العالم وضعت التعليم على سلم أولوياتها، وجعلت منه محرّكا لإنجازاتها في الاجتماع والاقتصاد والثقافة. ولا يمكن للحالة المغربية أن تشذّ عن هذه المعادلة الكونية. ولذلك الالتفاف على هذه الحقيقة بالمناورة، والاستمرارِ في تجاهل ضرورة الإصلاح البنيوي لهذه المنظومة، وتعويمِ النقاش العمومي بشأن هذا الإصلاح، ذلك كله يضاعف الأعباء السياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية لهذه المعضلة، ويضع الأجيال القادمة أمام ورطةٍ تاريخيةٍ غير مسبوقة.
هناك انتظارات تنموية على صلة بقطاعات أخرى (التشغيل، الصحة، السكن، مكافحة الفساد والريع، الحد من التفاوتات المجالية...)، غير أن إصلاح هذه القطاعات لا يستقيم إلا في ضوء نجاعة المنظومة التربوية، وقدرتها على إعادة صياغة علاقة المدرسة العمومية بالمجتمع وفق متطلبات العصر. وإذا كانت النماذج التنموية الناجعة تظل، في النهاية، نتاج سياقاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فالمغرب يبدو مطالَبا بالانطلاق من خصوصيته بلدا ناميا، لا يزال في حاجة للأخذ بالأبجديات الأولى للتنمية، والتي يقع الرأسمال البشري في صلبها.
يُؤمل أن تبدأ لجنة النموذج التنموي من حيث انتهى إليه تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي. وأي تنميةٍ لا تقترن بالاستثمار في الرأسمال البشري ستظل معتلة وعاجزة عن إحداث الفارق في حياة المغاربة.
لم تعد هذه المنظومة معنيةً بالاشتباك برهانات التحديث والتنوير والتنمية، بقدر ما أصبحت أولوياتها تنحصر في وقف هذا النزيف، ضمن رؤيةٍ تقنيةٍ تعزل هذه المنظومة عن حاجات المجتمع المغربي وتطلعاته، وتُلحقها بما تفرضه التوازنات المالية والسياسية والاجتماعية من إكراهات. وقد أثبتت الوقائع أن التوسل بهذه الرؤية يُفضي إلى إعادة إنتاج الأمية وتفشيها، بصيغ جديدة، داخل المجتمع، مع ما يواكب ذلك من ارتفاع تكاليف استمرار وضع هذه المنظومة على ما هو عليه، ما يعيد إلى الواجهة سؤال التنمية في صيغه الجديدة التي بات يُطرح بها منذ أعلن الملك محمد السادس، قبل أكثر من سنتين، فشل النموذج التنموي المتبع في المغرب.
ولعلها مفارقةٌ دالةٌ أن يتزامن صدور تقرير المجلس سالف الذكر مع انطلاقِ أشغال ''لجنة النموذج التنموي'' التي كلفها الملك بإعداد تصوّر عن الكيفيات الممكنة لبناء تنميةٍ حقيقيةٍ تستجيب لتطلعات المغاربة. ولعل التصور الجديد لهذه التنمية، ويتوخّى أعضاءُ اللجنة صياغته خلال الأشهر الستة المقبلة، يُفترض أن يشتبك، بكثير من الجدية، مع ما خلص إليه تقرير المجلس بشأن آفة الانقطاع الدراسي وتبعاتها على المدى البعيد. ولا حاجة للتذكير بما تذهب إليه معظم أدبيات التنمية عن دور التعليم في النهوض الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ذلك أن تحقيق تنميةٍ منتجةٍ ومتوازنةٍ يتوقف على مدى نجاعة المنظومة التربوية، وقدرتها على تغذية المجتمع بما يلزمه من طاقات، والرفع من قدراته لمجابهة التحدّيات المعرفية والاقتصادية التي يطرحها عالم اليوم.
سيكون من العبث البحث عن نموذج تنموي جديد، من دون إطلاق نقاش عمومي جاد يستدعي الأسباب العميقة التي تقف خلف الوضع المزري للمنظومة التربوية المغربية، ويمهد الطريق أمام توافق مجتمعي واسع على برامج وسياسات عمومية، كفيلة بإصلاح جدّي وشامل لهذه المنظومة.
كل التجارب التنموية الناجحة في العالم وضعت التعليم على سلم أولوياتها، وجعلت منه محرّكا لإنجازاتها في الاجتماع والاقتصاد والثقافة. ولا يمكن للحالة المغربية أن تشذّ عن هذه المعادلة الكونية. ولذلك الالتفاف على هذه الحقيقة بالمناورة، والاستمرارِ في تجاهل ضرورة الإصلاح البنيوي لهذه المنظومة، وتعويمِ النقاش العمومي بشأن هذا الإصلاح، ذلك كله يضاعف الأعباء السياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية لهذه المعضلة، ويضع الأجيال القادمة أمام ورطةٍ تاريخيةٍ غير مسبوقة.
هناك انتظارات تنموية على صلة بقطاعات أخرى (التشغيل، الصحة، السكن، مكافحة الفساد والريع، الحد من التفاوتات المجالية...)، غير أن إصلاح هذه القطاعات لا يستقيم إلا في ضوء نجاعة المنظومة التربوية، وقدرتها على إعادة صياغة علاقة المدرسة العمومية بالمجتمع وفق متطلبات العصر. وإذا كانت النماذج التنموية الناجعة تظل، في النهاية، نتاج سياقاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فالمغرب يبدو مطالَبا بالانطلاق من خصوصيته بلدا ناميا، لا يزال في حاجة للأخذ بالأبجديات الأولى للتنمية، والتي يقع الرأسمال البشري في صلبها.
يُؤمل أن تبدأ لجنة النموذج التنموي من حيث انتهى إليه تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي. وأي تنميةٍ لا تقترن بالاستثمار في الرأسمال البشري ستظل معتلة وعاجزة عن إحداث الفارق في حياة المغاربة.