31 أكتوبر 2024
المغرب.. الدولة تنتقد الدولة
كان لافتا أن يصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في المغرب، وهو مؤسسة دستورية، تقريرا صادما ومستفزّا، تضمن رسائل صريحة إلى صانعي القرار السياسي والاقتصادي وواضعي السياسات العمومية. وهو يتعلق بسنة 2017، وكشف عن أعطاب الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية، وبدّد الأوهام بشأن النموذج التنموي المغربي الذي كان الملك محمد السادس قد انتقده بشدة في خطابٍ أمام البرلمان في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، عندما اعتبره غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحّة والحاجات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات، ومن التفاوتات، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وهذا بالضبط ما سار على هديه تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مع تفصيل وتفسير كثيرين، وحشد الأسباب والعلل، عندما أكّد أن انتشار الفساد والرشوة وغياب الحكامة الجيدة من أسباب اتساع الفروق الاقتصادية والاجتماعية. وقد عملت هذه العوامل متضافرةً على إجهاض آمال فئات كبيرة من المجتمع المغربي في الارتقاء، عن طريق الاستحقاق والجدارة، وفي المقابل، أفسحت المجال أمام الزبونية والريع والارتشاء.
وجاء التقرير مشحونا بمؤشراتٍ قاتمة، استدلّ بها لدقّ ناقوس الخطر، ولينبه الجميع إلى خطورة استمرار تفاقم الفوارق الاجتماعية التي تزداد اتّساعا، بكل ما تنطوي عليه من آثارٍ سلبيةٍ على التماسك الوطني. وعلى الرغم من ميل الحكومة إلى التباهي بما أنجزته اقتصاديا واجتماعيا، فإن التقرير أوضح أن نسبة الأشخاص الذين يعشون أوضاعا يطبعها الفقر والهشاشة لا تزال مرتفعة، وأن مستويات الفوارق السائدة في المغرب أكبر مما في دولٍ في المستوى الاقتصادي للمغرب. واستنتج التقرير أن الحركات الاجتماعية المسجلة أخيرا أظهرت أن الفقر وبطالة الشباب والإقصاء والتفاوتات عوامل تمثل، بشكل متزايد بالنسبة للسكان، مظاهر اللامساواة.
وبعد تشريحٍ دقيق للمشهد الاجتماعي والاقتصادي، رأى التقرير أن الفوارق أصبحت تحدّيا خطيرا في المجتمع المغربي، خصوصا في ظل وعي حقوقي وسياسي حادّ بها، فقد اعترف التقرير بوجود إحباط في صفوف المغاربة، يتجسّد في أن 45% منهم يعتبرون أنفسهم فقراء، حسب نتائج الإحصاء العام الذي نظم سنة 2014. وتوقف التقرير عند دور شبكات التواصل الاجتماعي والصحافة الإلكترونية، حيث ساهمت في تغيير مواقف المواطنين وسلوكهم وتمثلاتهم، لا سيما الشباب، تجاه الفوارق ومختلف أشكال الحيف .
وإذا استحضرنا هنا الإقبال المحدود والمؤزمم للشباب على السياسة، حيث تفيد معطيات المندوبية السامية للتخطيط، وهي مؤسّسة تابعة للدولة، بأن نسبة انخراط الشباب في الأحزاب لا تتعدّى 1%، وأن 24% فقط يثقون في ما تروّجه من شعارات، وما تقدّمه من عروضٍ سياسية، على الرغم من أن الدستور المغربي ينصَ أن الأحزاب السياسية تعمل "على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعدّدية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية". ومعلوم أن هذه الأحزاب تتلقى مقابل ذلك دعما ماليا من الميزانية العامة.
وتعكس هذه الحقائق افتقار الأحزاب إلى مشاريع مغرية، وعروض مقنعة، وخطاب محفّز، ومشجّع على ممارسة السياسة، فغالبية الشباب يرون في العملية السياسية رديفا للفساد والارتشاء والانتهازية والثراء السريع والريع. وهذا ما يكرّس أزمة ثقة عميقة بين الشباب والأحزاب، والنتيجة سحب البساط نهائيا من مؤسسات الوساطة والتأطير. وبديلا، لجأت شرائح واسعة من المغاربة اضطراريا إلى شبكات التواصل الاجتماعي، باعتبارها تشكل فضاء للتعبير الحر، والنقاش بشأن قضايا تهم المجتمع، سيما الفوارق الاجتماعية، فمن خلال هذه المنصات، امتلك المواطن المغربي آلية عقد مقارناتٍ بين مستويات عيشه ومستوى عيش فئات أخرى من المجتمع.
وفسّر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن الاستياء الذي يخترق صفوف بعض الفئات الاجتماعية، بطبيعة النظرة التي تشكلت لديها بشأن مبدأ الجدارة والاستحقاق، وضعف أشكال الارتقاء الاجتماعي المعتادة، مثل الولوج المنصف والعادل إلى الشغل، وتكافؤ الفرص، ووجود تعليم جيد للجميع. ويعتبر أن سوء الحكامة راجعٌ أساسا إلى عدم تقاطع السياسات العمومية، وأحيانا بالمواقف المتردّدة، وانتظارية صانعي القرار السياسي، بالإضافة إلى عدم التطبيق الفعلي للنصوص المعتمدة، جرّاء طول الفترة بين إصدار القوانين ومراسيم تطبيقها، وهي عوامل تنتج استياء السكان، وتثبت عدم فعالية المؤسسات، وتشيع نوعا من انعدام الثقة في إرادة توطيد دولة القانون التي ترفعها الدولة شعارا ثابتا.
تزامن صدور التقرير مع عودة ظاهرة قوارب الموت إلى واجهة الأحداث، حيث اختار مئات الشباب، وأحيانا أسر بأكملها، مياه البحر الأبيض المتوسط، وركوب أهواله، والمغامرة بحياتهم، في غياب أية ضمانات للوصول إلى التراب الإسباني. وقد باتت مواقع التواصل الاجتماعي فضاء لنشر فيديوهات صادمة ومثيرة للألم، ولا تخلو من مشاهد مستفزّة للدولة، وكل المؤسسات وصانعي القرار. .. كيف يمكن تفسير إقبال كل هذه الأعداد، خصوصا من الشباب، على مغادرة المغرب وقبولهم مواجهة الموت بمنسوبٍ عال من السعادة والفرحة والشجاعة والطمأنينة؟ بل هناك من أعرب عن ارتياحه لمغادرة البلاد، ليتخلّص من جحودها وعدم احتضانها أبناءها، وعجزها عن توفير الحقوق والخدمات الأساسية، بدءا من الحق في الشغل القار، والتعليم والصحة الجيدين، وصولا إلى الحق في التعبير عن الرأي.
وطبيعي أن تثير العودة القوية للهجرة السرية المختزلة في "قوارب الموت" موجة من الانتقادات والسجالات والنقاشات في منصّات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام وداخل المجتمع، ويتمحور النقاش والنقد على أسباب هذه المأساة. والإشارة هنا واضحة إلى فشل مشاريع الإصلاح والتأهيل وبرامج التقويم والشعارات التي تم تسويقها سنوات، ووصول النموذج التنموي إلى المأزق باعتراف ملك البلاد نفسه. وما يطرح الآن للنقاش في المغرب: لماذا يفقد الشباب الأمل في التمتع بحياة كريمة في بلادهم، ولماذا يعتبرون ذلك مستحيلا؟ لماذا يسيطر التشاؤم على عقول هؤلاء، ويستبدّ بهم اليأس؟ ما دلالة هذا الإقبال على الموت بفرح نادر، بحثا عن ملاذات غير مضمونة في الضفة الأخرى؟
تمكّن المغرب من اجتياز امتحان الربيع العربي بدون رجّات أو تداعيات خطيرة. وقد أشادت عدة جهات، داخليا وخارجيا، بالطريقة الحكيمة والسلسة التي تعاملت بها الدولة مع مطالب حركة 20 فبراير في العام 2011، ومن هذه المطالب إسقاط الفساد، وتحقيق العدالة
الاجتماعية والكرامة، ودستور متقدم يفصل بين السلطات، ويحدد الصلاحيات بدون التباسات، ومطالب أخرى لم تتحقّق. ولكن ما يبعث على الأسئلة المقلقة والمحرجة أن الشباب المغربي عقد آمالا كبيرة على حزمة الشعارات التي سوقتها الدولة. وأعتقد أن ما تعرف بالأوراش المهيكلة، وتدفق استثمارات على المغرب، واستقرار شركات في أهم مدنه، ربما كانت ستُحدث انقلابا جذريا في المعادلة الاجتماعية والاقتصادية، وكانت ستفتح آفاقا واسعة من الأمل، خصوصا فيما يتصل بتحسين الأوضاع الاقتصادية، والرفع من القدرة الشرائية، وكان سيمنح الفئات الهشّة فرصا قوية للارتقاء والاستقرار.
ولكن ثمّة مفارقة بين الواقع ومشاريع الدولة والحكومات المتعاقبة وشعاراتها، فالأخيرة لا تكفّ عن الحديث عن تحسين مناخ الأعمال والاستثمار، وتأكيدها أن المغرب استثناءٌ في المنطقة على مستوى الاستقرار الأمني والسياسي، وترسيخ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتكريس المساواة بين الجنسين. ويجيب تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عن مجمل هذه الانتظارات، ويشرح جذور مشاعر اليأس وخيبات الأمل، ذلك أن دينامية الاقتصاد المغربي لم تتمكّن من معالجة التفاوتات الاجتماعية، وحافظ على قدر كبير من الاختلالات، حيث عجز عن إيجاد الثروة، كما أن ضعف فاعلية الاستثمار جعله لا يساهم في إيجاد فرص الشغل، ويبقى الفساد في مقدمة معيقات تحسين مناخ الأعمال.
ويمكن تفسير إصدار مؤسسة دستورية تقريرا يتضمن مظاهر سلبية بأن صانعي القرار، ومؤسّسات متنفذة، ليسوا راضين على ما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المغرب من هشاشةٍ باتت تهدّد التماسك الوطني. وأنها هذه المرّة لم تعر اهتماما كبيرا لما يمكن أن يترتب من نتائج عكسية بسبب هذا التقرير، من قبيل بث الخوف في رجال الأعمال والشركات الأجنبية. وأمام اتّساع مساحة الاستياء والاحتجاجات والتمرّد على كل ما هو مؤسّساتي، وفقدان الثقة فيه، تذهب التحاليل إلى أن على الدولة أن لا تحصر مفهوم الكرامة والمواطنة في الأرقام والمؤشّرات، لأن أي اقتصادٍ، مهما كان عبقريا وقويا، لا يمكن أن يجيب عن معضلة البطالة والانتظارات الاجتماعية، إذا كان يفترسه وينخره ورم الفساد والرشوة والزبونية، وصراع المصالح، لأن هذه العوامل تخنق كل شيء، وتعدم أي بارقة أمل. وما كان تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ليتسلّح بكل تلك الجرأة العالية، والجرعة النقدية، لو لم يتلق الضوء الأخضر، ولو لم يقرأ مقاصد الدولة وأهدافها، ما يعتبر تحوّلا في طريقة تسويق السياسات العمومية، والشعارات التي تتبنّاها المؤسّسات الرسمية، والتي غالبا ما تسعى إلى إرضاء الدولة، وجبر خواطر صانعي القرار.
وجاء التقرير مشحونا بمؤشراتٍ قاتمة، استدلّ بها لدقّ ناقوس الخطر، ولينبه الجميع إلى خطورة استمرار تفاقم الفوارق الاجتماعية التي تزداد اتّساعا، بكل ما تنطوي عليه من آثارٍ سلبيةٍ على التماسك الوطني. وعلى الرغم من ميل الحكومة إلى التباهي بما أنجزته اقتصاديا واجتماعيا، فإن التقرير أوضح أن نسبة الأشخاص الذين يعشون أوضاعا يطبعها الفقر والهشاشة لا تزال مرتفعة، وأن مستويات الفوارق السائدة في المغرب أكبر مما في دولٍ في المستوى الاقتصادي للمغرب. واستنتج التقرير أن الحركات الاجتماعية المسجلة أخيرا أظهرت أن الفقر وبطالة الشباب والإقصاء والتفاوتات عوامل تمثل، بشكل متزايد بالنسبة للسكان، مظاهر اللامساواة.
وبعد تشريحٍ دقيق للمشهد الاجتماعي والاقتصادي، رأى التقرير أن الفوارق أصبحت تحدّيا خطيرا في المجتمع المغربي، خصوصا في ظل وعي حقوقي وسياسي حادّ بها، فقد اعترف التقرير بوجود إحباط في صفوف المغاربة، يتجسّد في أن 45% منهم يعتبرون أنفسهم فقراء، حسب نتائج الإحصاء العام الذي نظم سنة 2014. وتوقف التقرير عند دور شبكات التواصل الاجتماعي والصحافة الإلكترونية، حيث ساهمت في تغيير مواقف المواطنين وسلوكهم وتمثلاتهم، لا سيما الشباب، تجاه الفوارق ومختلف أشكال الحيف .
وإذا استحضرنا هنا الإقبال المحدود والمؤزمم للشباب على السياسة، حيث تفيد معطيات المندوبية السامية للتخطيط، وهي مؤسّسة تابعة للدولة، بأن نسبة انخراط الشباب في الأحزاب لا تتعدّى 1%، وأن 24% فقط يثقون في ما تروّجه من شعارات، وما تقدّمه من عروضٍ سياسية، على الرغم من أن الدستور المغربي ينصَ أن الأحزاب السياسية تعمل "على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعدّدية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية". ومعلوم أن هذه الأحزاب تتلقى مقابل ذلك دعما ماليا من الميزانية العامة.
وتعكس هذه الحقائق افتقار الأحزاب إلى مشاريع مغرية، وعروض مقنعة، وخطاب محفّز، ومشجّع على ممارسة السياسة، فغالبية الشباب يرون في العملية السياسية رديفا للفساد والارتشاء والانتهازية والثراء السريع والريع. وهذا ما يكرّس أزمة ثقة عميقة بين الشباب والأحزاب، والنتيجة سحب البساط نهائيا من مؤسسات الوساطة والتأطير. وبديلا، لجأت شرائح واسعة من المغاربة اضطراريا إلى شبكات التواصل الاجتماعي، باعتبارها تشكل فضاء للتعبير الحر، والنقاش بشأن قضايا تهم المجتمع، سيما الفوارق الاجتماعية، فمن خلال هذه المنصات، امتلك المواطن المغربي آلية عقد مقارناتٍ بين مستويات عيشه ومستوى عيش فئات أخرى من المجتمع.
وفسّر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن الاستياء الذي يخترق صفوف بعض الفئات الاجتماعية، بطبيعة النظرة التي تشكلت لديها بشأن مبدأ الجدارة والاستحقاق، وضعف أشكال الارتقاء الاجتماعي المعتادة، مثل الولوج المنصف والعادل إلى الشغل، وتكافؤ الفرص، ووجود تعليم جيد للجميع. ويعتبر أن سوء الحكامة راجعٌ أساسا إلى عدم تقاطع السياسات العمومية، وأحيانا بالمواقف المتردّدة، وانتظارية صانعي القرار السياسي، بالإضافة إلى عدم التطبيق الفعلي للنصوص المعتمدة، جرّاء طول الفترة بين إصدار القوانين ومراسيم تطبيقها، وهي عوامل تنتج استياء السكان، وتثبت عدم فعالية المؤسسات، وتشيع نوعا من انعدام الثقة في إرادة توطيد دولة القانون التي ترفعها الدولة شعارا ثابتا.
تزامن صدور التقرير مع عودة ظاهرة قوارب الموت إلى واجهة الأحداث، حيث اختار مئات الشباب، وأحيانا أسر بأكملها، مياه البحر الأبيض المتوسط، وركوب أهواله، والمغامرة بحياتهم، في غياب أية ضمانات للوصول إلى التراب الإسباني. وقد باتت مواقع التواصل الاجتماعي فضاء لنشر فيديوهات صادمة ومثيرة للألم، ولا تخلو من مشاهد مستفزّة للدولة، وكل المؤسسات وصانعي القرار. .. كيف يمكن تفسير إقبال كل هذه الأعداد، خصوصا من الشباب، على مغادرة المغرب وقبولهم مواجهة الموت بمنسوبٍ عال من السعادة والفرحة والشجاعة والطمأنينة؟ بل هناك من أعرب عن ارتياحه لمغادرة البلاد، ليتخلّص من جحودها وعدم احتضانها أبناءها، وعجزها عن توفير الحقوق والخدمات الأساسية، بدءا من الحق في الشغل القار، والتعليم والصحة الجيدين، وصولا إلى الحق في التعبير عن الرأي.
وطبيعي أن تثير العودة القوية للهجرة السرية المختزلة في "قوارب الموت" موجة من الانتقادات والسجالات والنقاشات في منصّات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام وداخل المجتمع، ويتمحور النقاش والنقد على أسباب هذه المأساة. والإشارة هنا واضحة إلى فشل مشاريع الإصلاح والتأهيل وبرامج التقويم والشعارات التي تم تسويقها سنوات، ووصول النموذج التنموي إلى المأزق باعتراف ملك البلاد نفسه. وما يطرح الآن للنقاش في المغرب: لماذا يفقد الشباب الأمل في التمتع بحياة كريمة في بلادهم، ولماذا يعتبرون ذلك مستحيلا؟ لماذا يسيطر التشاؤم على عقول هؤلاء، ويستبدّ بهم اليأس؟ ما دلالة هذا الإقبال على الموت بفرح نادر، بحثا عن ملاذات غير مضمونة في الضفة الأخرى؟
تمكّن المغرب من اجتياز امتحان الربيع العربي بدون رجّات أو تداعيات خطيرة. وقد أشادت عدة جهات، داخليا وخارجيا، بالطريقة الحكيمة والسلسة التي تعاملت بها الدولة مع مطالب حركة 20 فبراير في العام 2011، ومن هذه المطالب إسقاط الفساد، وتحقيق العدالة
ولكن ثمّة مفارقة بين الواقع ومشاريع الدولة والحكومات المتعاقبة وشعاراتها، فالأخيرة لا تكفّ عن الحديث عن تحسين مناخ الأعمال والاستثمار، وتأكيدها أن المغرب استثناءٌ في المنطقة على مستوى الاستقرار الأمني والسياسي، وترسيخ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتكريس المساواة بين الجنسين. ويجيب تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عن مجمل هذه الانتظارات، ويشرح جذور مشاعر اليأس وخيبات الأمل، ذلك أن دينامية الاقتصاد المغربي لم تتمكّن من معالجة التفاوتات الاجتماعية، وحافظ على قدر كبير من الاختلالات، حيث عجز عن إيجاد الثروة، كما أن ضعف فاعلية الاستثمار جعله لا يساهم في إيجاد فرص الشغل، ويبقى الفساد في مقدمة معيقات تحسين مناخ الأعمال.
ويمكن تفسير إصدار مؤسسة دستورية تقريرا يتضمن مظاهر سلبية بأن صانعي القرار، ومؤسّسات متنفذة، ليسوا راضين على ما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المغرب من هشاشةٍ باتت تهدّد التماسك الوطني. وأنها هذه المرّة لم تعر اهتماما كبيرا لما يمكن أن يترتب من نتائج عكسية بسبب هذا التقرير، من قبيل بث الخوف في رجال الأعمال والشركات الأجنبية. وأمام اتّساع مساحة الاستياء والاحتجاجات والتمرّد على كل ما هو مؤسّساتي، وفقدان الثقة فيه، تذهب التحاليل إلى أن على الدولة أن لا تحصر مفهوم الكرامة والمواطنة في الأرقام والمؤشّرات، لأن أي اقتصادٍ، مهما كان عبقريا وقويا، لا يمكن أن يجيب عن معضلة البطالة والانتظارات الاجتماعية، إذا كان يفترسه وينخره ورم الفساد والرشوة والزبونية، وصراع المصالح، لأن هذه العوامل تخنق كل شيء، وتعدم أي بارقة أمل. وما كان تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ليتسلّح بكل تلك الجرأة العالية، والجرعة النقدية، لو لم يتلق الضوء الأخضر، ولو لم يقرأ مقاصد الدولة وأهدافها، ما يعتبر تحوّلا في طريقة تسويق السياسات العمومية، والشعارات التي تتبنّاها المؤسّسات الرسمية، والتي غالبا ما تسعى إلى إرضاء الدولة، وجبر خواطر صانعي القرار.