انقشع غبار المعارك في مدينة منبج السورية، شمال البلاد، بعد أكثر من سبعين يوماً من القتال، لتعلن "قوات سورية الديمقراطية"، التي يُشكّل مقاتلون أكراد قوامها وقيادتها، سيطرتها على كبرى مدن الريف الحلبي من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، لتبدأ المدينة، التي يشكّل العرب الاغلبية الساحقة من سكانها، مرحلة جديدة مع "المحررين الجدد"، الذين باتوا يتطلعون إلى مناطق أخرى في ظلّ انحسار مناطق سيطرة التنظيم، وتقلّصها شمال حلب.
في منبج، أعلن المتحدث باسم المجلس العسكري لمنبج وريفها، وهو جزء من "قوات سورية الديمقراطية"، شرفان درويش، ما سماها "بشارة النصر والتحرر"، مشيراً في صفحته على موقع فيسبوك، إلى أن "منبج العظيمة خرجت من براثن الإرهاب".
في هذا الإطار، يشير الناشط الاعلامي عدنان الحسين، وهو من أبناء منبج، إلى أنه "قُتل نحو 700 مدني أثناء الحملة"، موضحاً في حديثٍ لـ "العربي الجديد"، أن "طيران التحالف قتل نحو 230 مدنياً، وارتكب أكثر من مجزرة، اعترف بواحدة منها". كما أشار إلى أن "التحالف يعتمد على الإحداثيات التي تزوّده بها قوات سورية الديمقراطية، التي فقدت نحو ألف من مقاتليها، في مقابل نحو 300 قتيل من داعش". ويصف المتحدث حال المدينة بعد يوم من خروجها عن سيطرة "داعش"، بالقول إنها "مدينة مدمرة، نتيجة الاشتباكات والقصف الجوي"، لافتاً إلى أنها "مدينة منكوبة، وأن الألغام تعيق عودة الأهالي إلى منازلهم".
مع العلم أن "داعش" انسحب من منبج باتجاه معقليه في شمال حلب، وهما مدينتا الباب (40 كيلومتراً غرب منبج)، وإلى مدينة جرابلس (40 كيلومتراً شمال منبج)، على الحدود السورية التركية مباشرة. ومن المتوقع أن تأخذ "قوات سورية الديمقراطية" التي تشكّلت أواخر العام الماضي "استراحة محارب"، قبل الشروع في الخطوة المقبلة، التي يتوقع مراقبون في أن تكون مدينة الباب هدفها المقبل، إلا إذا قرر التحالف الدولي تغيير خط سير الحملة باتجاهات أخرى، حيث تُعدّ محافظة الرقة، الهدف الاستراتيجي الكبير ولكن انتزاع السيطرة عليها ليس بالأمر السهل، فهي قاعدة التنظيم الأقوى والأكثر تحصيناً، وخسارته لها تعني بداية نهايته في سورية كلها.
من جهته، يؤكد مستشار الرئاسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، سيهانوك ديبو أنه "سيتمّ تشكيل إدارة مدنية في مدينة منبج لإدارة شؤونها"، مشيراً في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن "هدف قوات سورية الديمقراطية، هو تحرير كامل الجغرافيا السورية من الإرهاب والاستبداد". ويرى أنه "حينها تكون الأمور مهيئة لتشكيل إدارات ذاتية يديرها ممثلو المكونات".
وتُعدّ الوحدات الكردية، الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، القوة الضاربة في "قوات سورية الديمقراطية"، وكانت قد اتهمت من قبل منظمات دولية، بالقيام بعمليات تطهير عرقي بحق العرب والتركمان في مناطق عدة سيطرت عليها، خصوصاً في شمال الرقة، إثر انتزاعها السيطرة على مدينة تل أبيض ذات الأغلبية العربية وريفها منذ أكثر من عام.
بالتالي، فقد "داعش" كل المناطق التي كانت تحت سيطرته شرق نهر الفرات في شمال حلب، وكانت منبج أهم معاقله غرب النهر، وبعد خسارته إياها بقي للتنظيم ثلاث مناطق مهمة في شمال حلب، هي: مدينة الباب وريفها، ومدينة جرابلس وريفها، وبلدة الراعي وريفها، وبعض القرى المحيطة بمدينة مارع التي تقع تحت سيطرة قوات المعارضة.
ويرجح ديبو أن "تكون مناطق سيطرة شمال حلب هي الهدف المقبل لقوات سورية الديمقراطية، قبل التوجه إلى المعركة الكبرى، وهي انتزاع محافظة الرقة". ويرى أنه "لا يمكن تحرير الرقة بشكل كامل، إذا لم يسبقه عمليات ميدانية تضمن عدم وصول الدعم في العدد والعتاد له"، مضيفاً أنه "سيكون من المفيد تحرير كامل جغرافيا شمال سورية، وحينها ستكون الأمور مناسبة لتحرير كامل الرقة". ويعرب ديبو عن قناعته بأنه "من غير المناسب أن تتوجه القوات إلى الرقة، ويكون ظهرها مكشوفا".
وحول قدرة "قوات سورية الديمقراطية" على التوجه نحو مدينة جرابلس الحدودية، التي تُعدّ من خطوط تركيا "الحمراء"، يرى ديبو أن "تجفيف مصادر دعم التنظيم يستلزم تنظيف كامل شمال سورية، وجرابلس تنطبق عليها هذه الرؤية". ويضيف أنه "إذا ما كان الهدف إيجاد التهيئة المناسبة للحل السياسي، فلا بد من خطوات عملية ضد داعش بالتوازي مع المفاوضات بين الأطراف السورية المؤمنة بالحل الديمقراطي، والاتفاق مسبقاً على الخطوط العريضة الضامنة للتغيير".
من جانبه، يرى المحلل العسكري العقيد مصطفى بكور، أن "ما حدث في مدينة منبج، أمر طبيعي من الناحية العسكرية في ظلّ تركيز الجهد العسكري للتحالف الغربي على جبهة منبج، وتكبيد داعش خسائر كبيرة في الأسابيع الماضية، خصوصاً بعد المجازر التي ارتكبها طيران التحالف ضد المدنيين، ورمي الكرة في ملعب قوات سورية الديمقراطية، بأنها هي من زودتهم بالإحداثيات". ويرى بكور أن "قوات سورية الديمقراطية" غير قادرة على تحديد الهدف المقبل، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد"، أن "التحالف الدولي هو من يحدد الهدف حسب خطته الموضوعة في محاربة التنظيم".
ويبدي اعتقاده بأن "الأكراد يسعون للسيطرة على الحزام الممتد على الحدود التركية، لوصل منطقة عفرين شمال غربي حلب بالمناطق التي يسيطرون عليها في شمال شرقي سورية، تمهيداً لإقامة الإقليم الكردي". كما يرى مراقبون، أنه "لا يمكن عزل السيطرة على منبج عن السياق السياسي الموازي للحرب الدائرة في سورية بين مختلف الأطراف بالوكالة عن قوى إقليمية، ودولية".
ويبدو أن الولايات المتحدة تسعى إلى فرض الأكراد في المعادلة السياسية، وهذا ما يفسر نصيحة واشنطن للمعارضة السورية بـ "التفاهم" مع رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي صالح مسلم، الذي تُعدّ قواته "الوحدات الكردية" بمثابة "رأس الحربة" في محاربة "داعش".
لكن المعارضة لا تزال تتهم حزب الاتحاد الديمقراطي بالتحالف مع النظام في حربه ضد فصائلها العسكرية، وترى أنه سهّل لها السيطرة على أجزاء من محافظة الحسكة ذات الثقل السكاني الكردي، لمحاصرة الحراك الثوري فيها كما تتهم المعارضة الوحدات الكردية بممارسة عمليات تطهير عرقي، وانتهاكات كبيرة في مناطق سيطرتها.
وكانت فصائل المعارضة قد رفضت مطلع العام الحالي، الفيديرالية التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال سورية وشمال شرقها، واعتبرت في بيان لها أن "الحزب وذراعه العسكري منظمتان إرهابيتان، هدفهما تقسيم سورية".
ويتوقع مراقبون أن يشهد شمال حلب تطورات عسكرية متلاحقة، في ظل الصراع الدائر هناك بين مختلف القوى، تحديداً في ظل تراشق إعلامي بين فصائل المعارضة في حلب، و"قوات سورية الديمقراطية"، ربما يؤدي إلى مواجهات عسكرية بينهما، أو تفاهمات تفضي إلى انسحاب الأخيرة من مناطق عدة، كانت قد سيطرت عليها بدعم روسي، مطلع العام الحالي، أبرزها مدينة تل رفعت.
وتسعى أحزاب كردية متعددة الرؤى إلى تشكيل إقليم كردي على امتداد الشريط الحدودي مع تركيا، وحُكي أيضاً عن سعي بعضها للسيطرة على منفذ بحري على شاطئ المتوسط. وكان الأكراد قد استفادوا من الخلاف التركي الروسي، في توسيع رقعة سيطرتهم في سورية، ولكن التقارب بين أنقرة وموسكو منذ أيام ربما سيؤدي دوراً في الحدّ من الطموح الكردي المتصاعد. ويضع مراقبون إغلاق موسكو لمكتب تمثيلي لحزب الاتحاد الديمقراطي في موسكو، إثر زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لروسيا أخيراً، في سياق تفاهم تركي روسي إيراني، سيقف حائلاً دون ظهور كانتون كردي في الشمال السوري الملتهب.