بين نكبة عاش بعضاً من تفاصيلها عندما كان فتى، وبين نكسة كان شاهداً خلالها على ليلة سقوط القدس في أيدي الاحتلال الإسرائيلي، ما زال عبد القادر البخاري البالغ من العمر 86 عاماً، من سكان حارة السعدية بالبلدة القديمة من القدس يتذكر بكامل وعيه ما اقترفه الاحتلال من هدم وتدمير لأجزاء كبيرة من حارتي السعدية وباب حطة المتجاورتين، بعد قصفهما بقذائف الهاون.
"في تلك الليلة سقطت على البلدة القديمة من القدس أكثر من 200 قذيفة هاون، كانت أشبه بمطر من موت ودمار زرعت الخوف والرعب في صفوف المقدسيين الآمنين، وكانت سبباً في نزوح ما بين 15 و20 ألفاً من سكان البلدة القديمة إلى الأردن في حافلات خاصة جلبها المحتلون لهم"، كما يقول البخاري لـ"العربي الجديد".
ويتابع: "في تلك الليلة لم يسلم شارع أو حي من قذائف الهاون. أمطرونا بنحو 200 قذيفة توزعت على كل بقعة من البلدة القديمة، وكان ذلك سبب نزوح المواطنين نحو الأردن طلباً للنجاة، وسهّل الاحتلال ذلك حين تجول جنوده بمركباتهم العسكرية وهم ينادون عبر مكبرات الصوت (على كل من يرغب بمغادرة القدس التوجه إلى باب العامود أو باب الساهرة وإحنا رح نوصله للجسر ونأمّن على حياته وعلى أحواله وما بصير في إشي".
بعبارة أخرى كما يقول البخاري، "كان قصدهم يفرغون البلدة القديمة من سكانها، وفعلاً نحو 20 ألفاً من الناس نزحوا للأردن عن طريق الجسر".
بالنسبة لوالد عبد القادر البخاري، فقد تحدى محاولات الترحيل والطرد من حارة السعدية في البلدة القديمة، وقرر أن يبقى فيها رغم أهوال الحرب آنذاك وعمليات القصف التي طاولت حارته، وحارة باب حطة المجاورة، حيث دمر القصف جزءاً كبيراً من مباني الحارتين.
يقول البخاري: "أبي قال وقتها إذا كان ولا بد من الموت فأريد أن أموت في داري، لا يجوز الخروج من الدار إلا على القبر، ونحن كذلك بقينا مع أبي، أنا وأمي وإخوتي وأخواتي، وبقينا في الحوش ولم نقبل بالذهاب إلى الأردن، وكان دائماً يقول: طالما أنا هنا في الحارة لا أحد يذهب إلى العاصمة الأردنية عمّان".
ما يتذكره البخاري عن سقوط القدس أيضاً هو أن أهلها كانوا مستعدين للموت دفاعاً عنها، كل من كان قادراً على حمل السلاح شارك في الدفاع عنها، قبل أن يتمكن الاحتلال من اجتياحها من منطقتي باب الأسباط وباب الساهرة.
"في حينه كانت الناس تحسب أن الجيش الذي دخل القدس هو الجيش العراقي، لكنهم اكتشفوا بعد ذلك، وعرفوا أنه جيش الاحتلال الذي احتل شارع صلاح الدين وكل شوارع القدس خارج السور حتى بيت حنينا وشعفاط شمالا، وعرف الناس أنه في الوقت الذي كانت القدس صامدة كانت أراضي دول عربية محتلة في ساعات!".
لا تختلف النكسة في نتائجها وتداعياتها عن النكبة، بل ربما كانت في تأثيراتها النفسية على المقدسيين وعلى عموم الفلسطينيين أسوأ بكثير، كما يقول البخاري: "الناس لما هجّروها من بيوتها طلعت وحاملة مفاتيح بيوتها معها، وكانت متأملة ترجع بعد أسبوع أو أسبوعين. ولما صارت حرب عام 1967 تأمّلت كثيراً بانتصار العرب وإرجاع فلسطين، لكن صار العكس تماماً، انهزم العرب وتشردوا ونزح جزء ثانٍ من الشعب ولا زال الجميع بين لاجئ ونازح".
كثير من الذكريات والتفاصيل لا يصرح بها البخاري عن سقوط القدس قبل نحو خمسين عاماً، لكن الأهم بالنسبة له بقاؤه في حارة السعدية، حيث نشأ وتربى أبناؤه، جميعهم لن يغادروها مهما ضاقت بهم الحال.