01 أكتوبر 2022
المنتفضون ضد "قراءة ثانية"
كتب عبد الرحمن الكواكبي قبل أكثر من قرن في "طبائع الاستبداد"، "العوام هم قوَة المستبد وقوته، بهم عليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته".
ما لم يذكره الكواكبي أن هذا المستبد ليس فقط الحكام، بل بكل مستويات السلطة الاجتماعية شاملة كل صاحب سلطة معنوية، وإن لم يمتلك أدواتها المادية، يشمل ذلك معارضين يحملون داخلهم بذور الاستبداد.
ما إن أذيعت الحلقة الأولى من برنامج "قراءة ثانية" في تلفزيون العربي، حتى انطلقت حملة تحريضية، كان اللافت فيها عدم تطرّقها مطلقاً إلى المحتوى، بل تستهدف بالدرجة الأولى تهييج مشاعر العوام. لم يناقش أحد الضالعين في الحملة حجج الضيف المعارض لوجود دولة في الإسلام، لم يتم التركيز على مقطع بعينه في الحلقة كنموذج للإساءة المفترضة، أو توضيح أوجه الاختلاف، وهذا حق أصيل لكل مشاهد، فالغرض لم يكن التنافس على النقاش العقلاني وإثبات الحُجة، بل كان التجييش الشعبوي باستخدام العواطف الدينية والتحريض الطائفي، الذي تطرّق لديانة أو مذهب القائمين على القناة.
اتهم خصمك بأنه عدوّ للإسلام لأنه علماني، أو ملحد، أو شيعي، أو مسيحي، ثم أضف أي كلام آخر، تجِد من يتحمس بكل غضب.
وللمفارقة، النقد الذي قد يُوجه للبرنامج فعلاً هو أن خطّه شديد المحافظة، ففي الحلقتين اللتين تمت إذاعتهما لا توجد قراءة ثانية جديدة جذرية، بل القراءة تستخدم الأدوات التراثية نفسها؛ الضيوف جميعاً رجال دين أو علم شرعي، لا علمانيون (وهذه ليست سُبة) وكلهم يعترفون بحجية القرآن والسنّة والتراث، وينطلقون منها في نقاشهم. في الحلقة الثانية، كان المحور هل حدّ زنا المحصن هو الرجم أو الجلد مائة جلدة، وهذا بالتأكيد سقفٌ منخفض عن خطابٍ تقدّمي، حدّه الأدنى مراجعة الحدود الجسدية أصلاً.
ولكن من يرون أنفسهم حرّاس الفضيلة والدين لا يتعاملون بهذا المنطق. يرى الحارس نفسه مالكاً حصرياً لما يحرسه، ويعيد اختراع الأحداث، إلى حدّ الترحم على أيام برنامج "الشريعة والحياة" في قناة الجزيرة للشيخ يوسف القرضاوي. وعلى الرغم من أنه بالفعل من حق أي جهة أن تتجاوز ذلك، وتنتج خطها الخاص الملائم لعصر مختلف، ولكن بالمقابل كان القرضاوي نفسه سابقاً يتعرّض مراراً لهجمات الحرّاس، وهو من أفتى بتحليل الموسيقى، وغناء المرأة، ومصافحتها. وللمفارقة هو أيضاً أنكر حدّ الرجم متطابقاً مع رأي الشيخ عصام تليمة ضيف الحلقة الثانية من "قراءة ثانية"، فأين التباين الشاسع أصلاً؟
كما أن النقاش ينطلق من النظرية للتطبيق، وهذا ما كان يستحق أيضاً إفراد مساحة أوسع، فبعد تأصيل مفهوم الدولة نهبط إلى أرض الواقع في مسائل بدائية، كحق غير المسلم في تولي الرئاسة، فيجهر الضيف بأنه ليس من حقه ذلك شرعاً! أي مواطنة تبقى إذاً؟ وهل تقدّمون هذا الخطاب بهذه الصراحة لناخبيكم في الشرق، أو لمن تبحثون عن دعمهم في الغرب؟
أزمة الحرّاس الحقيقية في انتزاع امتلاكهم الحصري الحقيقة، وأيضاً في فتح الباب أمام أدوات تفكير نقدي عبر النقاش المعمق، فالحلقة الأولى تناقش مطوّلاً المعنى الأصولي لكلمة "الدليل"، كاشفة مغالطات ادّعاء أن هناك تفسيراً حصرياً ووحيداً لكل نصّ. وتناقش الحلقة الثانية كيف أن عمل الصحابة، بمن فيهم الخلفاء الراشدون، لم يكن حجّة، فضلاً عن اختلافاتهم الواسعة في عصرهم. ليس هذا هو الخطاب المطلوب تقديمه للعوام، بل يجب أن يحصلوا على أفكار جاهزة وقوالب جاهزة يقدّمها الحراس حصرياً.
ولكن على الرغم من ذلك كله، يتجاوز الواقع المحرّضين ودوافعهم، بل يتجاوز حتى سقف "قراءة ثانية". وفي العالم العربي اليوم شباب خبروا بأنفسهم تطبيقات "الحرّاس"، وتجاوزوا منظومتهم بالكامل، في سورية والعراق واليمن وليبيا ومصر وغيرها. وفي العالم العربي اليوم أصبح في إمكان "العوام"، بأفق أوسع وأكثر تنوعاً بكثير، الوصول إلى كل الأفكار، وإن كره الحرّاس.
ما لم يذكره الكواكبي أن هذا المستبد ليس فقط الحكام، بل بكل مستويات السلطة الاجتماعية شاملة كل صاحب سلطة معنوية، وإن لم يمتلك أدواتها المادية، يشمل ذلك معارضين يحملون داخلهم بذور الاستبداد.
ما إن أذيعت الحلقة الأولى من برنامج "قراءة ثانية" في تلفزيون العربي، حتى انطلقت حملة تحريضية، كان اللافت فيها عدم تطرّقها مطلقاً إلى المحتوى، بل تستهدف بالدرجة الأولى تهييج مشاعر العوام. لم يناقش أحد الضالعين في الحملة حجج الضيف المعارض لوجود دولة في الإسلام، لم يتم التركيز على مقطع بعينه في الحلقة كنموذج للإساءة المفترضة، أو توضيح أوجه الاختلاف، وهذا حق أصيل لكل مشاهد، فالغرض لم يكن التنافس على النقاش العقلاني وإثبات الحُجة، بل كان التجييش الشعبوي باستخدام العواطف الدينية والتحريض الطائفي، الذي تطرّق لديانة أو مذهب القائمين على القناة.
اتهم خصمك بأنه عدوّ للإسلام لأنه علماني، أو ملحد، أو شيعي، أو مسيحي، ثم أضف أي كلام آخر، تجِد من يتحمس بكل غضب.
وللمفارقة، النقد الذي قد يُوجه للبرنامج فعلاً هو أن خطّه شديد المحافظة، ففي الحلقتين اللتين تمت إذاعتهما لا توجد قراءة ثانية جديدة جذرية، بل القراءة تستخدم الأدوات التراثية نفسها؛ الضيوف جميعاً رجال دين أو علم شرعي، لا علمانيون (وهذه ليست سُبة) وكلهم يعترفون بحجية القرآن والسنّة والتراث، وينطلقون منها في نقاشهم. في الحلقة الثانية، كان المحور هل حدّ زنا المحصن هو الرجم أو الجلد مائة جلدة، وهذا بالتأكيد سقفٌ منخفض عن خطابٍ تقدّمي، حدّه الأدنى مراجعة الحدود الجسدية أصلاً.
ولكن من يرون أنفسهم حرّاس الفضيلة والدين لا يتعاملون بهذا المنطق. يرى الحارس نفسه مالكاً حصرياً لما يحرسه، ويعيد اختراع الأحداث، إلى حدّ الترحم على أيام برنامج "الشريعة والحياة" في قناة الجزيرة للشيخ يوسف القرضاوي. وعلى الرغم من أنه بالفعل من حق أي جهة أن تتجاوز ذلك، وتنتج خطها الخاص الملائم لعصر مختلف، ولكن بالمقابل كان القرضاوي نفسه سابقاً يتعرّض مراراً لهجمات الحرّاس، وهو من أفتى بتحليل الموسيقى، وغناء المرأة، ومصافحتها. وللمفارقة هو أيضاً أنكر حدّ الرجم متطابقاً مع رأي الشيخ عصام تليمة ضيف الحلقة الثانية من "قراءة ثانية"، فأين التباين الشاسع أصلاً؟
كما أن النقاش ينطلق من النظرية للتطبيق، وهذا ما كان يستحق أيضاً إفراد مساحة أوسع، فبعد تأصيل مفهوم الدولة نهبط إلى أرض الواقع في مسائل بدائية، كحق غير المسلم في تولي الرئاسة، فيجهر الضيف بأنه ليس من حقه ذلك شرعاً! أي مواطنة تبقى إذاً؟ وهل تقدّمون هذا الخطاب بهذه الصراحة لناخبيكم في الشرق، أو لمن تبحثون عن دعمهم في الغرب؟
أزمة الحرّاس الحقيقية في انتزاع امتلاكهم الحصري الحقيقة، وأيضاً في فتح الباب أمام أدوات تفكير نقدي عبر النقاش المعمق، فالحلقة الأولى تناقش مطوّلاً المعنى الأصولي لكلمة "الدليل"، كاشفة مغالطات ادّعاء أن هناك تفسيراً حصرياً ووحيداً لكل نصّ. وتناقش الحلقة الثانية كيف أن عمل الصحابة، بمن فيهم الخلفاء الراشدون، لم يكن حجّة، فضلاً عن اختلافاتهم الواسعة في عصرهم. ليس هذا هو الخطاب المطلوب تقديمه للعوام، بل يجب أن يحصلوا على أفكار جاهزة وقوالب جاهزة يقدّمها الحراس حصرياً.
ولكن على الرغم من ذلك كله، يتجاوز الواقع المحرّضين ودوافعهم، بل يتجاوز حتى سقف "قراءة ثانية". وفي العالم العربي اليوم شباب خبروا بأنفسهم تطبيقات "الحرّاس"، وتجاوزوا منظومتهم بالكامل، في سورية والعراق واليمن وليبيا ومصر وغيرها. وفي العالم العربي اليوم أصبح في إمكان "العوام"، بأفق أوسع وأكثر تنوعاً بكثير، الوصول إلى كل الأفكار، وإن كره الحرّاس.