تحوّلت محافظة المهرة الواقعة في الشرق اليمني، إلى محطة تسابق إقليمية على النفوذ فيها، واتضح ذلك في الفترة الأخيرة. إذ في ظلّ سعي السعودية للإمساك بزمام الأمور في العاصمة الموقتة لليمن، عدن، الواقعة تحت الهيمنة الإماراتية، كثّفت الرياض جهودها في محافظة المهرة، عسكرياً ومدنياً وسياسياً واجتماعياً. وكانت الرياض قد بدأت تدخلها العسكري في محافظة المهرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عبر قوات بقيادة ضباط سعوديين تسلمت مطار الغيظة، مشرفة على منفذي صرفيت وشحن البريين مع سلطنة عمان، لكن أحداً لم يتوقع تكثيف الرياض جهودها بهذه الوتيرة المتسارعة والتي شملت حراكاً متعدد القطاعات، بدت كتمهيد لمرحلة جديدة في المحافظة تشبه مثيلاتها في المحافظات اليمنية الأخرى.
في هذا السياق، أشارت آخر الأنباء الواردة من المهرة إلى أن "السعودية تعمل على إنشاء مركز ديني سلفي في مدينة قشن، ثالث أكبر المدن في المحافظة، على غرار مركز دار الحديث بمنطقة دماج بمحافظة صعدة الذي هُجر منتسبوه في عام 2014 إثر مواجهات مع الحوثيين استمرت لأشهر". وكشف مصدر مقرّب من السلطة المحلية بمحافظة المهرة، أن "المدينة شهدت خلال الأسابيع الماضية توافد أعداد كبيرة من السلفيين من بينهم أجانب، ضمن النازحين من المحافظات الشمالية، وذلك بتنسيق مع بعض من أبناء المدينة الذين يحملون ذات الفكر". ولفت في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن "السلفيين القادمين إلى المدينة اتخذوا من أحد المساجد التابعة للسلفية مسكناً لهم، ويرفضون تسجيلهم في كشوفات النازحين، أو تصويرهم أسوة بباقي النازحين بحجة التحريم شرعاً". وأضاف المصدر أن "قائد القوات السعودية بالمهرة ومحافظ المحافظة الشيخ راجح باكريت، عقدا قبل أيام اجتماعاً مغلقاً مع الشيخ المتزعم للسلفيين في ذات المركز، وذلك على هامش توزيع مساعدات غذائية وعينية مقدمة من السعودية".
وعكس المتوقع، قوبلت الخطوة برفض واسع النطاق من قبل أهالي المدينة، الذين نظموا وقفات احتجاجية اثنتين منها أمام ديوان المحافظ في مدينة الغيظة عاصمة المحافظة، معتبرين ما حدث "تهديداً للسلم الأهلي وضرباً للتعايش الذي تعرف به المحافظة".
وذكر بيان صدر عن مسيرة نسائية خرجت في المدينة، أن "توطين الغرباء بأعداد كبيرة ليس لأهداف إنسانيةٍ وإنما لأبعاد أخرى سينتج لها نتائج سلبيةً على مستقبلنا ومجتمعنا". وطالب البيان محافظ المحافظة والسلطة المحلية بـ"عدم السماح ببناء مراكز للجماعات الدينية المتطرفة في المديرية ومحافظة المهرة عموماً"، داعياً زعماء القبائل والفعاليات المجتمعية إلى "التحرك لوقف الأعمال غير المقبولة التي تمس خصوصية المهرة".
وعلى وقع الاحتجاجات، وعد محافظ المهرة الشيخ راجح باكريت، بحل مشكلة النازحين وعدم بناء أي مراكز دينية أو مخيمات وذلك أثناء لقائه بمندوبين من المدينة، وفق مصدر محلي من أبناء المدينة، الذي أضاف في حديثه لـ "العربي الجديد" أن "لجنة الإغاثة بالمحافظة أقرت معاملة السلفيين كغيرهم، وتوزيعهم على باقي المديريات في المهرة، إلا أن الوضع بقي كما هو مع انتقال بعض النازحين فقط إلى مناطق أخرى". وليس صدفة اختيار مدينة قشن لإقامة مركز سلفي، فإلى جانب رمزيتها التاريخية والتراثية كحاضرة للسلطنة العفرارية قبل ستينات القرن الماضي، إن المدينة على طريق مهم في خارطة الملاحة البحرية الدولية بين شرق القارة الآسيوية وغربها، فضلاً عن إحاطتها بسلاسل جبلية، مشكّلة نموذجاً لأن تكون مقراً لعمليات عسكرية مستقبلاً.
ورأى مراقبون أن "السعودية تسعى من خلال هذا المركز الديني إلى تثبيت نفوذها في المحافظة من بوابة الدين، إذ إن التيار السلفي، خصوصاً الحجوريين (نسبة إلى الشيخ يحيى الحجوري)، هم من أخلص التيارات اليمنية للسعودية". الأمر الذي عده البعض "مسماراً" جديداً في خاصرة سلطنة عمان ذات المنهج الأباضي المناقض للـ"الوهابية"، وذلك كنتيجة طبيعية لسلوك عمان مواقف بعيدة عن رغبات الرياض تجاه معظم ملفات المنطقة في مقدمتها الملف اليمني.
وبالتزامن مع الجدل المثار حول النازحين إلى المحافظة، وصلت دفعة جديدة من التعزيزات العسكرية التابعة للتحالف، تتضمن مصفحات وأطقما عسكرية وآليات أخرى، إلى المحافظة، منضمة إلى دفعة سابقة وصلت في نوفمبر/تشربن الثاني تحت شعار "مكافحة التهريب". مع العلم أن السعوديين سلّحوا في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعض القبائل المهرية وسلّموها نقاطاً عسكرية. ما أثار حفيظة قبائل أخرى، محذّرين من نتائج سلبية لهذه الخطوة.
وفي اسياق غير بعيد عن الحراك العسكري، استمرت الجهود الإنسانية والخدمية للسعودية في المحافظة، بدءاً من توزيع السلال الغذائية والمساعدات العينية المقدّمة من "مركز الملك سلمان للإغاثة"، مرورا بتزفيت الشوارع وتوزيع مولدات الكهرباء على المرافق الحكومية، ورفد المنشآت الصحية بسيارات إسعاف. بالإضافة إلى دعم 12 نادياً رياضياً بحافلات والإعلان عن مشروع تعشيب ملاعبها، إلى جانب الوعود بتنفيذ مشاريع مياه في أكثر من مديرية.
ومن المرتقب نجاح الرياض في خطتها في الشرق اليمني، خصوصاً إذا ما أُخذ في الاعتبار وجود رجلها الشيخ راجح باكريت على رأس السلطة المحلية، والذي قضى أكثر من شهر كامل في الرياض بعد تعيينه بقرار من الرئيس عبدربه منصور هادي حصل فيها على ضمانات بالدعم والوقوف خلفه. وهو الأمر المُلاحظ في تصريحات الرجل الذي لا يترك خطاباً من دون الإشارة إلى شكر المملكة على وقوفها إلى جانب المحافظة.
إلى جانب ذلك، بدت المملكة أقرب اجتماعياً للمهريين كنتيجة طبيعية لكسب عدد من زعماء القبائل لولائها ومنحهم الجنسية، بخلاف الإمارات التي فشلت سابقاً في مهمتها بالمحافظة، ولقيت تحركاتها قلق سلطنة عمان، الذي ظهر على شكل رفض واسع لمشايخ القبائل الذين تربطهم علاقة وثيقة بمسقط. وهو ما فسّر هجوم بعض رجالها على إنشاء المركز السلفي، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة اليمنية السابق خالد بحاح، الذي قال معلقاً على تطورات مدينة قشن، إن "إعادة إنتاج الجماعات الدينية تحت أعذار واهية بذور جديدة لصراعات مستقبلية".
ورأى البعض أن "تحركات السعودية التي بدأت تحت عناوين مكافحة التهريب في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قد ذهبت إلى ما هو أبعد بكثير من ذلك، سواء على مستوى استمالة المهريين تجاهها بدلاً عن عمان، التي حظيت بنفوذ واسع خلال العقدين الماضيين مستغلة تهميش الحكومات المتعاقبة للمحافظة، أو على مستوى التمهيد لتحقيق أهداف اقتصادية من خلال السعي للحصول على ممر إلى البحر العربي لتصدير النفط بعيداً عن مضيق هرمز المهدد بالخطر الإيراني.
في هذا الإطار، رأى المحلل ياسين التميمي، أنه "لا يمكن فصل التحركات السعودية الأخيرة في المهرة عن الدوافع الجيوسياسية المرتبطة بالأهمية الخاصة لهذه المحافظة، التي تعد ثاني أكبر محافظة يمنية من حيث المساحة وأقلها تعداداً للسكان". وأضاف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الإمارات سعت بقوة لفرض نفوذها في هذه المحافظة، لكن محاولة إثارة قلق ومخاوف عمان التي تتمتع بعلاقات متميزة بمحافظة المهرة المجاورة صعّب مهمتها، خصوصاً أن التواجد الإماراتي في جزيرة سقطرى بدأ يترافق مع ادعاءات لها علاقة باستفزاز عمان على خلفية علاقة التبعية التاريخية للسلطنة التي تحاول الإمارات التحرر منه".
ولفت التميمي إلى أن "التواجد السعودي في المهرة يبدو أقل سوءاً بالنسبة لسلطنة عمان من الوجود الإماراتي، غير أن ذلك لا يقلل من المخاوف بشأن إمكانية إحياء السعودية لمشروعها القديم بخصوص الحصول على ممر أرضي في محافظة المهرة، بهدف مد أنابيب تصدير النفط السعودي إلى خليج عدن". ووفقاً له فإن "التحركات السعودية قد تندرج في إطار التنافس بين السعودية والإمارات وسلطنة عمان، وقد تكون أيضاً في إطار توزيع أدوار بين أبوظبي والرياض، على ضوء ما استجد من أحداث الأزمة الخليجية التي وضعت سلطنة عمان حليفاً محتملاً لدولة قطر إذا ما استمر مجلس التعاون الخليجي في الهرولة نحو المزيد من التشظي".