29 سبتمبر 2017
الموتى رهائن الأحياء
نادراً ما يفلت الموتى من مصيرهم المحتوم في أن يكونوا رهائن الأحياء، يدخلونهم في طقوس الموت التي يشاؤون، حتى ولو لم تربطهم بها أي رابطة إيمانية. ربما يتحرر بعضهم من ذلك المصير، إذا ما أوصى باختيار الطقوس التي يرغب فيها للتعامل مع جسده الميت.
ليست طقوس الموت ما يعنيني، فهي تختلف باختلاف الأديان التي ينتمي إليها الموتى اختياراً، أو بسبب صدفة الولادة في عائلة تنتمي لهذا الدين أو ذاك. ولكن، اللافت في عالمنا العربي، وعبر أكثر من حكاية شهدتها، أن شخصيات عربية كثيرة من المنتمين إلى الفكر العلماني، أو الماركسي، أو الذين لم يعرف عنهم الانشغال الإيماني بالدين، مسيحيين أو مسلمين، أو عُرف عنهم إلحادهم، حتماً لاعتناقهم أيدولوجيات تنكر الدين أو الثقافة الدينية برمتها، إنهم، بعد رحيلهم، صاروا أسرى الأحياء، فخضعوا صاغرين إلى طقوس تتناقض تماماً مع كل ما كانوا يؤمنون به، ويناضلون من أجله في حياتهم.
فهذا مثلاً المناضل الراحل جورج حبش الذي قضى حياته مناضلاً في سبيل أفكاره القومية والماركسية بكل ما تحمله الماركسية من تناقض مع الدين وطقوسه، عندما رحل عام 2008 كانت جنازة رحيله مكتملة الطقوس الدينية المسيحية، من الصلاة في الكنيسة الأرثوذكسية في عمّان، إلى دفنه في مقبرة المسيحيين في ضاحية أم الحيران. وينطبق الأمر على المناضلين والمفكرين الماركسيين في لبنان، مثل مهدي عامل وحسن قبيسي وجورج حاوي وسمير قصير وجوزيف سماحة وكريستيان غازي. حتى أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي اشتهر بانعدام أي صلة له بالأديان، عندما عرف بساعة إعدامه عام 1949، طلب مقابلة كاهن، وإنْ يؤكد بعض مريديه أن المقابلة كانت لتحميل الكاهن رسالة، وليس للاعتراف.
وفي مقابل هؤلاء، شهدت، في السنوات الأخيرة، أمثلة تختلف جذرياً عن الشخصيات أعلاه ممن كانوا ضحية الاختطاف من الثقافة الدينية، ففي تونس، مثلاً، فإن النقابي الشيوعي، جورج عدة، ومن قبله زوجته غلاديس التي أوصت بمنح جثمانها لطلاب كلية الطب، دُفنا على التوالي في مقبرة "بورجل" في قسم الموتى غير الدينيين. وهذا يذكرنا بدفن الفنان المسرحي الفلسطيني جوليانو مير خميس في كيبوتس رموت مناشيه داخل الخط الأخضر، حيث دفنت والدته آرنا الشيوعية، وهذه المقبرة مفتوحة للذين لا يرغبون بالدفن في مقابر دينية.
إن طقوس الدفن والجنازة من غسل الميت، وتهيئة جسده للرحلة الأخيرة وتكفينه، أو إلباسه حلة تذكّر بحلة العرس، والصلاة عليه من الكاهن أو الشيخ، وتلاوة نصوص دينية تتعلق بالموت، تجعل الميت أسيراً في الشطر الأخير من حياته لإرادة الأحياء، يفرضون رؤيتهم على شكل الرحلة وخطواتها.
ربما يكون الراحل الوحيد، في السنوات الأخيرة الذي تمرد على ذلك كله، في وصيته التي نفذت كما أرادها، هو المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، والذي تم تحريق جثمانه، ما يخالف تعاليم كل الأديان السماوية، كما أراد ودفن رماده في مقبرة لطائفة من أكثر الطوائف المسيحية ليبرالية وانفتاحاً، هي طائفة الكويكرز في بلدة برمانا في جبل لبنان. ولو شاهدنا جنازة الشاعر الفلسطيني الكبير، محمود درويش، لهالنا كيف أن هذا الشاعر صار أسيراً، أولاً، للسلطة السياسية، حيث افتتح جنازته رئيسها، محمود عباس، بالآية "يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية.." ثم تحدث صديقه الشاعر الراحل سميح القاسم الذي اختتم رثاءه بفاتحة القرآن، ثم عائلته، ليستولي على مقاليد الرحلة الأخيرة للشاعر الشيخ محمد حسين، بصلاة الجنازة على شاعرٍ، لا ندري ماذا كان روحه يقول، وهو يرى إلى جسده رهينة كل هذه السلطات بلا حول ولا قوة.
ليست طقوس الموت ما يعنيني، فهي تختلف باختلاف الأديان التي ينتمي إليها الموتى اختياراً، أو بسبب صدفة الولادة في عائلة تنتمي لهذا الدين أو ذاك. ولكن، اللافت في عالمنا العربي، وعبر أكثر من حكاية شهدتها، أن شخصيات عربية كثيرة من المنتمين إلى الفكر العلماني، أو الماركسي، أو الذين لم يعرف عنهم الانشغال الإيماني بالدين، مسيحيين أو مسلمين، أو عُرف عنهم إلحادهم، حتماً لاعتناقهم أيدولوجيات تنكر الدين أو الثقافة الدينية برمتها، إنهم، بعد رحيلهم، صاروا أسرى الأحياء، فخضعوا صاغرين إلى طقوس تتناقض تماماً مع كل ما كانوا يؤمنون به، ويناضلون من أجله في حياتهم.
فهذا مثلاً المناضل الراحل جورج حبش الذي قضى حياته مناضلاً في سبيل أفكاره القومية والماركسية بكل ما تحمله الماركسية من تناقض مع الدين وطقوسه، عندما رحل عام 2008 كانت جنازة رحيله مكتملة الطقوس الدينية المسيحية، من الصلاة في الكنيسة الأرثوذكسية في عمّان، إلى دفنه في مقبرة المسيحيين في ضاحية أم الحيران. وينطبق الأمر على المناضلين والمفكرين الماركسيين في لبنان، مثل مهدي عامل وحسن قبيسي وجورج حاوي وسمير قصير وجوزيف سماحة وكريستيان غازي. حتى أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي اشتهر بانعدام أي صلة له بالأديان، عندما عرف بساعة إعدامه عام 1949، طلب مقابلة كاهن، وإنْ يؤكد بعض مريديه أن المقابلة كانت لتحميل الكاهن رسالة، وليس للاعتراف.
وفي مقابل هؤلاء، شهدت، في السنوات الأخيرة، أمثلة تختلف جذرياً عن الشخصيات أعلاه ممن كانوا ضحية الاختطاف من الثقافة الدينية، ففي تونس، مثلاً، فإن النقابي الشيوعي، جورج عدة، ومن قبله زوجته غلاديس التي أوصت بمنح جثمانها لطلاب كلية الطب، دُفنا على التوالي في مقبرة "بورجل" في قسم الموتى غير الدينيين. وهذا يذكرنا بدفن الفنان المسرحي الفلسطيني جوليانو مير خميس في كيبوتس رموت مناشيه داخل الخط الأخضر، حيث دفنت والدته آرنا الشيوعية، وهذه المقبرة مفتوحة للذين لا يرغبون بالدفن في مقابر دينية.
إن طقوس الدفن والجنازة من غسل الميت، وتهيئة جسده للرحلة الأخيرة وتكفينه، أو إلباسه حلة تذكّر بحلة العرس، والصلاة عليه من الكاهن أو الشيخ، وتلاوة نصوص دينية تتعلق بالموت، تجعل الميت أسيراً في الشطر الأخير من حياته لإرادة الأحياء، يفرضون رؤيتهم على شكل الرحلة وخطواتها.
ربما يكون الراحل الوحيد، في السنوات الأخيرة الذي تمرد على ذلك كله، في وصيته التي نفذت كما أرادها، هو المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، والذي تم تحريق جثمانه، ما يخالف تعاليم كل الأديان السماوية، كما أراد ودفن رماده في مقبرة لطائفة من أكثر الطوائف المسيحية ليبرالية وانفتاحاً، هي طائفة الكويكرز في بلدة برمانا في جبل لبنان. ولو شاهدنا جنازة الشاعر الفلسطيني الكبير، محمود درويش، لهالنا كيف أن هذا الشاعر صار أسيراً، أولاً، للسلطة السياسية، حيث افتتح جنازته رئيسها، محمود عباس، بالآية "يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية.." ثم تحدث صديقه الشاعر الراحل سميح القاسم الذي اختتم رثاءه بفاتحة القرآن، ثم عائلته، ليستولي على مقاليد الرحلة الأخيرة للشاعر الشيخ محمد حسين، بصلاة الجنازة على شاعرٍ، لا ندري ماذا كان روحه يقول، وهو يرى إلى جسده رهينة كل هذه السلطات بلا حول ولا قوة.