الموسيقى العربية... الرصاصة المُعطّلة

05 مايو 2017
+ الخط -

قد يظن البعض أنَّ من الترف الفكري الحديث عن وضع الموسيقى العربية، في حين أنَّ الأمة بهذه الحال الصعبة؛ سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا. نحن نظن العكس تمامًا؛ لأنه كما يقال "الشعوب تنهض بلغاتها"، فالمقصود فنونها وثقافتها أيضًا، فلذلك قد يكون من المجدي النظر في وضع الموسيقى في العالم العربي، وكيفية الإسهام في تطويرها لتساعد بدورها، ولو قليلاً، بنهوض الأمة وتطوير مِخْيالها الجَمعي. 

قد لا يفوت المراقبَ أن ما يطغى على المشهد الموسيقي مؤخرًا، عربيًا، وقد يكون عالميًا أيضًا، هي الموسيقى التجارية، سهلة الفهم والتوقّع، سطحية المبنى، مكرّرة منسوخة سريعة الحفظ، والنسيان كذلك.

هذا المشهد قد يكون مفهومًا في ظل نظام عالمي رأسمالي يشتري ويبيع كل ما قد يُدِرُّ الربح السريع بأقل جهد ممكن، وقد يقول أحدهم: "إن أكثر الموسيقى وُجدت لتكون وسيلة ترفيه شعبية سهلة، ولتلاقي استحسان عموم الناس وليس خاصّتهم، وإن تلك التي وجدت لاستهلاك النخبة هي الحالة الاستثناء، كما هو الحال مثلًا في الموسيقى الغربية المسمّاة "كلاسيكية" مقارنة بالموسيقى الشعبية".

الموسيقى التجارية كأي تجارة، تخضع لقوانين العرض والطلب، فـ"البِدعة" التي يسمونها شعبيّاً بالصَّرعة أو التقليعة، التي تلاقي رواجًا ينتج منها بكثافة حتى الملل، لحين ظهور "بِدعة" جديدة وهكذا دواليك، هذا الأمر في حد ذاته لا يجعل هذا النوع من الموسيقى غير شرعي، فبهذه الطريقة تُموّلُ هذه الصناعةُ ذاتَها مستقلةً عن مؤسسات الدولة، وقد ينتج عن هذه الصناعة حالات تستحق الاهتمام. 

لكن المشكلة تكمن في أن المصدر المغري والأسهل عادة للحصول على بدعة جديدة دون عناء، هو نسخها بالكامل من ثقافة مهيمنة عالميًا، أو من ثقافة مجاورة ذات تأثير قوي، كما كان الأمر مع الثقافة الفرنسية في بداية القرن العشرين في مصر، على سبيل المثال لا الحصر، حيث يظهر التأثير جليًا في الموسيقى والسينما وسائر الفنون الأخرى، و"فُرنِسَ" كل ما أُريد له أن يظهر بمظهر العصري الراقي على الرغم من عدم واقعيته، والذي "يُأمْرَك" اليوم لنفس السبب. 

بالتأكيد، ليست لدينا أية أوهام في أن الموسيقى والثقافة العربيَّتْين يمكن أن توجدا وتتطورا دون أي حوار مع الثقافات المجاورة أو المهيمنة عالمياً. لكن الحوار يجب أن يكون نديًّا، لا تبعيًّا نابعًا عن شعور بالدونية تجاه الغرب، حتى تتطور الموسيقى بأساليب محلية خاضعة لخصوصية الثقافة العربية ومعاييرها.

ما من شكٍّ أنَّ النسخ والتقليد الأعمى يؤدِّيان إلى بلادة في التجديد، وسطحيَّة في الفكر ورداءة في الإنتاج، ويُنتجان ويشجعان أفكارًا وتصرفاتٍ ممسوخة كالتي نراها مثلًا في برامج "الريالتي"، والتي يتبارى المشتركون فيها (مقدّمين ومتنافسين) بالغناء والتحدث بالإنكليزية (السوقية الركيكة غالبًا) لإثبات تحضرهم ومواكبتهم الحداثة من حيث المظهر لا المضمون.

هذه التصرُّفات والأفكار الممسوخة، تشجِّعُ على بناء أجيال تمجِّد الآخر وثقافته، بجيّدها ورديئها، وتنكر ذاتها وتجلِدُها أحيانًا تملقًا له.

قد يكون من الصعب منع وجود مثل هذه البرامج لكن مطلوب، برأينا على الأقل، ألا يبقى هذا النوع من الموسيقى وحيداً مُهيمنًا دون بديل حقيقي.

اليوم، وقد أصبحت الموسيقى لغة أكاديمية علمية، فإنّ إجادتها تتطلب جهدًا وممارسة وساعات طويلة من التدريب، المطلوب من مؤسسات الدول الاستثمار بالفنون عامة، والموسيقى خاصة، وليس الوصاية عليها وتحويلها إلى بوق دعاية يتماهى مع النظام وتوجهاته من جهة، وعدم تركها قوانين السوق ورأس المال الذي لا تعنيه حصانة المجتمع وثقافته من جهة أخرى. مثال على ذلك، الدعم الحكومي الضخم الذي تقدمه وزارة الثقافة الألمانية لدور الأوبرا في برلين (الذي يصل في بعض الأحيان لأكثر من 50 % من الميزانية) من دون أن تتدخل غالبًا في المضامين المطروحة، بهذا الدعم لا تترك دور الأوبرا أسيرة بيع التذاكر بشكل كامل، بحيث لا تبحث عن دخلها بتملق غرائز العامّة، وتسطيح مضامينها من جهة، ولكنها لا تستطيع تجاهل الذوق والمزاج العام من جهة أخرى.

 التحدي الكبير الآن أمام الموسيقى يكمن في إيجاد أسلوب لتعليم الموسيقى العربية الشرقية بطريقة أكاديمية، وذلك بالاستعانة بأساليب من حضارتنا كتجويد القرآن والترتيل في الكنيسة الشرقية مثلًا، وترجمتها للغة علمية حديثة، وتشكيلها في مساقات قابلة للتعليم والتطوير مع الاستفادة من التجربة الغربية العريقة في هذا المجال، دون الانسياق بشكل تام وراءها، ولا ضير كذلك في الاستعانة بالثقافات الشقيقة كالتركية والفارسية وحتى الهندية.

ما سبق يتطلب بالضرورة دعمًا من مؤسسات الدولة ماليًا، وبواسطة حث المستثمرين ورجال الأعمال على الاستثمار في مشاريع موسيقية ثقافية، وتشجيعهم على ذلك بالاسترجاع الضريبي، مثلًا، أو سن قوانين تجبر من يزيد دَخل أعماله عن حد معين على الاستثمار بمبلغ ما. هذا الاستثمار يتوزع على الكليات في شَكل مِنَح تفرغ للموسيقيين المنتجين وللطلاب، وقد يكون كذلك بشكل برامج تلفزيونية هادفة وليست بالضرورة تلقينيّة، وعظية ومملة، بل قد تحوي كل عوامل جذب المشاهد، من متعة وإثارة ومنافسة وغيرها، لكنها تنشد خير المجتمع وتطوره. 

 بهذا ستتحرك عجلة الثقافة والفنون وسيكون لذلك أثر كبير في عملية بناء الأمة وتقوية الروابط بين فئات الشعب المختلفة، فنحن نشاهد اليوم بأم أعيننا أممًا تُبنى من الفراغ وتبحث عن حضارة وثقافة وهمية لفعل ذلك، في حين نحن نملك حضارة غنية الموسيقى عريقة اللغة، ما يمكِّننا من صيانة مفهوم الأمة وتطوير حصانتها وخصوصيتها الثقافية بشكل كبير.
ليست لدينا أوهام في أن الاستثمار في الموسيقى وحدها قد يجلب الخلاص لهذه الأمة، لكننا نعتقد أنه أحد الجوانب الضرورية؛ فالموسيقى بأشكالها المختلفة قد تكون المجال الوحيد الذي يحظى بإجماع الجميع.

EF006227-9B12-4153-A638-CA6CF0AC099F
محمد موسى

ولد الموسيقي، محمد موسى، في قرية دير الأسد في منطقة الجليل شمال فلسطين لعائلة فنية وأب مغن (علي موسى)، والذي يعتبر أحد أهم الأصوات المتمكنّة من الموروث الجبلي، والتراثي. تعلم الغناء والموسيقى، والعزف على آلة العود من أبيه، ثم دخل الأكاديمية لينهي اللقب الأول في آلة العود، والموسيقى الشرقية.