الميراث الرقمي... بين الترف الإلكتروني والحاجة المجتمعية
لم يختلف الأمر عن باقي المجتمعات البشرية، عند اليونان والرومان كانت طريقة توريثهم عبارة عـن إقامة خليفة للمتوفى يختاره قيد حياته مـن أبنائه أو من غيرهم، بشرط موافقة القبيلة على هذا الاختيار، أما الفراعنة فقد كانـت طريقـة التوريث عندهم أن يحل أكثر الأشخاص رشدا في الأسـرة محل المتوفى فـي زراعـة الأرض والانتفاع بهـا دون ملكيتها، بالتالي تبقى تيمة الإرث والميراث قضية تمثل ثقافة مجتمعية أحيانا تصبح مثيرة للجدل في انعكاس تام لدينامية المجتمع وتحولاته، لكن في خضم هذا الصراع القديم - الجديد والذي يأخذ أحيانا بعدا شعبويا ضيقا بين سياسيي ودعاة الوطن العربي يمينا ويسارا، لماذا لا نتحدث عن الإرث الرمزي والمعنوي ونتحدث فقط عن الإرث المادي الذي يتركه الهالك؟
سؤال تبادر في ذهني في كل مرة يصلني خبر وفاة أحدهم على مواقع التواصل، ما الذي يقع لإرث ذاك الشخص المعنوي والرمزي إلكترونيا بعد وفاته؟ كيف يمكن تدبير حياته الإلكترونية التي يمكن إن نصنفها ضمن الإرث المعنوي والرمزي؟
لم تعد مسألة الإرث اليوم تقتصر على عقار وأموال ومنقولات، بل بات الأمر يشمل ما يمكن تسميته بالممتلكات الإلكترونية، والتي تدخل في خانتها حسابات بريدية وحسابات المواقع الإلكترونية ذات الدفع المسبق والخدمية بشكل عام، من قبيل حسابات تخزين قاعدة البيانات، منصات تداول العملات الرقمية أو الأسهم ووصولا في نهاية المطاف إلى مواقع التواصل الاجتماعي والخدمات حسب الطلب، بحيث مبدئيا العلاقة بين مزودي هذه الخدمات والتطبيقات الرقمية ومستخدميها هي علاقة تعاقدية، بالتالي وجب أن تتضمن مقتضيات العلاقة تنبه المستخدم إلى ضرورة تحديد مصير حساباته وأصوله الرقمية بعد وفاته، لكن ليس جل المنصات تستحضر ذلك بوضوح مما يجعل فراغا كبيرا للوضعية القانونية لتلك البيانات.
للأسف يوجد إغفال لهذا الجانب الخاص بالميراث الإلكتروني، إذ لا أحد منا فكر في يوم ما حول الطريقة التي وجب أن يتم بها تدبير إرثه الإلكتروني من طرف عائلته ومقربيه، وهو أمر راجع لعدم إدراك ومسألة وعي إلكتروني.
وتطرح مسألة إدارة الإرث الإلكتروني من جانب آخر نقاشا أخلاقيا نوعا ما، وذلك حول قضية الخصوصية، هل من الأخلاقي منح الولوج مثلا إلى البريد الإلكتروني أو إلى حسابات مواقع التواصل الاجتماعي ونحن ندرك أن هذا النوع من الولوج سوف يجعل أكثر الأمور حميمية وخصوصية متاحة لمقربي الهالك، بالتالي مثلا لا رغبة لي شخصيا بمنح ترخيص الولوج لحساباتي على مواقع التواصل لعائلتي لما تحتوي حساباتي من معطيات خاصة بي تحمل في طياتها بعض الأسرار والتي أريدها أن تختفي بعد وفاتي.
كما هناك بعد سوسيولوجي في الأمر أيضا، بالتالي هل يمكن مستقبلا تحويل هذا النوع من البيانات من صيغته التجارية الصرفة بين مستخدم أو ذوي حقوقه ومزود خدمة مثلا إلى صيغة المنفعة العامة، وذلك بهدف إعداد دراسات سوسيولوجية وسيكولوجية لحركية الإنسان داخل الإنترنت ولمَ لا تأخذ بعدا أركيولوجيا في مرحلة معينة.
بالتالي المسألة خلافية لا يمكن أن نسترسل فيها، إذ لكل فرد رؤيته الأخلاقية والقيمية للمسألة.
مع ذلك وجب استحضار أحد الأبعاد المهمة في الموضوع وهو البعد الحقوقي، وذلك من خلال إعمال حقوق الإنسان ذات الصلة بموضوع الإرث الرقمي، كالحق في الحياة الخاصة والحق في سرية المراسلات وحق الملكية وحق الحصول على المعلومة والحرية الشخصية، وأهمها حق الإنسان في أن يكون منسيا، وهو قرار شهير مرتبط بقرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلزام غوغل بإزالة رابط قديم يظهر في نتائج البحث على محرك البحث الخاص بها ويتعلق بخبر إشهار إفلاس المدعي في انسجام تام مع اقتراح سابق للمفوضية الأوروبية سنة 2012 لقانون يمنح مستخدمي الإنترنت "الحق في أن تكون منسيا"، الذي يسمح للأفراد طلب حذف وإزالة كل المعلومات التي تتعلق بهم، ويفرض على الشركات التكنولوجية على الشبكة الاستجابة لطلب الأفراد.
من جانب آخر، نجد ندرة تامة للكتابات القانونية حول الموضوع، رغم التسارع الرقمي وحجم السوق الرقمي الذي يحتاج معه إلى ضبط قانوني من طرف المشرعين، وهو أمر لا يقتصر على المنطقة العربية فحسب، فمعظم التشريعات العالمية المقارنة مازالت تتوسم وشاحا كلاسيكيا في مجاراة هذا التقدم الرقمي وإشكالاته القانونية المرتبطة بالقواعد المقررة بحماية المستهلك، الحماية من الاحتكار، تدبير الأصول الإلكترونية للفرد.
في الختام، نحن اليوم في أمس الحاجة إلى تكثيف الجهود بين التقني والقانوني من أجل إيجاد صيغ قانونية لتدبير ناجع وسليم لإرثنا الإلكتروني، وهو الأمر الذي قد يجعل للوصية أبعادا أخرى في سياق تام مع كل ما هو ذكي في حياتنا اليومية.