04 أكتوبر 2024
المِرْجَلُ العربي الذي ما زال يغلي
مع انتهاء المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية المصرية، يمكننا أن نزعم أن الأوضاع في الفضاء العربي لمَّا تستقر على حال بعد، وأن السيولة والاضطراب هما الغالبان فيه، وأن من يظن أننا وصلنا إلى نهاية الحكاية، حكاية الثورة والانتفاض على الظلم والتخلف، واهم لا يمت إلى الواقع بصلة.
لا أريد، هنا، أن أدخل في سياق تحليلي لنسبة المشاركة الشعبية، المتدنية جداً، في الانتخابات، وعزوف ناخبين مصريين كثيرين عن التصويت، وذلك على الرغم من كل مناشدات الرئيس الذي جاء بعد انقلاب عسكري، وأسبغت عليه كل الصفات كـ"المنقذ" و"المخلص"، وحتى "الدَّكَرْ". فلم تفلح مناشدات عبد الفتاح السيسي في إخراج المواطنين إلى صناديق الاقتراع، كما لم تنفع جوقة "الإعلام" المصري الذي شنَّ حملة شعواء من التهويش والتهديد والتخوين بحق الشعب "الناكر للجميل"، في دفع الناس إلى المشاركة، ولو حتى خوفا. لماذا؟ أظن أن جوهر هذا السؤال هو ما يقلق أنظمة الطغيان والبطش، ويبقي لنا، نحن الشعوب، أملاً حياً، في أن التغيير الإيجابي والواعي ما زال ممكنا.
ثَمَّةَ مسألتان في هذا السياق ينبغي أن نقرّ بهما، أولاً، وأن نبحث لهما عن حلول. الأولى، إن شعوبنا سهلة الانخداع، سهلة الانقياد. والثانية، إن شعوبنا، في الغالب، وكقاعدة عامة، لا تعدم استثناءات، تفضل الاستقرار الموهوم، ولو على أسس كارثية، كالكبت والقمع والفساد والتخلف، على دفع فاتورة التغيير الباهظة. لا شك في أن لِذَيْنِكَ الخللين في ثقافتنا أسبابا تاريخية وفقهية واجتماعية وسياسية واقتصادية، فضلا عن غياب مشروع وطليعة مُقْنِعَيْنِ، غير أن ما ينبغي التنبه له هنا، أن ذلك الاستقرار الموهوم لن يلبث أن يتحول إلى زلزال كارثي، يقلب الأمور رأسا على عقب، شئنا أم أبينا. فاستمرار الحال، في هذا السياق، من المُحال.
ضمن المعطى السابق، لا بد أن يكون فشل المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية المصرية، جرس إنذار، لا لنظام السيسي فحسب، بل ولكل النظام الرسمي العربي. إنه نذير شؤم لهم. ذلك أن "سَحَرَةَ فرعون" وإن "سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ"، إلا أن فعلهم يبقى "كَيْد سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى"، فعلى الرغم من كل حملة الدعاية والتَرْمِيزِ "للطاغية"، إلا أن حجم ومستوى التشوهات الخَلْقِيَّةِ في بنية نظامه "الطاغوتي" لا يمكن أن تُحْجَبَ بمساحيق تجميل، فضلاً عن أن تُخْفيها أكاذيب. حينها، يَقَعُ الحَقُّ وَيَبْطُلُ ما كانوا يعملون.
ولعلَّ من المفارقات الصارخة، الدالة على ما سبق، أن تترافق تلك الجولة من الانتخابات مع
الأمطار الغزيرة التي هطلت على كثير من محافظات مصر، وأغرقت مدينة الإسكندرية. فالأمطار والسيول عَرَّتْ كل أكاذيب "الدولة العميقة" في مصر، ونظام السيسي امتداد أصيل لها، عن "الإنجازات" التي تحققت، وما زالت تتحقق. ففي كل يوم، ثمة "مشروع" يفتتح، وفي كل يوم ثمة "تطوير" يتم، في حين لا يكاد المواطن "المصاب بالعمى"، أو "الناكر للجميل"، يرى أو يلمس من أثر ذلك شيئا، اللهم إلَّا صَمَّ أذنيه بأخبارها. ثمَّ بعد ذلك يأتي من يقول إن انفجارا آخر لن يقع، بعد أن "استوعبت" الشعوب بَهْظَ ثمن التغيير.
ليس الانفجار بالضرورة فعلاً واعياً، بقدر ما أنه، في الغالب، نتيجة لعدم القدرة على الاحتمال أكثر. وهو، بهذا المعنى، ليس بالضرورة، خطوة نحو التغيير الإيجابي الراشد والبناء، اللهمَّ إلا إن كان ثَمَّةَ نخبة قادرة على توجيهه، ومشروع قادر على استيعاب موجات غضبه. ولكن، وعلى أية حال، فإنه سيقع لا محالة، وهذا هو أكثر ما يقلق أنظمة الطغيان كلها. فكيف تتحكم بما لا تستطيع التنبؤ بوقت وقوعه وكيفيته.
وعودة، مرة أخرى، إلى الانتخابات البرلمانية المصرية. فحتى لو افترضنا أن مرحلتيها ستحققان نجاحاً منقطع النظير، من حيث نسبة المشاركة، فإنها لن تلبث أن يَنْكَشِفَ زيفها. وكيف لا، وهي قد حملت في أحشائها، سفاحاً، "الدولة العميقة" نفسها، وبأوحش صورها، وأكثرها فساداً. إنها البنية الصلبة الفاسدة نفسها التي أفقرت مصر وهمشتها، وسحقت شعبها وأذلته، وهي لا تزال، جرياً على عادتها، تهوي بمصر وشعبها في أعماق سحيقة، ما ظن أحد أنها موجودة. ونحن، إذا نظرنا إلى جُلِّ الواقع العربي اليوم، لما وجدنا فيه اختلافاً كثيراً عن الجاري في مصر، من حيث مصادرة كرامة المواطنين وحرياتهم، ونهب البلاد وتدميرها، وخنق أي إمكانية لانعتاق الناس وطلب مستقبل أفضل. ثمّ، بعد ذلك كله، يأتي أحدهم ليزعم أن "الثورات" ما هي إلا مؤامرة أميركية/غربية/إسرائيلية/تركية/قطرية/إخوانية على "بلادنا" و"علينا"! يزعم هؤلاء أن طلب التغيير يعني "الفوضى"، من دون أن يملكوا ذرة مصداقية لِيُقِروا أن طلب التغيير لا يأتي بالفوضى، بقدر ما أن رفض أنظمة جور التغيير المشروع هو ما يأتي بالفوضى. فالإنسان، من حيث كونه إنساناً، لن يستطيع أن يحتمل، إلى ما لا نهاية، الضغط والقمع والتخلف والفساد، وغياب أي أفق ومستقبل له ولأبنائه.
باختصار، وبناء على ما سبق، فإن المِرْجَلَ العربي يغلي، وهو عندما سينفجر سيلقي بحممه في كل الاتجاهات، وحممه ستطاول الجميع، والأنموذج السوري قابل للتعميم. سيتفلسف بعضهم، مرة أخرى، ويقول: وهل لنا في ذلك مصلحة، خصوصاً في ظل غياب نخبة ومشروع قادرين على استيعاب الانفجار؟ سؤال وجيه. ولكن، لربما كان الأكثر وجاهة أن نسأل: وكيف لن يكون هنالك انفجار، والنار لا تكاد تنطفئ تحت المِرْجَل؟
لا أريد، هنا، أن أدخل في سياق تحليلي لنسبة المشاركة الشعبية، المتدنية جداً، في الانتخابات، وعزوف ناخبين مصريين كثيرين عن التصويت، وذلك على الرغم من كل مناشدات الرئيس الذي جاء بعد انقلاب عسكري، وأسبغت عليه كل الصفات كـ"المنقذ" و"المخلص"، وحتى "الدَّكَرْ". فلم تفلح مناشدات عبد الفتاح السيسي في إخراج المواطنين إلى صناديق الاقتراع، كما لم تنفع جوقة "الإعلام" المصري الذي شنَّ حملة شعواء من التهويش والتهديد والتخوين بحق الشعب "الناكر للجميل"، في دفع الناس إلى المشاركة، ولو حتى خوفا. لماذا؟ أظن أن جوهر هذا السؤال هو ما يقلق أنظمة الطغيان والبطش، ويبقي لنا، نحن الشعوب، أملاً حياً، في أن التغيير الإيجابي والواعي ما زال ممكنا.
ثَمَّةَ مسألتان في هذا السياق ينبغي أن نقرّ بهما، أولاً، وأن نبحث لهما عن حلول. الأولى، إن شعوبنا سهلة الانخداع، سهلة الانقياد. والثانية، إن شعوبنا، في الغالب، وكقاعدة عامة، لا تعدم استثناءات، تفضل الاستقرار الموهوم، ولو على أسس كارثية، كالكبت والقمع والفساد والتخلف، على دفع فاتورة التغيير الباهظة. لا شك في أن لِذَيْنِكَ الخللين في ثقافتنا أسبابا تاريخية وفقهية واجتماعية وسياسية واقتصادية، فضلا عن غياب مشروع وطليعة مُقْنِعَيْنِ، غير أن ما ينبغي التنبه له هنا، أن ذلك الاستقرار الموهوم لن يلبث أن يتحول إلى زلزال كارثي، يقلب الأمور رأسا على عقب، شئنا أم أبينا. فاستمرار الحال، في هذا السياق، من المُحال.
ضمن المعطى السابق، لا بد أن يكون فشل المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية المصرية، جرس إنذار، لا لنظام السيسي فحسب، بل ولكل النظام الرسمي العربي. إنه نذير شؤم لهم. ذلك أن "سَحَرَةَ فرعون" وإن "سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ"، إلا أن فعلهم يبقى "كَيْد سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى"، فعلى الرغم من كل حملة الدعاية والتَرْمِيزِ "للطاغية"، إلا أن حجم ومستوى التشوهات الخَلْقِيَّةِ في بنية نظامه "الطاغوتي" لا يمكن أن تُحْجَبَ بمساحيق تجميل، فضلاً عن أن تُخْفيها أكاذيب. حينها، يَقَعُ الحَقُّ وَيَبْطُلُ ما كانوا يعملون.
ولعلَّ من المفارقات الصارخة، الدالة على ما سبق، أن تترافق تلك الجولة من الانتخابات مع
ليس الانفجار بالضرورة فعلاً واعياً، بقدر ما أنه، في الغالب، نتيجة لعدم القدرة على الاحتمال أكثر. وهو، بهذا المعنى، ليس بالضرورة، خطوة نحو التغيير الإيجابي الراشد والبناء، اللهمَّ إلا إن كان ثَمَّةَ نخبة قادرة على توجيهه، ومشروع قادر على استيعاب موجات غضبه. ولكن، وعلى أية حال، فإنه سيقع لا محالة، وهذا هو أكثر ما يقلق أنظمة الطغيان كلها. فكيف تتحكم بما لا تستطيع التنبؤ بوقت وقوعه وكيفيته.
وعودة، مرة أخرى، إلى الانتخابات البرلمانية المصرية. فحتى لو افترضنا أن مرحلتيها ستحققان نجاحاً منقطع النظير، من حيث نسبة المشاركة، فإنها لن تلبث أن يَنْكَشِفَ زيفها. وكيف لا، وهي قد حملت في أحشائها، سفاحاً، "الدولة العميقة" نفسها، وبأوحش صورها، وأكثرها فساداً. إنها البنية الصلبة الفاسدة نفسها التي أفقرت مصر وهمشتها، وسحقت شعبها وأذلته، وهي لا تزال، جرياً على عادتها، تهوي بمصر وشعبها في أعماق سحيقة، ما ظن أحد أنها موجودة. ونحن، إذا نظرنا إلى جُلِّ الواقع العربي اليوم، لما وجدنا فيه اختلافاً كثيراً عن الجاري في مصر، من حيث مصادرة كرامة المواطنين وحرياتهم، ونهب البلاد وتدميرها، وخنق أي إمكانية لانعتاق الناس وطلب مستقبل أفضل. ثمّ، بعد ذلك كله، يأتي أحدهم ليزعم أن "الثورات" ما هي إلا مؤامرة أميركية/غربية/إسرائيلية/تركية/قطرية/إخوانية على "بلادنا" و"علينا"! يزعم هؤلاء أن طلب التغيير يعني "الفوضى"، من دون أن يملكوا ذرة مصداقية لِيُقِروا أن طلب التغيير لا يأتي بالفوضى، بقدر ما أن رفض أنظمة جور التغيير المشروع هو ما يأتي بالفوضى. فالإنسان، من حيث كونه إنساناً، لن يستطيع أن يحتمل، إلى ما لا نهاية، الضغط والقمع والتخلف والفساد، وغياب أي أفق ومستقبل له ولأبنائه.
باختصار، وبناء على ما سبق، فإن المِرْجَلَ العربي يغلي، وهو عندما سينفجر سيلقي بحممه في كل الاتجاهات، وحممه ستطاول الجميع، والأنموذج السوري قابل للتعميم. سيتفلسف بعضهم، مرة أخرى، ويقول: وهل لنا في ذلك مصلحة، خصوصاً في ظل غياب نخبة ومشروع قادرين على استيعاب الانفجار؟ سؤال وجيه. ولكن، لربما كان الأكثر وجاهة أن نسأل: وكيف لن يكون هنالك انفجار، والنار لا تكاد تنطفئ تحت المِرْجَل؟