حتى يتمكّن النازحون السوريون في المخيّمات من الصمود، لا بدّ من توفير المساعدات لهم، وهو ما يزداد صعوبة بسبب الفيتو الأخير لكلّ من روسيا والصين في مجلس الأمن الدولي
بعد سنوات من النزوح والحصار وما خلّفته من أزمات، يجد سوريون كثر أنفسهم مضطرين إلى اختيار أولوياتهم. لا هَمّ إذا لم يتناولوا وجبة عشاء، فالطفل والمريض أولى بحصّة طعام. هكذا يمكن وصف واقع السوريين في مخيّم الركبان والمخيّمات في شمال غرب سورية وشمال شرقها. وبدأت تداعيات أزمة المساعدات بالظهور، بعد التوصّل إلى اتفاق على تمديد العمل بالقرار الأممي 2165 الصادر عام 2014 لإدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية، عبر منفذ باب الهوى عند الحدود التركية فقط، لمدّة عام واحد. وفي ما يخصّ الواقع الحالي وتأثيره بالسوريين في الشمال، يقول مدير منظمة سداد الإنسانية محمد نجار لـ"العربي الجديد" إنّ "أكثر من 11.1 مليون سوري في حاجة إلى مساعدات إنسانية ونحو 4.7 ملايين في حاجة ماسة وعاجلة إلى مثل تلك المساعدات". ويشير نجار إلى أن "تقلبات سعر صرف الليرة السورية في مقابل الدولار الأميركي وارتفاع أسعار السلع والخدمات وانتشار فيروس كورونا الجديد، كان لها تأثير سلبي بزيادة حجم المعاناة الإنسانية، وهو ما يستوجب زيادة حجم المساعدات الإنسانية المقدّرة بـ1.85 مليار دولار أميركي للعام المقبل، بهدف تلبية الاحتياجات الإنسانية بما فيها ما يرتبط بأزمة كورونا".
ويتحدّث نجار عن خفض قيمة الحصة الغذائية المقدّمة من قبل المنظمات الدولية، موضحاً أنّ ذلك يعني انخفاضاً في السعرات الحرارية للفرد الواحد، ما دفع إلى تعويض تلك الاحتياجات من مصادر أخرى من قبيل عمالة الأطفال والتسوّل. كذلك فإنّ خفض المساعدات الإنسانية بشكل عام شكّل فجوة كبيرة بين تكاليف العيش ومصادر دخل الأسر، خصوصاً في ظلّ أزمة كورونا".
وفي سياق متصل، يلفت نجار إلى أنّ "المعابر الحدودية بين سورية وتركيا تقدّر بعشرين، 11 معبراً منها مغلقة بشكل كامل وأربعة معابر مقيّدة الحركة بإذن رسمي، وخمسة معابر كانت مفتوحة أمام العمليات الإنسانية والتجارية قبل أن تُحصر تلك المهمة بمعبر واحد، بحسب القرار الأخير لمجلس الأمن الخاص بإدخال المساعدات الإنسانية من خلال معبر باب الهوى لمدّة 12 شهراً". ويؤكد أنّ ذلك سيؤثّر مباشرةً بالمساعدات الإنسانية الموجّهة إلى أكثر من 4.7 ملايين في الشمال السوري، إذ إنها ستنخفض، يُضاف إلى ذلك ضغط لوجستي كبير عند معبر باب الهوى سيؤخّر وصول الإمدادات الإنسانية مباشرةً".
والإجراءات التي يمكن اللجوء إليها لتجاوز الأزمة بحسب نجار، "تقضي بحثّ جميع الشركاء على المساهمة في زيادة تمويل المساعدات الإنسانية وزيادة حجم هذه المساعدات وعدم ربط إغلاق معبر باب السلامة الحدودي بتقليص المساعدات، وتأمين الوصول الآمن للمساعدات عبر خطوط الإمداد الحالية إلى جميع المتضررين في الشمال السوري وتخفيف القيود والإجراءات القانونية والروتينية. كذلك لا بدّ من الدعم في المحافل الدولية والإقليمية والمحلية من أجل زيادة التمويل بما يتناسب مع خطة الاستجابة الإنسانية لسورية عام 2020 والمقدّرة بنحو 3.4 مليارات دولار، فضلاً عن مناشدة المنظمات والهيئات العاملة في القطاع الصحي ومنظمة الصحة العالمية بذل مزيد من الجهود المادية والمعنوية وتقديم الإرشادات ووسائل التوعية للتصدّي لوباء كورونا بعد تفشّيه بالشمال السوري، في ظل انعدام الأمن الصحي". ويلخّص نجار "مطالب المنظمات المحلية المختصة بالشأن السوري، في الوقت الحالي، بمطلب واحد رئيسي هو عدم ربط مصير المساعدات الإنسانية عبر الحدود بالقرارات السياسية والعمل تحت مظلة الأمم المتحدة ومنسّق الشؤون الإنسانية العام بعيداً عن السياسة، مع السماح للعاملين الإنسانيين بالوصول الآمن إلى المتضررين من دون عوائق من كلّ الأطراف الفاعلة وتوفير الحماية لهم".
وفي هذا الإطار، عبّر فريق "منسّقو الاستجابة" عن مخاوفه من استهداف القوافل الإنسانية من قبل روسيا، فيما أشار إلى أنّ خفض كميّة المساعدات الغذائية الممنوحة للنازحين في الشمال من قبل المنظمات الإنسانية من ضمن السلة المحددة لا يتناسب مع تقييم الاحتياجات الإنسانية في المنطقة. ورأى في بيان أنّ خفض تلك المواد يأتي عشوائياً، محذّراً من مخاطر استمرار ذلك الوضع، إذ إنّه قد يسبّب مجاعة لا يمكن السيطرة عليها في المنطقة.
سياسة التجويع
من جهته، يقول مدير "الرابطة السورية لحقوق اللاجئين" مضر الأسعد لـ"العربي الجديد" إنّه "لا تتوافر إرادة دولية لزيادة عمليات إدخال المواد الإغاثية والإنسانية والطبية للنازحين في الشمال السوري. والأمم المتحدة تعرف أنّ هيئة تحرير الشام تسيطر على إدلب، وأنّ ثمّة حواجز تمنع التنقل بين مناطق إدلب وغصن الزيتون، وأنّ روسيا والصين عملتا على عرقلة عمليات إدخال المساعدات من بوابات مثل بوابة أعزاز أو جرابلس أو غيرها، وحصرت الأمر بمعبر باب الهوى". ويوضح الأسعد أنّ "استمرار إدخال المواد الإغاثية والإنسانية الأخرى يتطلّب من الأمم المتحدة تنفيذ القرار 2165 وعزل الشؤون الإنسانية عن الأمور السياسية، وهذا مطلب الشعب السوري والنازحين السوريين، لكون تسييس القضية من بعض الدول، في مقدمتها روسيا، يؤثّر بعملية إدخال تلك المواد. كذلك، لا يجب تنفيذ القرارات التي تصدر عن بعض الدول التي تحاول إعاقة دخول المواد الإغاثية مثل روسيا والصين، إذ لا يمكن حرمان أكثر من خمسة ملايين سوري في الشمال المساعدات الإنسانية والإغاثية".
ويتابع الأسعد: "بالنسبة إلى المشاريع المستدامة لتوفير الأمن الغذائي في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، ثمّة تقصير كبير من قبل مؤسسات المعارضة السورية، وكان يجدر بها التعاون مع المنظمات الدولية أو حتى العربية والمحلية للعمل على إنشاء مشاريع زراعية وصناعية في تلك المناطق. أمّا عن كمية المساعدات الإنسانية، فنحن في الرابطة السورية لحقوق اللاجئين طالبنا الأمم المتحدة في أكثر من مرّة بزيادتها في مناطق الشمال". ويشير الأسعد إلى أنّ "المنطقة الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية في شرق الفرات هذه المنطقة تتعرض لحصار دولي، وهذا الأمر يزيد الأمراض ويفاقم الموت البطيء للأهالي هناك. ونحن نطالب المنظمات الدولية بالعمل بعيداً عن التجاذبات السياسية"، مشيراً إلى أنّ "اجتماعاً عُقد قبل نحو ثلاثة أشهر ضمّ أكثر من 50 منظمة إنسانية للعمل في منطقة شرق الفرات. ومع أن منظمات عدّة التزمت ذلك، إلا أنّ ثمّة تقصيراً كبيراً بشكل عام من قبل المنظمات الدولية تجاه المنطقة". ويكمل الأسعد: "نحن في الرابطة السورية لحقوق اللاجئين، ما زلنا نناشد المنظمات الدولية والعربية والأشقاء والأصدقاء إدخال المواد الإغاثية، خصوصاً الطبية، وإنشاء المشاريع في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، وإدامة العمل الإغاثي الذي يساعد الأهالي على الاستقرار، وتوصيل المياه والكهرباء وتأهيل المدارس والمواصلات فيها. وحالياً، ثمّة منظمات تركية وأخرى محلية صغيرة تعمل على تقديم المساعدات إلى أهالي منطقة شرق الفرات".
أمّا في مخيّم الركبان الواقع عند المثلث الحدودي بين سورية والأردن والعراق، فيعيش النازحون فيه على حافة الجوع. ويعلّق الأسعد على واقع المقيمين فيه، قائلاً إنّ "ما يتعرّض له المخيّم يندى له جبين الإنسانية، والمعاناة مستمرة منذ إنشاء المخيّم حتى اليوم. وثمّة حصار على المخيّم مع تجاوزات في حقّ النازحين، فيما الحدود مقفلة من قبل الأردن. ونحن نطالب الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بالضغط على الحكومة الأردنية لفتح ممرّ إنساني إلى مخيّم الركبان، لأنّ النقطة الطبية الوحيدة تقع داخل الحدود الأردنية، إلى جانب إنشاء نقطة طبية أخرى على الأراضي السورية لإفادة النازحين في المخيّم. كذلك نطالب بتأمين غرف لتوليد النساء وأدوية للحروق والكسور واللقاحات الشهرية والسنوية للأطفال. ولا بدّ كذلك من حفر آبار ومحطة لتصفية المياه وتزويد المخيّم بالكهرباء، ومواصلة عملية التدريس. ونطالب بفتح ممر آمن لنازحي المخيّم في اتجاه الشمال السوري إذا لم يُوَفَّر ما يحتاجون إليه، فيتمكّنون بالتالي من إيجاد مخيّم لهم في الشمال".
تشارك المأساة
في المخيمات المنتشرة في الشمال السوري كلها، يتشارك النازحون المعاناة ذاتها. وتتمحور همومهم حول البحث عن المسكن والغذاء، وخصوصاً المقيمين في المخيّمات العشوائية التي تفتقر إلى الخدمات والبنى التحتية. كذلك، مع غياب فرص عمل، تزداد الأوضاع سوءاً. ويشير عروة ياسين، وهو نازح مقيم في تجمّع مخيّمات دير حسّان بريف إدلب الشمالي لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "العيش يزداد صعوبة يوماً بعد آخر هنا. ونركض خلفه ولا ندركه. فسعر الخبز ارتفع، والمساعدات تقلّصت، إذ خُفضت كميّة الأرزّ والزيت في السلة الغذائية. أمّا فرص العمل، فبالكاد متوافرة، ومردودها قليل. ونحو ألفَي ليرة سورية (نحو أربعة دولارات أميركية) كأجر يومي لعامل لديه عائلة لا تساوي شيئاً، وبالكاد تكفي ثمن الخبز". من جهته، يؤكد ابن مدينة بنش، محمد مصطفى، لـ"العربي الجديد" أنّ "الناس في الشمال السوري بمعظمهم، لا النازحين أو المهجرين فقط، في حاجة إلى مساعدات. يضيف: "تعبنا من الظروف التي نعيشها. كنت مدرّساً، لكنّني عملت تطوّعاً لمدّة أكثر من عام. واليوم، أعمل في محل بقالة لإعالة أسرتي. الظروف صعبة على الجميع في المنطقة، ومن يملك عملاً يحاول التمسّك به". ويؤكد مصطفى أنّ "الجوع كافر ولا قدرة لأحد على تحمّله".