ما زالت نتائج الحروب والمواجهات العسكرية تُلقي بظلالها على سكان ليبيا في ظل استمرار موجات النزوح وغيرها من الانعكاسات. الحرب على العاصمة طرابلس التي دامت أكثر من عام، خلّفت نحو 130 ألف نازح. لكنّ الرقم ليس نهائياً. على الرغم من عودة نسبة كبيرة من هؤلاء إلى منازلهم، إلا أن تبعات تحرير مدينة ترهونة، جنوب شرق طرابلس، أدت إلى نزوح عشرات العائلات الموالية لمليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر إلى شرق البلاد، إثر انسحاب هذه المليشيات من المدينة.
يقول الباحث الاجتماعي، عبد العزيز الأوجلي، إن هذا أحد تأثيرات الفوضى الأمنية والانقسامات القائمة في البلاد منذ تسع سنوات، موضحاً أن هذه الانقسامات "شديدة التعقيد، ولا يوجد أمل في الأفق لحل ما يترتب عليها من آثار".
وأعلنت بلدية الأبيار، شرقي بنغازي، توزيع مساعدات غذائية على نحو 192 أسرة حتى الآن. وهذا الرقم، بحسب الناشط المهجر من بنغازي، عقيلة الأطرش، ليس نهائياً. "هناك ما يزيد عن 200 أسرة نزحت من جنوب طرابلس وترهونة بعد انسحاب مليشيات حفتر، اضطرت للنزوح إلى شرق البلاد بسبب ولائها لتلك المليشيات وتقديم أبنائها كمقاتلين".
ويقول لـ "العربي الجديد" إن تلك العائلات النازحة تعاني "ظروفاً قاسية في ظل النزوح، من بينها عدم قدرتها على مواجهة ارتفاع أسعار بدلات إيجار المنازل في بنغازي والمناطق المحيطة بها، في ظل إهمال الجهات الرسمية لأوضاعها، على الرغم من مواقفهم الداعمة لتلك الجهات في حربها على طرابلس". يضيف أن العائلات تعاني صعوبات في إلحاق أبنائها في المدارس لتعويض ما فاتهم وإجراء الامتحانات النهائية التي باتت على الأبواب.
ويذكر الأطرش أن النازحين يواجهون صعوبة في تأمين العلاج بسبب الأوضاع الصحية المتردية في المراكز الصحية، خصوصاً المصابين من أبناء هذه الأسر. يضاف إلى ما سبق إقفال العديد من المدن في شرق ليبيا لمواجهة خطر تفشي كورونا المتصاعد، والذي زاد من العراقيل.
ويذكر محمد النعاجي النازح من ترهونة والذي يقطن حالياً في مدينة أجدابيا غربي بنغازي، أنه على الرغم من ترحيب الأهالي والتسهيلات التي قدمها شيوخ القبائل، إلا أننا نطالب بتأمين حق الأطفال في الدراسة والإقامة في ظل تعقيدات البلديات. ويشير النعاجي في حديثه لـ "العربي الجديد" إلى أن العائلات النازحة إلى مناطق شرق البلاد تعيش ظروفاً نفسية قاسية. "هناك فوارق اجتماعية ونظرة سلبية من قبل سكان بعض المناطق، والتي ترى أننا كنا سبباً في موت أبنائها خلال المعارك". يضيف: "يرى البعض أننا خذلنا أبناءهم الذين قدموا لنصرتنا في ترهونة"، مؤكداً أن تلك الاختلافات دفعت الكثير من العائلات إلى التنقل من منطقة إلى أخرى للبحث عن الأمان والاستقرار.
وتعيش في طرابلس ومدن غرب ليبيا نحو عشرة آلاف أسرة نزحت من بنغازي منذ أربعة أعوام من جراء حرب مليشيات حفتر على خصومها في بنغازي. ويقول مؤيد المشيطي، الذي هُجّر من بنغازي إلى طرابلس برفقة أسرته، إن حالة عدم الاستقرار بسبب التفاوت الثقافي في العادات وأنماط العيش "جعلتنا في شوق إلى حياتنا في بنغازي ودرنة وغيرهما من المدن".
وعلى عكس أوضاع النازحين من جنوب طرابلس وترهونة إلى مناطق شرق ليبيا، أخيراً، يلقى النازحون من بنغازي إلى مدن الغرب الليبي عناية حكومية كبيرة، وقد تمكنوا من بناء هيكل اجتماعي تحت اسم "الهيئة البرقاوية" و"الهيئة البنغازية" للمطالبة بحقوقهم. لكن الأوجلي يلفت إلى أن تلك الظروف الصعبة والسهلة لموجتي النزوح لا تعكس حقيقة الخطر الذي تعيشه البلاد بسبب ما يمكن وصفه بـ "التفسخ والتفكك الاجتماعي".
يتابع الأوجلي في حديثه لـ "العربي الجديد" أن "أولى نتائج هذه الظاهرة هي تراكم الشعور بالثأر وارتهان أحوال النازحين للأطراف المتصارعة، في انتظار انتصار هذا الطرف أو ذلك للانتقام". ويشير إلى أنها "حالة ممتدة ولن تتوقف بعد عودة النازحين إلى مناطقهم".
ومنذ بدء ظاهرة النزوح من مناطق الاشتباكات، ظهرت على السطح مبادرات المصالحة الاجتماعية، وتبنت السلطات في الكثير من الأحيان مبادرات "المصالحة الوطنية" كأساس لأي حل سياسي للأزمة في البلاد. لكن الأوجلي يؤكد فشلها ويسأل: "إذا كانت ناجحة فأين نتائجها؟". ويعزو غياب الدور الاجتماعي للحد من آثار النزوج إلى استمرار المعارك. والأكثر سوءاً بالنسبة إليه هو الاضطرار للهجرة إلى خارج البلاد.
ويؤكّد الأطرش أن بعض نازحي ترهونة الذين لم تهتم السلطات بإحصائهم اصطدموا بإجراءات إقفال الحدود لمواجهة كورونا، ما أثر على رغبتهم في الانتقال للعيش بعيداً عن مناطق الصراع. ويرى الأوجلي أن هذا ليس جديداً، موضحاً أن "النازحين من أنصار النظام السابق إلى مناطق الجوار الليبي عادوا إلى البلاد للمشاركة في الحرب أول ما أتيحت لهم الفرصة للانتقام ممن هجرهم من منازلهم". ويؤكّد أنّ التهجير لأسباب تتعلّق بالمواقف السياسية ستستمرّ في توليد النزاعات والثأر داخل المناطق، ما سيساهم أكثر فأكثر في تفتيت النسيج الاجتماعي مع مرور الوقت، ما سيؤثر سلباً على تعافي البلاد.