في الرابع من مايو/أيار الماضي، وبعد ساعات من اتصال مطول بين وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ونظيره المصري سامح شكري تطرق إلى أوضاع السجناء الحاملين للجنسية الأميركية في السجون المصرية والإجراءات المتخذة لحمايتهم من انتشار فيروس كورونا، سمحت السلطات المصرية للمواطنة المصرية الأميركية ريم دسوقي بمغادرة البلاد، على متن طائرة كانت قد أعادت عدداً من المصريين العالقين في الولايات المتحدة إلى مصر، وفي طريق عودتها أقلّت دسوقي ونجلها فقط. وبرز موقف للمتحدث باسم الخارجية الأميركية في حينه، جاء فيه بأن "واشنطن ترحب بسماح الحكومة المصرية للمواطنة الأميركية بمغادرة مصر، وأن سلامة مواطنيها في الخارج على رأس أولوياتها"، مشيراً إلى أن "السلطات المصرية حرمت زيارة السجناء بهدف منع تفشي فيروس كورونا، وقد طلبت السفارة الأميركية في القاهرة الحصول على إذن للتواصل مع ريم دسوقي عبر الهاتف، إلى أن تتمكن من زيارتها، وكان لها ما أرادت".
وكان نجل دسوقي، مصطفى حامد، بصحبة والدته لدى القبض عليها وهي عائدة إلى مصر في زيارة عائلية في يوليو/تموز 2019، وبعد عرضها على نيابة أمن الدولة العليا والأمر بحبسها أول فترة 15 يوماً وترحيلها إلى سجن القناطر، أقام الطفل البالغ من العمر 12 عاماً في كنف خاله. ويوم الأحد الماضي، أي بعد نحو 26 يوماً من مغادرة دسوقي مصر، نشرت الجريدة الرسمية قراراً لمساعد وزير الداخلية لشؤون مكتب الوزير، مؤرخاً في 16 إبريل/نيسان الماضي، يمنح الإذن لدسوقي بالحصول على الجنسية الأميركية مع منع احتفاظها بالجنسية المصرية.
وحسم هذا القرار كل الشائعات التي انتشرت في الأوساط الحقوقية لسيناريو ترحيل دسوقي ونجاتها من جحيم السجون المصرية، فهي لم تمر بالمراحل الطبيعية المقررة قانوناً للعرض وإخلاء السبيل، خصوصاً أنها كانت تقضي فترة حبس مقررة بقرار محكمة جنايات القاهرة برئاسة القاضي المعروف بمواقفه المتشددة من المعتقلين محمد شيرين فهمي. فقد حصلت دسوقي على قرار بإخلاء سبيلها على ذمة اتهامها في قضية "الانتماء لجماعة محظورة وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ونشر أخبار كاذبة" في 19 إبريل الماضي، واستأنفت النيابة في اليوم التالي ليصدر فوراً قرار القاضي فهمي باستمرار حبسها 45 يوماً، الأمر الذي تم تفسيره من قبل المحامين بأنه يعبر عن رغبة النظام في التنكيل بدسوقي. لكن اتصالات السفارة الأميركية في الأيام التالية أدت إلى فتح باب النجاة ولكن من خلال تنازلها عن الجنسية المصرية، في تكريس لمعادلة "الجنسية مقابل الحرية" التي فرضها الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ عام 2015 على السجناء والمحبوسين احتياطياً المتمتعين بجنسيات أخرى.
وحول ذلك قال مصدر قضائي لـ"العربي الجديد" إن النيابة العامة كانت الأداة التي تم تنفيذ القرار بها، إذ لم يتم عرض الأمر على محكمة، وأن النيابة قررت إخلاء سبيلها، وهي تملك ذلك قانوناً، حتى لو قررت المحكمة عكس ذلك. وكشف أن ريم كانت قد رفضت منذ أشهر عدة التنازل عن جنسيتها المصرية رغم مطالبتها بذلك من قبل النظام، لتخفيف الضغوط التي تمارسها واشنطن على القاهرة، لكنها رضخت في النهاية بسبب تعدد الاتصالات ورغبتها في الاطمئنان على ذويها في ظل كورونا.
وأوضح المصدر أن أوراق قضية دسوقي "كانت خاوية من دلائل على انتمائها لأي جماعة"، وأنها كانت تتضمن فقط صوراً من صفحتها الشخصية تضمّ آراء معارضة للنظام المصري فضلاً عن إعادة نشر أخبار من مواقع معارضة. ويحمل نص القرار الصادر من الداخلية العديد من المفارقات التي تعكس هشاشة العدالة والقواعد القانونية في مصر، فقد تم تأريخ القرار بموعد سابق على السماح لريم دسوقي بالسفر بثلاثة أسابيع تقريباً، في محاولة لإخفاء الارتباط بين قرار التنازل عن الجنسية والسفر مباشرة خارج مصر.
لكن هذا الأمر أوقع النظام في مفارقة مثيرة للدهشة، فتاريخ صدور القرار يسبق بالفعل بأربعة أيام قرار استمرار حبسها الصادر من المحكمة، وهو ما ليس متصوراً حدوثه بالفعل إذا كانت قد تنازلت عن الجنسية في ذلك الوقت. والمفارقة الأخرى هي أن الحصول على الجنسية الأميركية من الأساس لا يشترط ولا يتطلب التنازل عن جنسية البلد الأم، كما أن دسوقي نفسها حصلت على الجنسية الأميركية منذ سنوات عدة، حيث تعمل معلمة رسم في مدرسة بمدينة لانكستر بولاية بنسلفانيا.
وفي مارس/آذار 2015 سجل الصحافي السابق في قناة "الجزيرة" الدولية محمد فهمي فاضل، أول حالة تنازل عن الجنسية المصرية للنجاة من حكم قضائي مرتقب بالسجن في قضية "خلية ماريوت"، بعد حبس احتياطي استمر عاماً ونصف العام تقريباً، ليصار إلى ترحيله لكندا التي احتفظ بجنسيتها وحدها.
وفي مايو/أيار 2015، سجل الشاب محمد سلطان حالة ثانية للتنازل عن الجنسية المصرية للخروج من السجن بعد حبس احتياطي استمر 485 يوماً على ذمة قضية "غرفة عمليات رابعة"، ليرحَّل إلى الولايات المتحدة باعتباره مواطناً أميركياً، مكرساً بذلك حقيقة أن التنازل عن الجنسية المصرية في ظل حكم السيسي "عامل نجاة" من أخطار عديدة تحدق بحامليها.
وفي يناير/كانون الثاني 2019 تنازل المواطن الألماني من أصل مصري محمود محمد عبد العزيز عن الجنسية المصرية ليتمكّن من الحصول على قرار ترحيل إلى ألمانيا، بعد احتجاز استمر نحو أسبوعين بشبهة انتمائه لتنظيم "داعش". أما زميله الألماني الآخر عيسى الصباغ، فكان حظه أفضل نسبياً، إذ تم اعتباره متنازلاً عن الجنسية المصرية تبعاً لتنازل والده عنها عام 2007 ليبقى متمتعاً بالجنسية الألمانية وحدها، ثم اتُخذت إجراءات ترحيله إلى برلين أيضاً.
مع العلم أنه سبق أن كشفت مصادر أمنية في مصلحة الأمن العام، مطلع العام الماضي لـ"العربي الجديد" أن وزارة الداخلية تتلقى شهرياً حوالي 30 طلباً من مصريين مقيمين في الخارج للتنازل عن الجنسية المصرية. والإقبال على التنازل عن الجنسية ليس بجديد، فهناك العديد من الدول التي لا تقبل منح جنسيتها لشخص إلا إذا تنازل عن جنسيته الأصلية، ولذلك كانت القاعدة أن التنازل هو إجراء اضطراري.
كما كشفت المصادر أن عشرات الشباب الذين حصلوا على الجنسية المصرية بالتبعية لأحد الوالدين ويعيشون في الخارج منذ ولادتهم، ولا تحظّر دول الميلاد احتفاظهم بالجنسية المصرية وبالتالي بقاءهم مزدوجي الجنسية، أصبحوا حريصين أكثر من أي وقت مضى على التنازل عن الجنسية المصرية حتى تتم معاملتهم في مصر باعتبارهم أجانب فقط، وليس مصريين.
وربما يكون هذا الإقبال مدفوعاً بتجارب عملية شهيرة كالتي مر بها الصحافي محمد فهمي فاضل والناشط محمد سلطان، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فمنذ عام 2013 تجرى تحريات مكثفة على الشبان مزدوجي الجنسية أو ذوي الأصول المصرية الذين يعودون إلى مصر، ليس تحسباً لانضمامهم لـ"جماعات إرهابية" أو تنظيمات معارضة للنظام الحاكم، ولكن أيضاً لمعرفة الانتماءات السياسية لهؤلاء الأشخاص وإعداد ملفات كاملة عنهم لفحص الامتدادات الاجتماعية لهم في مصر، والصلات المتوقع إقامتها بين عائلات مصرية وأخرى أجنبية أو عائلات مصرية في الخارج، لتكون الأجهزة الأمنية على دراية كاملة بها. وأضافت المصادر أن "هناك قراراً سياسياً بعدم الممانعة في تنازل أي شخص عن الجنسية، في إطار رغبة الدولة أيضاً في التخفيف من واجباتها تجاه رعاياها".
وسبق أن تبنّت الحكومة المصرية مشروع قانون (لم يصدر) لتعديل قانون الجنسية المصرية، لسحب الجنسية في "حال صدور حكم قضائي يثبت انضمام حامل الجنسية إلى أي جماعة أو جمعية أو جهة أو منظمة أو عصابة أو كيان يهدف إلى المساس بالنظام العام للدولة أو تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي لها بالقوة أو بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة"، وليس فقط الأحكام التي تثبت الانتماء لـ"جماعة إرهابية".
وكان من شأن هذا المشروع الذي أقره مجلس الدولة، الجهة القضائية المختصة بمراجعة التشريعات قبل إصدارها، في ديسمبر/كانون الأول 2017، السماح بإسقاط الجنسية المصرية عن عدد غير محدد من المواطنين لاتهامهم في قضايا ذات طابع سياسي في المقام الأول، ومن دون اشتراط أن يكونوا قد اكتسبوا جنسية أخرى أو حاربوا الدولة المصرية أو حاولوا إسقاطها لحساب دولة أخرى، مما قد يؤدي لظهور فئة غير المجنسين أو "البدون"، كما يطلق عليهم في بعض الدول، للمرة الأولى في مصر.
في المقابل أصدر السيسي في أغسطس/آب 2018 قانوناً يسمح بمنح الأجانب الجنسية المصرية مقابل سداد مبلغ مالي في صورة وديعة قدرها 7 ملايين جنيه (أقل من 400 ألف دولار)، وأكد في خطاب له أنه لن يؤثر على الأمن القومي للبلاد، ثم عدله في يوليو/تموز 2019 بإمكانية منح الجنسية لكل أجنبي قام بشراء عقار مملوك للدولة أو لغيرها من الجهات الاعتبارية العامة، أو بإنشاء مشروع استثماري وفقاً لأحكام قانون الاستثمار، أو بإيداع مبلغ مالي بالعملة الأجنبية كإيرادات تؤول للخزانة العامة، على النحو الذي يصدر بتنظيمه قرار من رئيس مجلس الوزراء بعد موافقة المجلس.