النكبة الفلسطينية والثورات العربية
لم يكن تاريخ الخامس عشر من مايو/أيار 1948 مجرد حدث عادي في الذاكرة العربية، إنه لحظة تاريخية ظلت مفاعيلها تتواصل، وتتجدد في كل لحظة من تاريخ الأمة المعاصر، لحظة فارقة شكلت وعي الأجيال اللاحقة، بصورة ما زلنا نشهد آثارها. ربما لم تعرف قضية من القضايا في التاريخ المعاصر ما عرفته القضية الفلسطينية من أهمية وتأثير، بل ومن إعادة قولبة الوعي الجمعي لكل الشعب العربي من المحيط إلى الخليج.
قبل حصول ما اصطلح عليه المؤرخون بالنكبة (وهي جديرة بهذه التسمية)، كان ثمة وعي لدى كل المناضلين والمصلحين والسياسيين الوطنيين، في المنطقة العربية، بخطورة ما يتهدد فلسطين من مخاطر. وعلى الرغم من أن غالبية الأقطار العربية كانت تعاني من الاستعمار المباشر، إلا أن قضية فلسطين كانت تحتل موضعاً فوق الهم الوطني. حينها، كان الإمام حسن البنا، من مصر، يصرح "فلسطين تحتل في نفوسنا موضعاً روحياً قدسياً فوق المعنى الوطني المجرد". وكان الشيخ عبد العزيز الثعالبي من تونس، بمشاركته في المؤتمر الإسلامي في القدس (1931)، يؤكد "انعقاد المؤتمر سيكون في الواقع ضربة قاصمة لظهر الصهيونية، ومعطلا لنشاطها، لأن أولى غاياته ستكون المحافظة، ليس على بقاع فلسطين المقدسة فحسب، بل وعلى كل شبر من أراضيها". وبالمثل، كان علامة الجزائر، الشيخ عبد الحميد بن باديس، يحذر من المؤامرة الاستعمارية قائلاً "يريد الاستعمار الانكليزي الغاشم أن يستعمل الصهيونية الشرهة، لقسم الجسم العربي وحط قدس الإسلام فلسطين".
" أي حاكم عربي فاسد، إذا أراد التطهر من آثامه أمام شعبه، لا بد أن يتمسح بقضية فلسطين المقدسة. واليوم، وبعد أن بدأ الحراك العربي يتصاعد، متجسداً في ثورات متتالية، كانت فلسطين تحضر دوماً في قلب كل حدث، فبعد سقوط كل طاغية، كانت جماهير الناس تصيح بملء الفؤاد (الشعب يريد تحرير فلسطين)" |
وهكذا كانت مواقف كل زعماء الأمة، وأكثر من هذا، يحدثنا التاريخ عن قوافل المتطوعين، التي خرجت من تونس والمغرب والجزائر ومصر وسورية والعراق والأردن، وكل أقطار هذا الوطن العربي، للدفاع عن فلسطين، حيث لم تكن هذه المنطقة مجرد أرض تتعرض للاحتلال، وإنما هي وطن بحجم أمة. وبعد هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948، بدأت سلسلة انقلابات الجيوش العربية من سورية إلى العراق مروراً بمصر، تحت شعار واحد، تحرير فلسطين يمر حتما عبر إسقاط أنظمة الخيانة والعمالة. وبغضّ النظر عن مدى مصداقية القائمين بهذه الانقلابات، كانت نكبة فلسطين المحرك الخفي لكل هذه الأحداث، والدافع المركزي، الذي يمكن أن يدفع الجماهير للالتفاف حول أنظمة الحكم، مهما كان نفاق القائمين عليها.
صبر الشعب العربي على الاستبداد طويلاً، تحت تعلـّة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، والتي هي، بالتأكيد، معركة تحرير فلسطين، بل إن أي حاكم عربي فاسد، إذا أراد التطهر من آثامه أمام شعبه، لا بد أن يتمسح بقضية فلسطين المقدسة. واليوم، وبعد أن بدأ الحراك العربي يتصاعد، متجسداً في ثورات متتالية، كانت فلسطين تحضر دوماً في قلب كل حدث، فبعد سقوط كل طاغية، كانت جماهير الناس تصيح بملء الفؤاد "الشعب يريد تحرير فلسطين"، وهو أمر رأيناه في ثورتي تونس ومصر (قبل الانقلاب عليها)، وفي ثورة اليمن، وحيثما كان يندلع الحراك الشعبي. وإذا كان الحراك الثوري يُقاس بمدى التلاحم مع القضية الأم، والانتصار للمقاومة، فإن تقدم الثورات المضادة والانقلاب على إرادة الشعوب، نجد صداه واضحاً في الموقف من القضية الفلسطينية، ومدى الانتكاسة التي تحصل في مناصرتها، وهو أمر لاحظناه في موقف الانقلابيين في مصر، حيث اشتد الحصار على قطاع غزة، وتتم شيطنة المقاومة بكل السبل، في وسائل إعلام الانقلابيين.
وبالفعل، فإن قضية فلسطين ورمزية حدث النكبة تجاوز كونه لحظة تاريخية مرّة، تجرعها الشعب الفلسطيني، لتتحول حافزاً يحرك الثورات، ويصنع الأحداث والتطورات، فلا أحد يقدر على مخاطبة أي شعب عربي، من دون أن يؤكد مركزية هذه القضية، ومن دون أن يعلن عن سعيه إلى احتضان المقاومة، وتقديم الدعم لها. وفي المقابل، كان الشعب الفلسطيني بدوره ملاذاً للشعب العربي، حينما يتملكه اليأس، ألم تكن معركة الكرامة (1968) موقعةً، استعادت بها الأمة أنفاسها إثر نكسة يونيو/حزيران 1967، واستعادت من خلالها الثقة بنفسها وقدرتها على الفعل والتأثير؟ ألم تكن الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987 هزة قوية للوجدان العربي، حينما شاهد العرب جميعا أطفال فلسطين يخرجون، ملوحين بقبضاتهم العارية في وجه المحتل، مثبتين أن الكف يصمد في وجه المخرز؟ ألم تكن الانتفاضة الثانية في عام 2000 تأكيداً آخر للأمة المكبلة بقيود الاستبداد أن أهل فلسطين لا يستسلمون إلى أنصاف الحلول، ولا يبيعون قضيتهم في سوق النخاسة الدولية؟ ألم تكن الحرب العدوانية على غزة أواخر 2008 والصمود الأسطوري للمقاومة، أمام الترسانة الصهيونية الضخمة، صفعة لكل الذين راهنوا على دفن القضية، ولكل الحكام الذين اعتبروا زمن المقاومة انقضى، وأنه ليس ممكناً ممارسة أي فعل ثوري في ظل اختلال موازين القوى؟ ألم تقدم فلسطين رموزاً عظاماً للثورة، أصبحوا ملهمين للشعب العربي في كل مكان يتغنى بأسمائهم ويلهج بذكرهم ويسمي مواليده بأسمائهم؟ ألم يصبح الشيخ أحمد ياسين أيقونة للفعل الحر، وتكذيباً لمقولة العجز العربي في أقسى صورها، وهو الشيخ المقعد المشلول الذي تحدى العدو، ورفض التنازل ومضى إلى ربه شهيداً؟
خلاصة القول إنه مثلما كانت نكبة فلسطين محفزاً للتحولات السياسية في المنطقة العربية، كانت انتفاضات أهل فلسطين ملهمة للثورات العربية ضد الاستبداد، لأن المواطن العربي وعى الدرس جيداً، وأدرك أن الفلسطيني الذي يتحدى آلة القتل الصهيوني بيد فارغة، وأخرى لا شيء فيها، ثم لا يتراجع، هو المثال الذي ينبغي أن يحتذيه، في مجابهة أجهزة القمع الحكومية بأدواتها الجهنمية، من دون خوف أو وجل. إن فلسطين أعظم من مجرد وطن، أو أرض محتلة، إنها روح إيمانية ترفرف حيثما كان ظلم واستبداد وانتهاك، روح تدعو إلى الثورة والتمرد وتحقق الخلاص للنفوس، قبل الأبدان، من أدران الخوف والجبن والاستسلام. هذه فلسطين، وقضيتها أعظم حدث عرفه القرن العشرون، مثلما سيكون تحريرها أعظم لحظة فارقة سيحفل بها القرن الواحد والعشرين.. وإن غداً لناظره لقريب.