لم تدرك أم محمد أنه خلال غيابها ستة أشهر عن مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين (عند أطراف الضاحية الجنوبية لبيروت)، سيغادر عدد من شباب العائلة كمهاجرين غير شرعيين. فبعد أيام قليلة من عودتها من زيارة لأميركا الشمالية، ذهبت إلى المخيم، لكنها عادت مصدومة منه. فلان بات في اليونان، ونجل شقيقها ينتظر دوره في تركيا للانتقال إلى اليونان. أحد الشبان وصل إلى ألمانيا، أما الرابع، فزوجته تنتظر أن يتصل بها ليُخبرها بأنه وصل إلى تركيا، بعدما غادرها من لبنان عبر قارب غير شرعي. تقول أم محمد، إن المخيم يبدو فارغاً. هو ليس كذلك، لكنه بالنسبة إليها فارغ. معظم الشبان من العائلة، غادروا أو يعملون على الرحيل عن هذا البلد كمهاجرين غير شرعيين.
في مكان ليس ببعيد، يتولى أحد المكاتب تأمين تأشيرات دخول إلى تركيا للاجئين الفلسطينيين مقابل 2200 دولار أميركي، على الأقل هذا ما يُبلِغه لمن يقصده. طريق اللاجئين الفلسطينيين إلى تركيا ليس سهلاً، إن للاجئين في لبنان، أو للاجئين الفلسطينيين في سورية الذين هربوا إلى لبنان. هذا تحديداً ما يدفع الفلسطينيين، إلى سلوك طريق الهجرة غير الشرعية من لبنان إلى تركيا. وفي السابق كانت الطريق تمرّ في ليبيا ومنها إلى إيطاليا، وللوصول إلى ليبيا تُسلك طريق مصر أو السودان. وفي آخر التطورات في هذا المجال، كما ينقل مصدر فلسطيني لـ"العربي الجديد"، حصول الفلسطينيين على جوازات سفر سورية جديدة، والطريقة لحصولهم عليها غير واضحة بعد، لكنها تُكلف بين 1100 و1500 دولار أميركي، وتحتاج لواسطة ودعم. وبعد الحصول على الجواز، يُسافر اللاجئ إلى دولة ثالثة، يُسافر منها إلى تركيا، ويعمل المهربون على تأمين الطرق وجوازات السفر.
يُشير مسؤول في إحدى الفصائل الفلسطينية في بيروت إلى أن الهجرة هي الأفق الوحيد للفلسطينيين في لبنان، "ولو لم أكن في موقع مسؤوليّة حزبية، لكنت هاجرت مثل الكثيرين". كلامه يصدم. لكنه يوضح: "من هاجر في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حصل على جنسية أجنبية له ولعائلته، تمكنه من حرية التنقل والعمل والحياة الكريمة، وقد تعلّم أولاده، وهم يزورون لبنان بحرية، ومنهم من زار أرض أهله في فلسطين، أما من بقي هنا، فلا يزال عالقاً بالقوانين اللبنانية التي تمنع عنه الحياة". يقصد المسؤول نفسه في كلامه القوانين اللبنانية التي تحرم اللاجئين الفلسطينيين من حق التملك والعمل في أكثر من 70 مهنة والكثير من الحقوق الأخرى. ويُشير هذا إلى أنه في إحدى مدارس الأونروا في مخيم عين الحلوة، تم تسجيل 496 طالباً، لكن 342 يحضرون الصفوف، فيما كان عدد الطلاب المسجلين العام الماضي 604 طلاب. وهذه الأرقام مؤشر على مغادرة أعداد من اللاجئين لبنان إلى بلدان أخرى.
اقرأ أيضاً: طرابلس اللبنانية بوابة للمهاجرين... ومكافحة "التطرف" ذروة فشل الدولة
ارتفع عدد المهاجرين من لبنان، لبنانيين كانوا أم سوريين أم فلسطينيين. وفي الوقت عينه ارتفع عدد المراكب غير الشرعية التي أوقفتها السلطات اللبنانيّة، وهي في طريقها لتهريب عدد من الأشخاص من الجنسيات الثلاثة من لبنان إلى تركيا، بسبب عدم قدرتهم على السفر إليها بشكلٍ شرعي.
وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل يرى أن لبنان غير قادر على احتواء الهجرة غير الشرعية. وهو تحدث خلال مؤتمر صحافي مع وزير الخارجية والتجارة المجري بيتر سيارتو، نهاية الشهر الماضي، مشيراً إلى أن "الآثار السلبية الناجمة عن الهجرة الجماعية الحالية سوف تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الأمني ما لم تعالج من جذورها"، ومن أبرز النتائج السلبية، برأيه، "تبدل في صورة المنطقة تلغي الطبيعة التعددية للشرق الأوسط وتدمر التنوع في النسيج الاجتماعي، وثانيها، على صعيد أوروبا وخارجها، وهو تغذية صعود التطرف الغربي في مواجهة صعود الأصولية الشرقية".
وأكد باسيل ان "لبنان ليس بلد عبور للمهاجرين"، لكنه اعتبر أنّ "الحد من التدفق الجماعي انطلاقا من شواطئنا مشابه لاحتواء الماء بأيدينا في خزان ممتلئ يفيض بما فيه، وبغض النظر عن كل الجهود التي قدمتها قواتنا الأمنية، فإننا نواجه بداية هجرة مستمرة تنطلق من شواطئنا، ويتعذر احتواؤها". ثم يطلب باسيل المزيد من الدعم الأوروبي للبنان، للسعي لوقف عملية الهجرة.
يرى كثيرون أنّ كلام باسيل أقرب لعملية "ابتزاز" منه للعمل في الشأن العام. لكن الجزء الأهم من كلام باسيل، هو ربطه محاربة الهجرة بجهود القوى الأمنية، في تكرار للسياسة اللبنانية بربط ملف اللجوء السوري بالعامل الأمني دون غيره.
في المقابل، يتحدث وزير الاقتصاد اللبناني آلان حكيم بصراحة مطلقة. يُشير حكيم إلى أن هذا الموضوع يرتبط بالفقر الذي يزيد بشكلٍ كبير في لبنان "بسبب النزوح السوري". ويلفت إلى أن مليون شخص كانوا تحت خط الفقر في لبنان عام 2011، وارتفع ليصل اليوم إلى مليون و195 ألفاً، أي بزيادة نحو 20 في المئة كما يقول حكيم لـ"العربي الجديد".
يعترف حكيم بأن هذا الموضوع لا يُعتبر من أولويات الحكومة حالياً، "فالأولوية للتشاطر والاجتهادات القانونية وليس لمصالح الناس"، ويُضيف: "لا يوجد أي إحساس بالمسؤولية لدى الدولة، ومصالح الناس ليست على الأجندة".
يُشير حكيم إلى أن أرقام الفقر باتت مرعبة. في عكّار، شمال لبنان، "72 في المائة من الناس يعيشون بـ 110 دولارات شهرياً، و20 في المائة بأقل من 40 دولاراً شهرياً، ومن العار على الدولة والنظام، أن ننتظر الهبات والمساعدات الدوليّة بدل أن تُقدم الحكومة المساعدات والخطط الإنمائية". ويُضيف حكيم إن معدلات الولادة في المجتمعات الفقيرة عالية جداً، وهذا يُضاعف الأزمة برأيه، وهي تصل كما يُشير إلى 39 أو 40 في المائة، "وهذه الأسباب مجتمعة تدفع الناس لتعريض نفسها للخطر عبر خوض البحار من أجل الهجرة، ومن العار أن يُمزق اللبنانيون جواز سفرهم ويشتروا جوازاً سورياً بسعر يتراوح بين 300 و400 دولار من أجل الهجرة".
يرى حكيم أنه يجب على الحكومة تحمّل مسؤوليّتها والقيام بسلسلة خطوات سريعة يُحددها بـ"حصول تحرك حكومي اقتصادي ــ اجتماعي ــ إنمائي، وأن يكون هذا الأمر أولويّة للحكومة، وذلك بهدف تحريك العجلة الاقتصادية". كما يشير إلى ضرورة "تفعيل عمل الصندوق اللبناني للنهوض، وهو صندوق موجه حصراً للمناطق اللبنانية التي تستقبل اللاجئين السوريين، وقد تلقى هذا الصندوق أخيراً هبة من الهند وأخرى من كوريا الجنوبية".
ومن بين الخطوات الإضافية وضع خطة تنموية "للمناطق اللبنانية المحرومة" لمدة عشر سنوات بالاعتماد على تمويل لبناني وليس على الهبات الخارجية. وفي ما يخص اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، يرى حكيم أن هذا الموضوع شديد الحساسية في السياسة الداخلية اللبنانية "لكن تفعيل الحياة الاقتصادية ومواجهة الفقر وتنمية المناطق سيطاول اللاجئين الفلسطينيين إيجاباً".
اقرأ أيضاً: إفقار ممنهج لمناطق لبنانية وتأهيلها للعسكرة