في العديد من بلدان العالم، تساهم أعمال العنف التي تمارس من قبل بعض المتطرفين في تغيير مجرى التاريخ في تلك البلدان. ومع ذلك، فإن الدارسين لمسيرة الجماعات المتطرفة يلاحظون وجود فجوة واسعة بين الأثر الذي يحدثه هؤلاء المتطرفون وما نعرفه عنهم. فغالبا ما يُظن أن هؤلاء المتطرفين لا عقول لديهم تستطيع تمييز الصواب من الخطأ، وأنهم أناس يمكن برمجتهم وغسل عقولهم وحشوها بالأفكار المتطرفة. فهل الأمر كذلك؟
لتضييق الفجوة الناجمة عن سوء الفهم، قام كل من دييغو غامبيتا أستاذ علم الاجتماع في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، وستيفن هيرتوغ الأستاذ المشارك في قسم العلوم السياسية المقارنة بكلية الاقتصاد في لندن بتأليف كتاب: (مهندسو الجهاد: الصلة العجيبة بين التطرف العنيف والتعليم)، فقد أوضحا فيه أن الأمر غير ما يعتقده الكثيرون. كما أماطا اللثام عن حقيقتين غير متوقعتين بالمرة، على الأقل بالنسبة لهما، أولاهما: إن نسبة كبيرة من المتطرفين الإسلاميين تأتي من جامعيين ذوي خلفية هندسية، والأخرى: أن العوامل المشتركة التي تربط بين المهندسين والتيار اليميني أكبر بكثير من العوامل المشتركة بين هذه الفئة والتيار اليساري المتطرف. فبينما لا نرى أثرا لوجود المهندسين بين المتطرفين اليساريين في العالم الإسلامي نجد أن الذين تخرجوا من كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية أكثر وجودا وبروزا بين اليساريين.
اقــرأ أيضاً
ولكن لماذا يجذب الإرهاب المهندسين؟ هذا ما حاول المؤلفان البحث عن إجابة شافية له. وللبحث عن الإجابة، طَرَح المؤلفان أربعة أسئلة عامة حول التطرف، لعلها تكون المفتاح الذي به تتضح الحقيقة الخافية. وهي:
الأول: ما هي العوامل الاقتصادية والظروف الاجتماعية التي تدفع بعض الأفراد إلى ولوج عالم التطرف؟ والثاني: أين يكمن السر وراء اختيار المتطرف لتيار معين للانضواء تحت لوائه: هل شخصية المتطرف نفسه؟ أو الأسلوب المتبع من قبل ذلك التيار لتجنيده؟ وهل صحيح أن الجماعات المتطرفة تقوم بتجنيد المهندسين لأنهم يمتلكون مهارات تقنية عالية قد تفيد في مجالات تحتاج إليها كصناعة المتفجرات. والثالث: هل للأيديولوجيا أي دور مؤثر في تقرير من ينضم إلى أي جماعة من الجماعات المتطرفة؟ والأخير: هل ثمة عقلية معينة تتسم بكونها أكثر عرضة لتقبّل نوع محدد من التطرف؟
استخدم مؤلفا الكتاب عدة أساليب بحث علمي دقيقة، ومجموعة من قواعد البيانات، وذلك لتفسير السبب الذي يربط بين نوع التعليم الدراسي الذي يميل المرء إليه في دراسته الجامعية، وبين نوع التطرف الذي قد ينحاز إليه مستقبلا. ووضع المؤلفان في اعتبارهما العاملين التاليين:
الأول: مدى قابلية أو انعدام الحركة الاجتماعية للمهندسين في العالم الإسلامي.
والثاني: عقلية المهندسين التي تتسم بالتفكير المنطقي، والبحث عن النظام، والتسلسل الهرمي.
وقد أوضحت المعلومات والبيانات التي جمعها المؤلفان أن عدد المهندسين في الجماعات الإرهابية بدول العالم الإسلامية يبلغ ضعف عدد خريجي كليات الدراسات الإسلامية. كما أنهما وجدا نمطاً مشابهاً في الجماعات الراديكالية التي نشأت في دول الغرب وفي جنوب آسيا، فعلى الرغم من قلة الجامعيين بينهم، فإن أغلبية الحاصلين على شهادات جامعية منهم متخصصون في الهندسة. وفي مقابل ذلك، هناك نمط معاكس تماماً بين الجماعات الإسلامية التي لا تتبنى العنف، فأكثرهم يحملون شهادات في تخصصات أخرى. باستثناء تركيا وإيران فإن معظم الجامعيين في الجماعات اليسارية بالعالم الإسلامي هم من خريجي كليات الآداب والعلوم الإنسانية.
اقــرأ أيضاً
ويرى المؤلفان أن وجود المهندسين في بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة، وليس في غيرها، يُعَدّ تعبيرا عن خصائص فردية يمكن أن تبرر لنا دوافع التجنيد الانتقائي لهم من قبل الحركات الإسلامية الراديكالية، ولا سيما أن هناك أدلة قوية تؤكد أن المهندسين هم أكثر عرضة لذلك التجنيد؛ نظرا لأسلوب تفكيرهم ورؤيتهم الخاصة للعالم.
ويرجع المؤلفان سبب قبول المهندسين للانخراط في سلك الحركات المتطرفة إلى حالات الإحباط التي يمنى بها خريجو كليات الهندسة في معظم دول العالم الإسلامي (باستثناء المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج العربية)، حيث لا يجد هؤلاء الخريجون فرصة لتحقيق أحلامهم في الحصول على وظائف جيدة ومراكز اجتماعية مرموقة، مقارنة بالأطباء مثلا.
ومن ناحية أخرى، فإن الأيديولوجية التي تتبناها الجماعات المتطرفة تتناسب مع عقلية المهندسين وتتناغم مع فهمهم للعالم. ويدلل المؤلفان على صحة هذا التعليل بقلة أعداد المتطرفين الذين يحملون شهادات في الهندسة بالمملكة العربية السعودية؛ لأنهم يستطيعون بسهولة أن يجدوا بها وظائف مجزية.
وبحسب معطيات الكتاب، فإن الجماعات الإسلامية المتطرفة لا تجند المهندسين للاستفادة من مهاراتهم التقنية، بل استنادا إلى ثقتها فيهم.
وتشير بيانات المسح الذي أجراه المؤلفان إلى أن معظم أعضاء هيئة التدريس في كليات الهندسة بجامعات العالم الإسلامي هم من أصحاب الفكر المحافظ، مقارنة بكثير من نظرائهم في الكليات الأخرى.
وأخيرا، فإنه على الرغم مما يقدمه الكتاب من حجج وجيهة، فإننا لا نتفق مع بعض ما تضمنه حول علاقة التربية بتلك الجماعات، كما غاب عن المؤلفين دور النظم الديكتاتورية في صناعة الإرهاب.
(كاتب مصري)
اقــرأ أيضاً
لتضييق الفجوة الناجمة عن سوء الفهم، قام كل من دييغو غامبيتا أستاذ علم الاجتماع في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، وستيفن هيرتوغ الأستاذ المشارك في قسم العلوم السياسية المقارنة بكلية الاقتصاد في لندن بتأليف كتاب: (مهندسو الجهاد: الصلة العجيبة بين التطرف العنيف والتعليم)، فقد أوضحا فيه أن الأمر غير ما يعتقده الكثيرون. كما أماطا اللثام عن حقيقتين غير متوقعتين بالمرة، على الأقل بالنسبة لهما، أولاهما: إن نسبة كبيرة من المتطرفين الإسلاميين تأتي من جامعيين ذوي خلفية هندسية، والأخرى: أن العوامل المشتركة التي تربط بين المهندسين والتيار اليميني أكبر بكثير من العوامل المشتركة بين هذه الفئة والتيار اليساري المتطرف. فبينما لا نرى أثرا لوجود المهندسين بين المتطرفين اليساريين في العالم الإسلامي نجد أن الذين تخرجوا من كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية أكثر وجودا وبروزا بين اليساريين.
الأول: ما هي العوامل الاقتصادية والظروف الاجتماعية التي تدفع بعض الأفراد إلى ولوج عالم التطرف؟ والثاني: أين يكمن السر وراء اختيار المتطرف لتيار معين للانضواء تحت لوائه: هل شخصية المتطرف نفسه؟ أو الأسلوب المتبع من قبل ذلك التيار لتجنيده؟ وهل صحيح أن الجماعات المتطرفة تقوم بتجنيد المهندسين لأنهم يمتلكون مهارات تقنية عالية قد تفيد في مجالات تحتاج إليها كصناعة المتفجرات. والثالث: هل للأيديولوجيا أي دور مؤثر في تقرير من ينضم إلى أي جماعة من الجماعات المتطرفة؟ والأخير: هل ثمة عقلية معينة تتسم بكونها أكثر عرضة لتقبّل نوع محدد من التطرف؟
استخدم مؤلفا الكتاب عدة أساليب بحث علمي دقيقة، ومجموعة من قواعد البيانات، وذلك لتفسير السبب الذي يربط بين نوع التعليم الدراسي الذي يميل المرء إليه في دراسته الجامعية، وبين نوع التطرف الذي قد ينحاز إليه مستقبلا. ووضع المؤلفان في اعتبارهما العاملين التاليين:
الأول: مدى قابلية أو انعدام الحركة الاجتماعية للمهندسين في العالم الإسلامي.
والثاني: عقلية المهندسين التي تتسم بالتفكير المنطقي، والبحث عن النظام، والتسلسل الهرمي.
وقد أوضحت المعلومات والبيانات التي جمعها المؤلفان أن عدد المهندسين في الجماعات الإرهابية بدول العالم الإسلامية يبلغ ضعف عدد خريجي كليات الدراسات الإسلامية. كما أنهما وجدا نمطاً مشابهاً في الجماعات الراديكالية التي نشأت في دول الغرب وفي جنوب آسيا، فعلى الرغم من قلة الجامعيين بينهم، فإن أغلبية الحاصلين على شهادات جامعية منهم متخصصون في الهندسة. وفي مقابل ذلك، هناك نمط معاكس تماماً بين الجماعات الإسلامية التي لا تتبنى العنف، فأكثرهم يحملون شهادات في تخصصات أخرى. باستثناء تركيا وإيران فإن معظم الجامعيين في الجماعات اليسارية بالعالم الإسلامي هم من خريجي كليات الآداب والعلوم الإنسانية.
ويرجع المؤلفان سبب قبول المهندسين للانخراط في سلك الحركات المتطرفة إلى حالات الإحباط التي يمنى بها خريجو كليات الهندسة في معظم دول العالم الإسلامي (باستثناء المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج العربية)، حيث لا يجد هؤلاء الخريجون فرصة لتحقيق أحلامهم في الحصول على وظائف جيدة ومراكز اجتماعية مرموقة، مقارنة بالأطباء مثلا.
ومن ناحية أخرى، فإن الأيديولوجية التي تتبناها الجماعات المتطرفة تتناسب مع عقلية المهندسين وتتناغم مع فهمهم للعالم. ويدلل المؤلفان على صحة هذا التعليل بقلة أعداد المتطرفين الذين يحملون شهادات في الهندسة بالمملكة العربية السعودية؛ لأنهم يستطيعون بسهولة أن يجدوا بها وظائف مجزية.
وبحسب معطيات الكتاب، فإن الجماعات الإسلامية المتطرفة لا تجند المهندسين للاستفادة من مهاراتهم التقنية، بل استنادا إلى ثقتها فيهم.
وتشير بيانات المسح الذي أجراه المؤلفان إلى أن معظم أعضاء هيئة التدريس في كليات الهندسة بجامعات العالم الإسلامي هم من أصحاب الفكر المحافظ، مقارنة بكثير من نظرائهم في الكليات الأخرى.
وأخيرا، فإنه على الرغم مما يقدمه الكتاب من حجج وجيهة، فإننا لا نتفق مع بعض ما تضمنه حول علاقة التربية بتلك الجماعات، كما غاب عن المؤلفين دور النظم الديكتاتورية في صناعة الإرهاب.
(كاتب مصري)