02 نوفمبر 2024
الهوية الفلسطينية والمكان
في ذروة نضال الفلسطينيين في سبيل العودة وتحرير وطنهم، قاتل الفدائيون بجميع الوسائل ومن جميع الأمكنة: اجتازوا الحدود من الأردن وسورية ولبنان، وعبروا الأنهار، كنهر الأردن، ونزلوا شواطئ فلسطين بحراً (مثل عمليتي كمال عدوان سنة 1978 واقتحام وزارة الدفاع الإسرائيلية سنة 1985)، وصعدوا إلى السماء، للاستيلاء على الطائرات، وهبطوا من الجو (مثل عملية الطائرة الشراعية التي نفذها الحلبي خالد أكر في 1987)، ولم يتركوا طريقة إلا استعملوها، وسقط على هذا الدرب كثيرون.
واليوم، بعد نحو خمسين سنة على انطلاق المقاومة المسلحة، ما برح الفلسطينيون يحاولون اجتياز الحدود وعبور البحار، وها هم أبناؤهم يتساقطون في اللجج المالحة، أو على دروب الهجرة، سعياً وراء الكرامة والخبز والأمان. ومع ذلك، ثمة حملة هاذية، وعنصرية أحياناً، تطارد الفلسطينيين في أكثر من مكان: في مصر، لأن حمقى امتشقوا السلاح نصرة للإخوان المسلمين. وفي سورية، لأن شباناً انضموا إلى مقاتلي المعارضة. وفي لبنان، لأن اثنين من الفلسطينيين تورطا في أعمال إرهابية. وهناك مَيْلٌ لتحميل الفلسطينيين المسؤولية المباشرة عما حل بهم من مصاعب ومصائب في سورية ومصر ولبنان. وفي لبنان بالتحديد، راحت المخيلة السياسية الجمعية تنسج أوهاماً عن أن كل نازح فلسطيني جديد هو لاجئ دائم، ولم تتورع عن إقامة مندبة صاخبة، في شأن الخطر الفلسطيني الجديد، مع أن عدد النازحين الفلسطينيين من سورية إلى لبنان لم يتجاوز السبعين ألفاً، بقي منهم في لبنان 43 ألفاً فقط. وهؤلاء لم يضعوا أثقالهم على أكتاف اللبنانيين، بل على كواهل أقاربهم في المخيمات، وعلى عاتق وكالة غوث اللاجئين "أونروا" بالدرجة الأولى.
في هذا الميدان، لا أبالغُ في الاستنتاج إذا قلتُ إن الهويةَ الفلسطينية معرضةٌ للاندثار، جراء هجرة الفلسطينيين المتمادية، من سورية ولبنان إلى أقاصي الأرض؛ فالهوية مرتبطة عضوياً بالمكان، ولا هويةَ تاريخية لأي شعب بلا مكانٍ محدد. والمخيم هو مكان الفلسطينيين، فيه تعلموا كيف يحافظون على روابطهم العائلية القديمة، وعلى لهجة آبائهم وميراثهم الإنساني، وحتى على انقساماتهم القروية التقليدية. ومن هذه العناصر الأولى المتفاعلة، صاغ الفلسطينيون هويتهم في المنفى، وزيّنوا المكان الجديد بالصور القديمة، واحتفظوا بأوراق الطابو ومفاتيح البيوت المهجورة. ثم تحول المخيم في زمن الكفاح في سبيل التحرر الوطني إلى فضاء للتمرد، وبات مكاناً لاختبار عوالم جديدة من الحرية.
كان المخيم، في زمن الأحلام الكبيرة، وطناً موقتاً، ومحطة في طريق العودة. أما اليوم، فها هو يتحول إلى منفى، أو إلى استراحة على دروب الرحيل، وصار مكاناً للسأم والاجتماع عند نواصي الأزقة، والاسترخاء في مقاهي الشوارع، واكتساب مسلك التشاجر واجترار الكلام على البؤس والخيبة، وذم الزمان وصنع النقمة والانجراف نحو التدين والتعصب، والولع بالتفتيش عن سبل للهجرة للخلاص من هذه الحال المهينة. وبهذا المعنى، راح المكان يفقد حميميته، ويهاجر أبناؤه، ويختفي منه ذلك الميراث الإنساني الذي كان ناراً مقدسة سنين كثيرة، فصار رماداً إلى حد كبير.
واليوم، بعد نحو خمسين سنة على انطلاق المقاومة المسلحة، ما برح الفلسطينيون يحاولون اجتياز الحدود وعبور البحار، وها هم أبناؤهم يتساقطون في اللجج المالحة، أو على دروب الهجرة، سعياً وراء الكرامة والخبز والأمان. ومع ذلك، ثمة حملة هاذية، وعنصرية أحياناً، تطارد الفلسطينيين في أكثر من مكان: في مصر، لأن حمقى امتشقوا السلاح نصرة للإخوان المسلمين. وفي سورية، لأن شباناً انضموا إلى مقاتلي المعارضة. وفي لبنان، لأن اثنين من الفلسطينيين تورطا في أعمال إرهابية. وهناك مَيْلٌ لتحميل الفلسطينيين المسؤولية المباشرة عما حل بهم من مصاعب ومصائب في سورية ومصر ولبنان. وفي لبنان بالتحديد، راحت المخيلة السياسية الجمعية تنسج أوهاماً عن أن كل نازح فلسطيني جديد هو لاجئ دائم، ولم تتورع عن إقامة مندبة صاخبة، في شأن الخطر الفلسطيني الجديد، مع أن عدد النازحين الفلسطينيين من سورية إلى لبنان لم يتجاوز السبعين ألفاً، بقي منهم في لبنان 43 ألفاً فقط. وهؤلاء لم يضعوا أثقالهم على أكتاف اللبنانيين، بل على كواهل أقاربهم في المخيمات، وعلى عاتق وكالة غوث اللاجئين "أونروا" بالدرجة الأولى.
في هذا الميدان، لا أبالغُ في الاستنتاج إذا قلتُ إن الهويةَ الفلسطينية معرضةٌ للاندثار، جراء هجرة الفلسطينيين المتمادية، من سورية ولبنان إلى أقاصي الأرض؛ فالهوية مرتبطة عضوياً بالمكان، ولا هويةَ تاريخية لأي شعب بلا مكانٍ محدد. والمخيم هو مكان الفلسطينيين، فيه تعلموا كيف يحافظون على روابطهم العائلية القديمة، وعلى لهجة آبائهم وميراثهم الإنساني، وحتى على انقساماتهم القروية التقليدية. ومن هذه العناصر الأولى المتفاعلة، صاغ الفلسطينيون هويتهم في المنفى، وزيّنوا المكان الجديد بالصور القديمة، واحتفظوا بأوراق الطابو ومفاتيح البيوت المهجورة. ثم تحول المخيم في زمن الكفاح في سبيل التحرر الوطني إلى فضاء للتمرد، وبات مكاناً لاختبار عوالم جديدة من الحرية.
كان المخيم، في زمن الأحلام الكبيرة، وطناً موقتاً، ومحطة في طريق العودة. أما اليوم، فها هو يتحول إلى منفى، أو إلى استراحة على دروب الرحيل، وصار مكاناً للسأم والاجتماع عند نواصي الأزقة، والاسترخاء في مقاهي الشوارع، واكتساب مسلك التشاجر واجترار الكلام على البؤس والخيبة، وذم الزمان وصنع النقمة والانجراف نحو التدين والتعصب، والولع بالتفتيش عن سبل للهجرة للخلاص من هذه الحال المهينة. وبهذا المعنى، راح المكان يفقد حميميته، ويهاجر أبناؤه، ويختفي منه ذلك الميراث الإنساني الذي كان ناراً مقدسة سنين كثيرة، فصار رماداً إلى حد كبير.
* * *
في لبنان نحو 480 ألف فلسطيني مسجلين في السجلات الرسمية. هاجر منهم منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 1975 أكثر من مائة ألف، ونال أكثر من مائة ألف، كعدد تراكمي، الجنسية اللبنانية. وكان يعيش في سورية نحو 650 ألف فلسطيني (قرابة 500 ألف مسجلين لاجئين، ونحو مائة وخمسين ألفاً يقطنون سورية منذ سنوات طويلة لأسباب مختلفة، وبعضهم لا يملك حتى أوراقاً ثبوتية). إذاً، الكتلة البشرية الفلسطينية في البلدين التوأمين تزيد على مليون ومئة ألف لاجئ، وهؤلاء مهددون، الآن، بالاقتلاع من مكانهم والتناثر في بقاع العالم البعيدة. وسيخضع هؤلاء جميعاً، بالتدريج، لقانون تصادم الثقافات وصدمة الغربة، وتشوه الهويات؛ فمنهم مَن سيندمج بسرعة، ومنهم مَن سيجهد للمحافظة على هويته، وسترتدي النساء في هذه الحال الأزياء الفلسطينية المطرزة بالألوان الجميلة (جنة ونار مثلاً)، وسيتزوج الفلسطيني فلسطينية على الأغلب، وسيواصل كثيرون تنمية روابطهم من خلال تأسيس الجمعيات وتنظيم الاحتفالات وإقامة الولائم، احتفاء بالمسخّن والمقلوبة والطاجن، وسماع أغاني الحنين، مثل "وين عَ رام الله" و"علّي الكوفية" وغيرها، ثم سيعود كل واحد من هؤلاء إلى منزله وعمله ومصالحه، وقد تفرّجت همومه في ذلك المرجل الكبير الذي يُسمى "المهجر".
هل إن هوية الفلسطيني في المهاجر الجديدة ستبقى نفسها هويته الموروثة التي كانت متوهجة في بلدان الشتات العربي، مثل سورية ولبنان؟ لا ريب في أن الهوية الجديدة التي تطورت في المهاجر الغريبة، في خضم جدل التحدي والاضمحلال، ستبقى ذات صلة بجذورها الأولى، لكنها ستلوح، في ما بعد، كباقي الوشم في ظاهر اليدِ. وأسمح لنفسي بالقول إنّ لا معنى حقيقياً وفاعلاً لهوية الفلسطيني، خارج نطاق لغته العربية وبيئته العربية. والذاكرة الفلسطينية في البلدان العربية التي وُشمت بالنار، مرات كثيرة، لم تتغير في جوهرها ولم تتضرر. أما ذاكرة الفلسطيني في المهاجر البعيدة فستذوي رويداً رويدا، وستسحق، في نهاية المطاف، وتبتلعها المجتمعات الجديدة. وبهذا المعنى، أخشى أن تتحول قضية فلسطين لدى هؤلاء المهاجرين إلى ما يشبه أحوال الجماعات الأرمنية المهاجرة: يقاطعون البضائع التركية، ويأكلون البسطرما والسجق والأطعمة القومية، ويثابرون على سماع الأغاني الفلكلورية الأرمنية، ويتبرعون لجمعياتهم الأهلية، ثم ينصرفون إلى أسرَّتهم وأعمالهم وشؤون حياتهم اليومية وقد أدوا ما عليهم من القسط القومي.
في لبنان نحو 480 ألف فلسطيني مسجلين في السجلات الرسمية. هاجر منهم منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 1975 أكثر من مائة ألف، ونال أكثر من مائة ألف، كعدد تراكمي، الجنسية اللبنانية. وكان يعيش في سورية نحو 650 ألف فلسطيني (قرابة 500 ألف مسجلين لاجئين، ونحو مائة وخمسين ألفاً يقطنون سورية منذ سنوات طويلة لأسباب مختلفة، وبعضهم لا يملك حتى أوراقاً ثبوتية). إذاً، الكتلة البشرية الفلسطينية في البلدين التوأمين تزيد على مليون ومئة ألف لاجئ، وهؤلاء مهددون، الآن، بالاقتلاع من مكانهم والتناثر في بقاع العالم البعيدة. وسيخضع هؤلاء جميعاً، بالتدريج، لقانون تصادم الثقافات وصدمة الغربة، وتشوه الهويات؛ فمنهم مَن سيندمج بسرعة، ومنهم مَن سيجهد للمحافظة على هويته، وسترتدي النساء في هذه الحال الأزياء الفلسطينية المطرزة بالألوان الجميلة (جنة ونار مثلاً)، وسيتزوج الفلسطيني فلسطينية على الأغلب، وسيواصل كثيرون تنمية روابطهم من خلال تأسيس الجمعيات وتنظيم الاحتفالات وإقامة الولائم، احتفاء بالمسخّن والمقلوبة والطاجن، وسماع أغاني الحنين، مثل "وين عَ رام الله" و"علّي الكوفية" وغيرها، ثم سيعود كل واحد من هؤلاء إلى منزله وعمله ومصالحه، وقد تفرّجت همومه في ذلك المرجل الكبير الذي يُسمى "المهجر".
هل إن هوية الفلسطيني في المهاجر الجديدة ستبقى نفسها هويته الموروثة التي كانت متوهجة في بلدان الشتات العربي، مثل سورية ولبنان؟ لا ريب في أن الهوية الجديدة التي تطورت في المهاجر الغريبة، في خضم جدل التحدي والاضمحلال، ستبقى ذات صلة بجذورها الأولى، لكنها ستلوح، في ما بعد، كباقي الوشم في ظاهر اليدِ. وأسمح لنفسي بالقول إنّ لا معنى حقيقياً وفاعلاً لهوية الفلسطيني، خارج نطاق لغته العربية وبيئته العربية. والذاكرة الفلسطينية في البلدان العربية التي وُشمت بالنار، مرات كثيرة، لم تتغير في جوهرها ولم تتضرر. أما ذاكرة الفلسطيني في المهاجر البعيدة فستذوي رويداً رويدا، وستسحق، في نهاية المطاف، وتبتلعها المجتمعات الجديدة. وبهذا المعنى، أخشى أن تتحول قضية فلسطين لدى هؤلاء المهاجرين إلى ما يشبه أحوال الجماعات الأرمنية المهاجرة: يقاطعون البضائع التركية، ويأكلون البسطرما والسجق والأطعمة القومية، ويثابرون على سماع الأغاني الفلكلورية الأرمنية، ويتبرعون لجمعياتهم الأهلية، ثم ينصرفون إلى أسرَّتهم وأعمالهم وشؤون حياتهم اليومية وقد أدوا ما عليهم من القسط القومي.
* * *
أمام هذا الهول الإنساني الذي يعصف بالفلسطينيين في سورية، وبالسوريين أيضاً، وأمام كارثة الهجرة المتمادية من سورية ولبنان إلى "ديار الله الواسعة"، ثمة خطر داهم، لا على حق العودة فحسب، بل على الهوية التاريخية للاجئين الفلسطينيين أيضاً.
أمام هذا الهول الإنساني الذي يعصف بالفلسطينيين في سورية، وبالسوريين أيضاً، وأمام كارثة الهجرة المتمادية من سورية ولبنان إلى "ديار الله الواسعة"، ثمة خطر داهم، لا على حق العودة فحسب، بل على الهوية التاريخية للاجئين الفلسطينيين أيضاً.