هاجر صديقنا المصري إلى الولايات المتحدة آملاً أن يجد منفذاً جديداً لصادرات الشركة التي ساهم في تأسيسها مع بعض أصدقائه قبل سفره، والتي تخصصت في تصدير الخضروات والفاكهة، واضعاً في حسبانه كبر حجم السوق الأميركية، بتعداد سكان يتجاوز 340 مليون نسمة، وانخفاض تكلفة الإنتاج في مصر بعد تعويم الجنيه وفقدانه ما يقرب من 60% من قيمته.
اعتبر صديقنا أن مغامرته محسوبة، وأنها مضمونة العائد، نظراً لما نعرفه في مصر عن جودة المنتجات المصرية، وعلى رأسها المانغو والفراولة والبرتقال من الفاكهة، كما بعض المنتجات الأخرى كالبصل والبطاطس.
ورغم وجود منافسة كبيرة من المنتجات المكسيكية وغيرها مما يرد من أميركا اللاتينية، إلا أنه وضع كثيرا من الآمال على السوق الأميركية الضخمة، بالإضافة إلى عامل التكلفة، الذي لا يمكن لأحد أن ينافس المنتجات المصرية فيه.
وصل صديقنا إلى الولايات المتحدة، فكانت المفاجأة. المانغو المصري ممنوع استيراده تماماً في الولايات المتحدة، وفي أغلب الأوقات، تكون المنتجات الزراعية الأخرى موقوف استيرادها لبعض الوقت، وتُفرض رقابة شديدة على الشحنات الزراعية الواردة من مصر تحديداً.
وفي كثير من الأحيان ينتهي بها الأمر في الموانئ الأميركية، ليدفع المصدر المصري تكلفة بقائها فيها لعدة أيام، ثم تكلفة حرقها والتخلص منها بعد اكتشاف بقايا المبيدات الحشرية فيها، الأمر الذي جعل الكثير من المستوردين يتمسكون في صفقاتهم مع المصريين بعدم الدفع حتى وصول البضائع إلى مخازنهم، والتأكد من خلوها من المبيدات.
الكلام السابق ليس سراً، ولا أهدف من خلاله الإساءة إلى سمعة بلدي، أو التقليل من مكانته، فالمعلومات موجودة على موقع وزارة التجارة الأميركية على الإنترنت، بما فيها أسماء الشركات المصدرة التي أحرقت شحناتها، وبعضها من أكبر الشركات المصرية. و
تجدر الإشارة إلى أن أشهر الإعلاميين المصريين، المعروفين بولائهم الشديد للنظام الحالي، سبق أن تعرض في برنامجه واسع الانتشار لهذا الموضوع بصورة بعيدة عن أي جدية في التناول، قبل أن يتم إغلاق الملف وكأن الكلام يخص دولة أخرى لا تعنينا.
تذكرت هذه القصة وأنا أسمع حديث الرئيس المصري عن حلم الوصول بصادرات بلاده إلى 100 مليار دولار، وهو حلم جميل، يتمناه كل مصري يحب بلده، ويتمنى أن يراه يتبوأ مكانته بين الأمم، وينعم أبناؤه بمستويات لائقة من العيش، وقدر معقول من الخدمات.
هذه ليست مبالغة في الأحلام، فقضية انخفاض حجم الصادرات المصرية، بشقها الثاني الخاص بارتفاع حجم الواردات، هي القضية الأهم للاقتصاد المصري في الوقت الحالي، وحلها فقط هو الكفيل بحل كل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي أنهكت أكثر من مائة مليون مصري خلال السنوات، وربما العقود الأخيرة.
صدّرت مصر خلال العام الماضي ما تقترب قيمته من 28.5 مليار دولار، واستوردت ما تقترب قيمته من 70 مليار دولار، لتتوقف تغطية الصادرات المصرية للواردات عند مستوى 40%، وليتجاوز عجز الميزان التجاري مبلغ 40 مليار دولار، تغطي منها بنود الحساب الجاري الأخرى مبلغاً يتراوح بين 25 و30 مليارا، ليستقر عجز ميزان المدفوعات بين 10 و15 مليار دولار سنوياً.
هذا العجز هو الذي يدفع الحكومة المصرية للاستدانة، فتزداد القروض بقيمته – على الأقل – كل عام، ويتداعي احتياطي النقد الأجنبي في غياب تام للاستثمار الأجنبي المباشر، وتبقى العملة المحلية رهينة لدى مستثمري الأموال الساخنة، الذين يأتون فقط مع استقرار معدلات الفائدة عند مستوياتها المرتفعة، ثم لا يلبثون أن يهربوا مع ظهور بوادر أي أزمة، عندنا أو عندهم، كما حدث في الربع الأول من العام، مع بدء انتشار الفيروس في آسيا وأوروبا وأميركا.
وحدها زيادة الصادرات، أو الوجه الآخر لها وهو انخفاض الواردات، يمكنها الحفاظ على قيمة الجنيه، وبالتالي مستويات معيشة المصريين ومدخراتهم، كما تقليل الإقتراض من الخارج، وحماية البلاد من تكلفته الباهظة، معنوية كانت أم مادية.
لكن زيادة الصادرات لا تأتي بالتمني ولا بالأحلام، فهي تحتاج إلى منظومة متكاملة، تتكاتف فيها كل الجهات المعنية، من أجل توفير البيئة المناسبة التي تسمح بتحقيقها. وأول ما يتبادر إلى الذهن في مكونات تلك المنظومة هو إفساح الطريق أمام القطاع الخاص ليقوم بأداء دوره، حتى لو كان في إطار شراكة مع القطاع الحكومي، بشرط أن تكون شراكة حقيقية، لا مجرد مجموعة من العمليات التي يتم تمريرها من الباطن من بعض القطاعات السيادية المسيطرة على كافة الأنشطة الاقتصادية في مصر خلال السنوات الأخيرة.
وفتح المجال للقطاع الخاص لن يتحقق إلا بتوفير البيئة الخصبة للإنتاج والتصدير، عن طريق إيجاد الحوافز التي تقلل تكلفة الإنتاج لدى المصدرين، مع تخفيض الضرائب والجمارك على مستلزمات الإنتاج المستخدمة في كل ما يتم تصديره، بالإضافة إلى الوفاء بوعود دعم الصادرات بمدفوعات نقدية، حيث ما زال بعض المصدرين يعانون للحصول على مستحقاتهم منذ أكثر من ثلاث سنوات.
ولا ينبغي أن نكتفي بالمصدرين التقليديين، حيث يتعين على الحكومة أن تعمل على فتح المجال لصغار المصدرين، وعلى تحفيزهم من خلال المجالس التصديرية والجهات الحكومية المعنية.
هؤلاء الشباب لديهم من الابتكار والطاقة ما يمكنهم من المنافسة على المستوى العالمي، خاصة لو تم توفير بعض الدعم لهم. والدعم المقصود هنا يبدأ بتشجيع البنوك على توفير التمويل اللازم، وهو شيء تتجنبه البنوك المصرية التي اعتادت على منح قروضها لنوعية معينة من الشركات، لتترك صغار المصدرين يواجهون الأمواج العاتية دون أدنى مساعدة.
ولا يقتصر دعم صغار المصدرين على توفير التمويل، حيث يحتاج هؤلاء أيضاً للدعم الفني والتسويقي، بالإضافة إلى توفير البيئة التشريعية والقانونية اللازمة التي تسمح لهم بأداء أعمالهم دون الخوف من حدوث تغييرات غير متوقعة، تتسبب في تكبدهم خسائر لا يتحملونها. بغير هذا، لن تنمو الصادرات المصرية، وستبقى حلماً صعب المنال، كما كان الحال على مدار ما يقرب من سبعة عقود.