قبل الاعتداء على منشآت آرامكو السعودية في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يحاول طرح مبادرة مع طهران، لكنه كان يواجه معارضة حينها من مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، وضمنياً من وزير الخارجية مايك بومبيو. أصبح بولتون خارج البيت الأبيض الآن، وأضحى بومبيو أضعف من أي وقت مضى، نتيجة تداعيات "أوكرانيا غيت" على قيادته لوزارة الخارجية، فيما وزير الدفاع مارك إسبر، لا يعارض البيت الأبيض جدياً، ويتشارك عملياً مع ترامب في أولوية نقل تركيز الاستراتيجية الأميركية من الشرق الأوسط إلى الصين، وهذا يحتاج إلى مهادنةٍ ما مع طهران.
كل هذا يعني أن ليس هناك موانع داخلية جدية داخل إدارة ترامب لإطلاق مبادرة دبلوماسية كهذه. الرئيس الأميركي على مشارف إطلاق حملته الانتخابية رسمياً، ويحتاج إلى إحراز نصرٍ دبلوماسي خارجي يروّجه بعد فشل كل مبادراته حتى الآن، ولا سيما التفاوض النووي مع كوريا الشمالية وخطته للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وبالتالي قد يكون مفيداً هذا الاستعراض الدبلوماسي لترامب في هذه المرحلة، في ظلّ إجراءات العزل التي يقودها الحزب الديمقراطي ضده في الكونغرس.
لكن كالعادة، كلام ترامب وأفعاله لا تتماشى بالضرورة مع كلام إدارته وأفعالها. بومبيو ينتقد بشدة أخيراً سياسات النظام الإيراني في التعامل مع التظاهرات في بلاده كما في العراق ولبنان، فيما السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت، أكدت يوم الجمعة الماضي أن واشنطن ستواصل ضغطها وتستخدم "أدوات أخرى" إذا استمرت طهران في "سلوكها الخبيث". وهناك تسريبات لصحيفة "وول ستريت جورنال" وشبكة "فوكس نيوز" تتحدث عن دراسة إدارة ترامب إرسال سبعة آلاف إلى 14 ألف جندي أميركي إلى الشرق الأوسط لردع إيران، وهي تسريبات يرجَّح أن تكون من قيادات عسكرية تدفع بهذا الاتجاه، على الرغم من نفي البنتاغون لأي خطوة من هذا النوع في المدى المنظور. هذه التقارير تأتي وسط معلومات عن نقل صواريخ إيرانية إلى داخل العراق، ما يؤدي إلى تهديدات محتملة للقوات الأميركية هناك، وأيضاً تحدث تقرير لـ"نيوزويك" عن "طائرات من دون طيار انتحارية" تحوم حول القوات الأميركية في المنطقة، وهناك خشية من أن تقوم بعمليات استفزازية.
لكن ترامب بشكل عام أخذ مسافة مما يحصل داخل إيران كي لا يؤثر في ما يراه أولوية التفاوض المحتمل معها. وقد تراجع البيت الأبيض عن تردد السنوات الماضية في التفاوض مع النظام الإيراني بشأن تبادل أسرى، وعن الإصرار على أن تطلق طهران سراح المعتقلين الأميركيين لديها كما فعلت مع المواطن اللبناني الذي يحمل الإقامة الأميركية نزار زكا، الذي أفرجت عنه طهران في بادرة حسن نية تجاه إدارة ترامب. تبادل الأسرى مع إيران بحدّ ذاته يعطي ترامب فرصة تسويق قدراته على إطلاق سراح المعتقلين الأميركيين حول العالم، ويعتبر مرحلة أولى لبناء الثقة بين الطرفين، كما كانت الحال مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما.
طبعاً ليس سراً أن النظام الإيراني يرى في اعتقال أي أميركي ورقة ضغط لخدمة مصالحه أو تحسين شروطه التفاوضية، وهو يلوّح بهذا الأمر لإدارة ترامب منذ فترة، وحين لم يلقَ أي تجاوب، أخرج ورقة أن الضابط المتقاعد من مكتب التحقيق الفدرالي "اف بي آي" روبرت ليفنسون لا يزال حياً في السجون الإيرانية بعد نفي لأي علم بمكان وجوده دام 13 عاماً. لن تتخلى طهران عن ورقة ليفنسون من دون أثمان أكبر، وهذا قد يكون عنوان المرحلة المقبلة، لكن الأهم من ذلك، ما هي حسابات طهران؟
النظام الإيراني يعيش أصعب تحدياته في المرحلة الراهنة. موارد الدولة تتقلص، ويواجه تظاهرات في الداخل كما في لبنان والعراق. التوتر العسكري في مضيق هرمز والخليج فرض سطوة طهران، لكنه لم يحقق أي اختراق، وكان له أثر عكسي في بعض الأحيان، ولم يتمكن الأوروبيون من إعطاء طهران سترة نجاة للاقتصاد الإيراني من العقوبات الأميركية. وبالتالي تريث النظام الإيراني بانتظار الانتخابات الأميركية واحتمال خسارة ترامب لم يعد مجدياً، ولا سيما أنْ ليس هناك إجماع ديمقراطي على مرشح محدد. كل هذه العوامل يبدو أنها عززت موقف معسكر المعتدلين الذي يقوده الرئيس الإيراني حسن روحاني بإيعاز ضمني من المرشد الأعلى علي خامنئي، وهذا كان واضحاً في تحركات وزير الخارجية محمد جواد ظريف الأخيرة، وفي إعلان روحاني موقفاً صريحاً، أن طهران مستعدة للجلوس مع واشنطن بعد ساعة من رفع العقوبات عنها.
هذه الرسائل المتبادلة والإيجابية نسبياً تعود بالعلاقات الأميركية-الإيرانية إلى عشية اعتداء أرامكو، حين كان هناك تفاوض عبر قنوات خلفية لإيجاد صيغة لإطلاق التفاوض، قبل أن ينجح التيار المحافظ في طهران بتعطيلها. والآن، عاد الطرفان إلى المعادلة ذاتها، أي رفع العقوبات، أم التفاوض أولاً؟ ليس واضحاً أن إدارة ترامب قد تتنازل عن شرطها بإبقاء العقوبات حتى الحصول على تنازلات ملموسة من طهران، ولا سيما في ظلّ الضغوط الداخلية على النظام الإيراني. روحاني أبدى اهتماماً بإجراء زيارة قريبة لطوكيو، ويبدو أن طهران مهتمة بتفعيل الوساطة اليابانية التي كانت إدارة ترامب الأكثر حماسة لها، ولا سيما بعد تراجع حظوظ وساطة باريس في ظل التوتر المستجد بين ترامب ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون. روحاني يبدو مستعجلاً لإحداث اختراق يخفف من أثر الأزمة الاقتصادية على حكومته التي رفعت سعر المحروقات، وترامب يبحث عن إنجازٍ دبلوماسي للاستثمار الداخلي، لكن لدى طهران ما تخسره أكثر في هذه الدينامية الجديدة، وأمام الطرفين نافذة قصيرة لأشهر قبل تحوّل التركيز كلياً في واشنطن إلى السباق الرئاسي.