17 يناير 2018
اليمن الآخر
عاش اليمن منذ أن نشأت واستقرت الدول الوطنية العربية بعيداً نسبياً عن محيطه، ولم يكن بالنسبة لجيرانه الأغنياء، بعد عقود من الطفرة النفطية، سوى "شقيق مختلف" في مكانه ومكانته، في إدارته السياسية، وفي أنظمته واقتصاده وطريقة حياته.
اليمنيون، من جانبهم، يفهمون أنهم ليسوا شركاء حقيقيين مع أشقائهم، وأن أكثر ما يجمعهم على أرض الواقع لا يتجاوز علاقة الوافدين بسوق العمل، والمساعدات العامة التي تُقدم بين حين وآخر، مع الاهتمام التقليدي ببعض المشايخ والسياسيين. ويتأثر ذلك كله بالطبع صعوداً وهبوطاً بالحالة السياسية والاقتصادية وبأحداث المنطقة.
ذلك على الأقل هو الشعور العام لدى المواطنين. والمقصود بالشراكة كما يفهمها السياسيون والاقتصاديون أن يتسع الفضاء الخليجي، ولو في حدود موضوعية، ليصبح اليمن عضواً في النظام الإقليمي بمضامينه السياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية بشكل عام.
غياب الشراكة تلك حل محلها واقع مجهول تمدد وانكمش، وفقاً لترمومتر الأحداث وتقاطع المصالح العامة التي، في الحقيقة، لا تمس جوهر المعنى، إلا في سياق الحاجة الجغرافية والتجاور الطبيعي الذي لا يستطيع أحد تغييره أو تجاوزه. ولم يسع أحد إلى إيجاد أرضية ثابتة تحدد موقع الجميع من الجميع، وفق ضرورات التكامل الذي يقتضي، في أولوياته، حفظ الأمن الإقليمي، وتعميق الاستقرار المادي والسياسي في كل دولة، وغلق الأبواب أمام أي أوضاع غير مريحة قد تعرّض الجميع للخطر.
لقد تفاقم إحساس اليمنيين بأنهم، من الناحية الاقتصادية، مجرد "مكسيك الخليج"، أو أقل، بينما استهان "الخليج"، من ناحيته، بالاحتقانات السياسية والاجتماعية المتصاعدة في الجنوب والشمال، على الأقل منذ بداية الألفية الجديدة، وإحالة الأمور إلى مفاهيم تقليدية بشأن اليمن بأنه شعب فقير، ولديه تعقيدات كثيرة يجب عدم الاقتراب منها، أو التعامل معها بصورة جذرية، إلا من خلال مسكنات متتالية، مع الاعتماد على القوى المهيمنة حينها في إدارة الأزمات الداخلية بالأدوات والوسائل نفسها.
ومن زاوية مقابلة، لا يمكن عزل مصائب اليمن أيضاً عن طبيعة نظام الحكم السابق الحافل بالمغامرات السياسية والتحالفات المتقلبة، وهذا معروفٌ لدى الجميع، وربما كان الجزء المكمل للصورة التي يفهمها باحثون كثيرون في علاقات اليمن والخليج، وانعكاساتها على تفاصيل المشهد الحالي.
بعد نحو شهر من الآن، "سينفخ" التحالف العربي لهب شمعته الثالثة، وهو يردد على مسامع العالم حكايات تحرير 85% من الأرض (منها مناطق صحراوية شاسعة غير مأهولة) التي تعاني البؤس والعوز والظلام. وهي المساحة التي يقطنها النسبة الأقل من السكان، لأن الغالبية العظمى تقيم في المرتفعات الوسطى والشمالية التي يديرها الحوثيون، وفقاً لقوانينهم ومعاييرهم المبتكرة، ويؤدي فيها الناس فروض الأمر الواقع في علاقاتهم مع الحاكم الجديد.
وفي هذه الظروف المحيرة، يبقى السؤال الموجع دوماً من دون إجابة واضحة: هل لدى تحالف دعم الشرعية في اليمن قدرات داخلية وموارد خارجية كافية لقطع المسافات الوعرة والجبال الغاضبة حتى تصل الجيوش، وإن طال السفر، إلى محيط مدينة صنعاء؟ وهل لديه قدر مقنع من الصبر، بكل ما يعنيه من خسائر كبيرة تتزايد مع الوقت؟ وإذا تحققت تلك التساؤلات بالإيجاب، يبقى السؤال الأهم: هل يمتلك التحالف العربي، إن سمح له العالم، قدرا كافيا من المغامرة والجرأة لخوض معركة صنعاء، ومعارك الهضبة الشمالية بمدنها وقراها؟
ربما يستسهل بعضهم ذلك على الشاشات وفي منصات الإعلام، لكن معركة صنعاء المتخيلة، بعد الزلزال الذي أصاب أجزاء من الأرض العربية، لا ينبغي أن يُنظر إليها فقط من المفهوم الحربي العملياتي، أو مقاربتها في سياقات العلوم العسكرية الحديثة، بل يجب أن تُحمّل أسئلةً وجوديةً وتاريخيةً وسياسيةً وثقافيةً كبرى، خصوصا بعد أن رأى العالم حروب المدن العربية في سورية والعراق وليبيا، وكيف أصبحت حواضر تاريخية، مثل حلب والموصل، مجرد ركام ودخان أصاب كل المنطقة، وكيف تشرّد الملايين، وتوغلت المجموعات المتطرّفة "السنية والشيعية" الآتية من كل أصقاع الأرض، وتداخل فيها الديني والطائفي والسياسي ومصالح الدول الخارجية الإقليمية والعالمية، حتى أصبحت ساحات مفتوحة لكل آليات القتل الجماعي
والتدمير من السماء ومن الأرض. وهذا لا يعني حماية الانقلابيين من الهزيمة، لكن ما يخشاه المتابع العربي من أن الأهداف السياسية، في مجملها، لا تبرّر حروب المدن، خصوصا وقد رأى العالم ماذا تعني، وما هي كلفتها!
تلك الأسئلة التي يجب الوقوف أمامها، إن كان هناك توجه حصري نحو الخيار العسكري. أما إذا كانت نسبة احتمال أي نجاحاتٍ استراتيجيةٍ في هذا الامر ضئيلة، فلماذا لا يسخّر الجميع مواردهم لخوض عملية سياسية جادة وشاملة، لوضع نهايات حقيقية للحرب واقتلاع الأزمات من جذورها.. والبحث عن "اليمن الآخر" المختلف عن ماضيه السياسي، وعن قواه المتحكمة وعلاقاته الداخلية والخارجية؟
لن يتم ذلك إلا من خلال معالجات موضوعية ونهائية للقضايا الجوهرية في الشمال والجنوب، والابتعاد عن أنانية المكونات السياسية والقبلية والأيديولوجيات بمسمياتها وشعاراتها المختلفة، والأخذ بالاعتبار المعطيات الجديدة والتغييرات العميقة التي أحدثتها الحروب والصراعات، لأن أزمة اليمن مركّبة ومعقدة، وتحتاج إلى جهود إقليمية ودولية مشتركة.
اليمنيون، من جانبهم، يفهمون أنهم ليسوا شركاء حقيقيين مع أشقائهم، وأن أكثر ما يجمعهم على أرض الواقع لا يتجاوز علاقة الوافدين بسوق العمل، والمساعدات العامة التي تُقدم بين حين وآخر، مع الاهتمام التقليدي ببعض المشايخ والسياسيين. ويتأثر ذلك كله بالطبع صعوداً وهبوطاً بالحالة السياسية والاقتصادية وبأحداث المنطقة.
ذلك على الأقل هو الشعور العام لدى المواطنين. والمقصود بالشراكة كما يفهمها السياسيون والاقتصاديون أن يتسع الفضاء الخليجي، ولو في حدود موضوعية، ليصبح اليمن عضواً في النظام الإقليمي بمضامينه السياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية بشكل عام.
غياب الشراكة تلك حل محلها واقع مجهول تمدد وانكمش، وفقاً لترمومتر الأحداث وتقاطع المصالح العامة التي، في الحقيقة، لا تمس جوهر المعنى، إلا في سياق الحاجة الجغرافية والتجاور الطبيعي الذي لا يستطيع أحد تغييره أو تجاوزه. ولم يسع أحد إلى إيجاد أرضية ثابتة تحدد موقع الجميع من الجميع، وفق ضرورات التكامل الذي يقتضي، في أولوياته، حفظ الأمن الإقليمي، وتعميق الاستقرار المادي والسياسي في كل دولة، وغلق الأبواب أمام أي أوضاع غير مريحة قد تعرّض الجميع للخطر.
لقد تفاقم إحساس اليمنيين بأنهم، من الناحية الاقتصادية، مجرد "مكسيك الخليج"، أو أقل، بينما استهان "الخليج"، من ناحيته، بالاحتقانات السياسية والاجتماعية المتصاعدة في الجنوب والشمال، على الأقل منذ بداية الألفية الجديدة، وإحالة الأمور إلى مفاهيم تقليدية بشأن اليمن بأنه شعب فقير، ولديه تعقيدات كثيرة يجب عدم الاقتراب منها، أو التعامل معها بصورة جذرية، إلا من خلال مسكنات متتالية، مع الاعتماد على القوى المهيمنة حينها في إدارة الأزمات الداخلية بالأدوات والوسائل نفسها.
ومن زاوية مقابلة، لا يمكن عزل مصائب اليمن أيضاً عن طبيعة نظام الحكم السابق الحافل بالمغامرات السياسية والتحالفات المتقلبة، وهذا معروفٌ لدى الجميع، وربما كان الجزء المكمل للصورة التي يفهمها باحثون كثيرون في علاقات اليمن والخليج، وانعكاساتها على تفاصيل المشهد الحالي.
بعد نحو شهر من الآن، "سينفخ" التحالف العربي لهب شمعته الثالثة، وهو يردد على مسامع العالم حكايات تحرير 85% من الأرض (منها مناطق صحراوية شاسعة غير مأهولة) التي تعاني البؤس والعوز والظلام. وهي المساحة التي يقطنها النسبة الأقل من السكان، لأن الغالبية العظمى تقيم في المرتفعات الوسطى والشمالية التي يديرها الحوثيون، وفقاً لقوانينهم ومعاييرهم المبتكرة، ويؤدي فيها الناس فروض الأمر الواقع في علاقاتهم مع الحاكم الجديد.
وفي هذه الظروف المحيرة، يبقى السؤال الموجع دوماً من دون إجابة واضحة: هل لدى تحالف دعم الشرعية في اليمن قدرات داخلية وموارد خارجية كافية لقطع المسافات الوعرة والجبال الغاضبة حتى تصل الجيوش، وإن طال السفر، إلى محيط مدينة صنعاء؟ وهل لديه قدر مقنع من الصبر، بكل ما يعنيه من خسائر كبيرة تتزايد مع الوقت؟ وإذا تحققت تلك التساؤلات بالإيجاب، يبقى السؤال الأهم: هل يمتلك التحالف العربي، إن سمح له العالم، قدرا كافيا من المغامرة والجرأة لخوض معركة صنعاء، ومعارك الهضبة الشمالية بمدنها وقراها؟
ربما يستسهل بعضهم ذلك على الشاشات وفي منصات الإعلام، لكن معركة صنعاء المتخيلة، بعد الزلزال الذي أصاب أجزاء من الأرض العربية، لا ينبغي أن يُنظر إليها فقط من المفهوم الحربي العملياتي، أو مقاربتها في سياقات العلوم العسكرية الحديثة، بل يجب أن تُحمّل أسئلةً وجوديةً وتاريخيةً وسياسيةً وثقافيةً كبرى، خصوصا بعد أن رأى العالم حروب المدن العربية في سورية والعراق وليبيا، وكيف أصبحت حواضر تاريخية، مثل حلب والموصل، مجرد ركام ودخان أصاب كل المنطقة، وكيف تشرّد الملايين، وتوغلت المجموعات المتطرّفة "السنية والشيعية" الآتية من كل أصقاع الأرض، وتداخل فيها الديني والطائفي والسياسي ومصالح الدول الخارجية الإقليمية والعالمية، حتى أصبحت ساحات مفتوحة لكل آليات القتل الجماعي
تلك الأسئلة التي يجب الوقوف أمامها، إن كان هناك توجه حصري نحو الخيار العسكري. أما إذا كانت نسبة احتمال أي نجاحاتٍ استراتيجيةٍ في هذا الامر ضئيلة، فلماذا لا يسخّر الجميع مواردهم لخوض عملية سياسية جادة وشاملة، لوضع نهايات حقيقية للحرب واقتلاع الأزمات من جذورها.. والبحث عن "اليمن الآخر" المختلف عن ماضيه السياسي، وعن قواه المتحكمة وعلاقاته الداخلية والخارجية؟
لن يتم ذلك إلا من خلال معالجات موضوعية ونهائية للقضايا الجوهرية في الشمال والجنوب، والابتعاد عن أنانية المكونات السياسية والقبلية والأيديولوجيات بمسمياتها وشعاراتها المختلفة، والأخذ بالاعتبار المعطيات الجديدة والتغييرات العميقة التي أحدثتها الحروب والصراعات، لأن أزمة اليمن مركّبة ومعقدة، وتحتاج إلى جهود إقليمية ودولية مشتركة.