23 اغسطس 2024
اليمن بين متاهتي الحرب والسلام
مضت خمس سنوات حتى 26 مارس/ آذار الماضي، منذ تشكل ما يعرف بالتحالف العربي، وخوضه حرباً لاستعادة الشرعية اليمنية المنقلب عليها من جماعة الحوثي في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، وقبلها ست جولات من حروبٍ أخرى، شنتها هذه الجماعة على اليمن واليمنيين، والتي تفجرت في سبتمبر/ أيلول 2004، في محافظة صعدة أقصى شمال اليمن، وتمدّدت هذه الحرب عشية ثورة 11 فبراير/ شباط 2011، وصولاً إلى محافظات الجوف وعمران وحجّة.
وفي المجمل، تكون هذه الحرب في اليمن قد أكملت عامها السادس عشر على التوالي، منذ 2004، والفاعل الرئيسي فيها دائماً هو جماعة الحوثي، وهي جماعة تقدّم نفسها ممثلاً رئيسياً للزيدية السياسية التي كانت حاكمة شمال اليمن قبيل ثورة 26 سبتمبر في 1962 التي أسقطت ضد هذه النظرية الإمامية الكهنوتية الحاكمة حينها، والتي تعتبر الحوثية اليوم نفسها امتداداً ووريثاً شرعياً لها.
بمعنى آخر، لم تكن هذه الحرب في اليمن وليدة 26 مارس/ آذار 2015، وإنما هي وليدة مسار طويل من سلسلة حروبٍ لا تنتهي إلا لتبدأ، خصوصاً إذا ما عرفنا أن أصحاب هذا المشروع الإمامي كانوا قد خاضوا حروباً مماثلة لهذه الحرب، عشية ثورة 26 سبتمبر، والتي
استمرت نحو سبعة أعوام، انتهت بما سُميت المصالحة الجمهورية الملكية في عام 1970، والتي تمت برعاية سعودية مصرية حينها، وعاد بموجبها جل الإماميين إلى الحكم تحت رداء الجمهورية.
هذه الحرب التي تدور رحاها على مدى 16 سنة نتيجة طبيعية لجذور وأسباب رئيسية، ممثلة بنظرية الحق الإلهي في الحكم، والتي تقول بها الهاشمية السياسية عموداً لمذهبها الزيدي. وبالتالي لن تنتهي الحرب ما لم نعد إلى الجذور الرئيسية الباعثة لها، وأي حديث (أو مباحثات) عن سلام، لا يكون في صلب جدوله الحديث عن هذا الجذر الإشكالي والتاريخي للحرب ليس سوى مضيعة للوقت، وهروب من مواجهة الحقيقة التي يمكن، بالاقتراب منها، الاقتراب من الحل أو على الأقل وضع خريطة طريق نحوه على الأقل.
ولهذا، منذ بداية الحرب وما قبل الحرب، كان هناك حضور كبير للجانب الأممي في الملف اليمني الذي سلم لمجلس الأمن والأمم المتحدة، واليمن حينها دولة قائمة، وما لبثت بعدها حتى تعقد المشهد وأسقطت الدولة في اليمن برعاية أممية كاملة، ودخل اليمن دوامة الحرب والسلام، منذ تلك اللحظة التي رأينا فيها جولات السلام كلها، التي لم تستطيع إيقاف الحرب، ولا فرض السلام أيضاً.
وبالتالي، ستظل متاهة الحرب، وكذا سراب السلام المزعوم، حديثاً مكرّراً ومملاً، يستخدم فقط لـ "البزنس السياسي" ليس إلا. وبالعودة إلى مسألة الحرب اليوم التي دخلت عامها السادس عشر، وليس الخامس كما قد يتوهم بعضهم، وتروّج ذلك جماعة الحوثي، فأعتقد أنها حربٌ لن
تنتهي بمجرد الأمنيات بانتهائها، لأنها حربٌ ذات جذر رئيسي وأساسي، لا يمكن تجاوزه مطلقاً، فالمسألة ليست وليدة عام 2004 أو 2014 عام الانقلاب وعودة الإمامة الهاشمية، وإنما جذره قرون طوال، ويمكن بسهولة ويسر معرفة ذلك من خلال أدبيات هذه الجماعة وخطابها الإعلامي والسياسي والثقافي والدعوي، في كل منابرها وأدبياتها.
بيد أن الجديد في هذه الحرب أن المملكة السعودية، هذه المرّة، تقف ضد جماعة الحوثي المدعومة إيرانياً، إذ كانت المملكة نفسها داعمةً لأصحاب هذه المشروع في حروب الستينيات من القرن الماضي، وأن ظروف هذه الحرب وملابساتها مليئة بالتعقيدات والسياقات التي جعلتها تبدو أكثر ضبابية وأشبه بمتاهة، بالنظر إلى نتائجها العكسية التي تبدو عليها اليوم، ورفعت، منذ البداية، أنها حرب لاستعادة الشرعية، وها هي في عامها الخامس، ولم تعد الشرعية، ولم يسقط الانقلاب بعد، فقد كان واضحاً، منذ البداية، أنها الحرب الأولى من نوعها، من حروب تداعيات الربيع العربي، إذ تجتمع فيها الثورة والثورة المضادّة في خندق واحد، فالقوى الحاملة ثورة 11 فبراير اليمنية تقف مع ما يسمى التحالف العربي الذي تحمل دوله مشروع الثورة المضادة، في مفارقة هي الأغرب في هذا المشهد العبثي، فقد سعت بعض دول الخليج، كالمملكة والإمارات تحديداً، إلى تبني موقف واضح من ثورات الربيع العربي، باعتبارها تهديداً لها، وهو تخوّف يحمل مبالغاتٍ كثيرة، باعتبار أن سياق هذه الثورات يختلف من مجتمع إلى آخر، فضلاً عن أن الوضع في اليمن مختلف جداً عن جيرانه الخليجيين، عدا عن أن ثورة 11 فبراير اليمنية لم تتبن خطاباً بالضد من أمن دول الخليج واستقرارها. فضلاً عن ذلك، لمجتمعات الخليج سياق آخر تماماً، يختلف جذرياً عن مجتمعات وسياق الثورات في اليمن وتونس ومصر وغيرها، باعتبار الخليج
مجتمعات تقوم على اقتصاد ريعي يقوم على النفط، ولا علاقة لهذه المجتمعات بالإنتاج وظروفه واقتصادياته وتداعياته السياسية.
أخذت الحرب في اليمن اليوم منحىً أكثر عبثيةً، لاعتبارات عدة، أولها: لم تضع هذه الحرب لنفسها إطاراً واضحاً للعلاقة القائمة بين الحكومة الشرعية اليمنية ودول ما سمي التحالف العربي، ما أدّى إلى انعكاسات خطيرة، فيما يتعلق باستلاب القرار السيادي للشعب اليمني، وتحوله إلى جانب تابع لا شريك في هذه الحرب، ولا يقرر مصيره نتيجة فشل ممثلي الشرعية.
ثانياً: مضت هذه الحرب إلى تحقيق أهدافها غير المعلنة على حساب أهدافها المعلنة، وهي إضعاف اليمن وضرب وحدته وقوته وإبقاؤه دولة مفكّكة، وهو ما تجلى في الحرب التي شنت ضد الشرعية اليمنية منذ البداية، تحت مبرّر أنها شرعية تخضع لحزب الإصلاح ذي الخلفية الإسلامية (الإخوانية) بحسبهم، وهي الشماعة نفسها التي رفعت لإسقاط الدولة في صنعاء من مليشيات الحوثي، وبالتالي منعت هذه الحكومة من العودة إلى الداخل، وسمح لمليشيات غير نظامية لتحل محلها في العاصمة المؤقتة عدن، وهي مليشيات المجلس الانتقالي الانفصالي المدعوم إماراتياً.
ثالثاً: كانت للأزمة الخليجية تداعيات سلبية وكارثية على الحرب في اليمن، وهو ما تمثل بتحول هذه الحرب إلى ورقة صراع بين الأطراف الخليجية، وعلى حساب معركة استعادة الشرعية في اليمن، وعلى حساب اليمنيين أنفسهم، ما أدّى إلى طول أمد الحرب. وقد أدت حالة الاستقطاب التي اتبعتها الأطراف الخليجية إلى انقسام النخب والأحزاب السياسية الداعمة للشرعية، بين معسكري الأزمة الخليجية، وهذا صبّ في صالح مشروع جماعة الحوثي التي بدأت تفتح خطوط تواصل لها مع الجانبين، الإماراتي والقطري، والسعودي أيضاً، وهو ما انعكس سلباً على سير المعركة اليمنية لاستعادة الشرعية.
وختاماً: يبقى أن القضية اليمنية وحربها هذه التي تحوّلت إلى مادة للعبث الخليجي، ستكون تداعياتها كارثية على المنطقة كلها، باعتبار أن المقدّمة التي أوصلت اليمن والخليج إلى هذا المربع من الانكشاف الأمني والاستراتيجي هي نفسها التي لا تزال حاكمة للمشهد، وهي أن الخليجيين يعتقدون أنهم سيكونون في منأى عن تداعيات الحرب والانقسامات اليمنية التي لم يتستطيعوا حتى اللحظة الانفكاك منها، فكيف بها إذا ما طال أمدها وتعقدت حلولها، في ظل انصراف العالم عنها بعيداً، كل يبحث له عن مصير في ظل الأزمة الصحية الكارثية التي يعيشها العالم اليوم.
بمعنى آخر، لم تكن هذه الحرب في اليمن وليدة 26 مارس/ آذار 2015، وإنما هي وليدة مسار طويل من سلسلة حروبٍ لا تنتهي إلا لتبدأ، خصوصاً إذا ما عرفنا أن أصحاب هذا المشروع الإمامي كانوا قد خاضوا حروباً مماثلة لهذه الحرب، عشية ثورة 26 سبتمبر، والتي
هذه الحرب التي تدور رحاها على مدى 16 سنة نتيجة طبيعية لجذور وأسباب رئيسية، ممثلة بنظرية الحق الإلهي في الحكم، والتي تقول بها الهاشمية السياسية عموداً لمذهبها الزيدي. وبالتالي لن تنتهي الحرب ما لم نعد إلى الجذور الرئيسية الباعثة لها، وأي حديث (أو مباحثات) عن سلام، لا يكون في صلب جدوله الحديث عن هذا الجذر الإشكالي والتاريخي للحرب ليس سوى مضيعة للوقت، وهروب من مواجهة الحقيقة التي يمكن، بالاقتراب منها، الاقتراب من الحل أو على الأقل وضع خريطة طريق نحوه على الأقل.
ولهذا، منذ بداية الحرب وما قبل الحرب، كان هناك حضور كبير للجانب الأممي في الملف اليمني الذي سلم لمجلس الأمن والأمم المتحدة، واليمن حينها دولة قائمة، وما لبثت بعدها حتى تعقد المشهد وأسقطت الدولة في اليمن برعاية أممية كاملة، ودخل اليمن دوامة الحرب والسلام، منذ تلك اللحظة التي رأينا فيها جولات السلام كلها، التي لم تستطيع إيقاف الحرب، ولا فرض السلام أيضاً.
وبالتالي، ستظل متاهة الحرب، وكذا سراب السلام المزعوم، حديثاً مكرّراً ومملاً، يستخدم فقط لـ "البزنس السياسي" ليس إلا. وبالعودة إلى مسألة الحرب اليوم التي دخلت عامها السادس عشر، وليس الخامس كما قد يتوهم بعضهم، وتروّج ذلك جماعة الحوثي، فأعتقد أنها حربٌ لن
بيد أن الجديد في هذه الحرب أن المملكة السعودية، هذه المرّة، تقف ضد جماعة الحوثي المدعومة إيرانياً، إذ كانت المملكة نفسها داعمةً لأصحاب هذه المشروع في حروب الستينيات من القرن الماضي، وأن ظروف هذه الحرب وملابساتها مليئة بالتعقيدات والسياقات التي جعلتها تبدو أكثر ضبابية وأشبه بمتاهة، بالنظر إلى نتائجها العكسية التي تبدو عليها اليوم، ورفعت، منذ البداية، أنها حرب لاستعادة الشرعية، وها هي في عامها الخامس، ولم تعد الشرعية، ولم يسقط الانقلاب بعد، فقد كان واضحاً، منذ البداية، أنها الحرب الأولى من نوعها، من حروب تداعيات الربيع العربي، إذ تجتمع فيها الثورة والثورة المضادّة في خندق واحد، فالقوى الحاملة ثورة 11 فبراير اليمنية تقف مع ما يسمى التحالف العربي الذي تحمل دوله مشروع الثورة المضادة، في مفارقة هي الأغرب في هذا المشهد العبثي، فقد سعت بعض دول الخليج، كالمملكة والإمارات تحديداً، إلى تبني موقف واضح من ثورات الربيع العربي، باعتبارها تهديداً لها، وهو تخوّف يحمل مبالغاتٍ كثيرة، باعتبار أن سياق هذه الثورات يختلف من مجتمع إلى آخر، فضلاً عن أن الوضع في اليمن مختلف جداً عن جيرانه الخليجيين، عدا عن أن ثورة 11 فبراير اليمنية لم تتبن خطاباً بالضد من أمن دول الخليج واستقرارها. فضلاً عن ذلك، لمجتمعات الخليج سياق آخر تماماً، يختلف جذرياً عن مجتمعات وسياق الثورات في اليمن وتونس ومصر وغيرها، باعتبار الخليج
أخذت الحرب في اليمن اليوم منحىً أكثر عبثيةً، لاعتبارات عدة، أولها: لم تضع هذه الحرب لنفسها إطاراً واضحاً للعلاقة القائمة بين الحكومة الشرعية اليمنية ودول ما سمي التحالف العربي، ما أدّى إلى انعكاسات خطيرة، فيما يتعلق باستلاب القرار السيادي للشعب اليمني، وتحوله إلى جانب تابع لا شريك في هذه الحرب، ولا يقرر مصيره نتيجة فشل ممثلي الشرعية.
ثانياً: مضت هذه الحرب إلى تحقيق أهدافها غير المعلنة على حساب أهدافها المعلنة، وهي إضعاف اليمن وضرب وحدته وقوته وإبقاؤه دولة مفكّكة، وهو ما تجلى في الحرب التي شنت ضد الشرعية اليمنية منذ البداية، تحت مبرّر أنها شرعية تخضع لحزب الإصلاح ذي الخلفية الإسلامية (الإخوانية) بحسبهم، وهي الشماعة نفسها التي رفعت لإسقاط الدولة في صنعاء من مليشيات الحوثي، وبالتالي منعت هذه الحكومة من العودة إلى الداخل، وسمح لمليشيات غير نظامية لتحل محلها في العاصمة المؤقتة عدن، وهي مليشيات المجلس الانتقالي الانفصالي المدعوم إماراتياً.
ثالثاً: كانت للأزمة الخليجية تداعيات سلبية وكارثية على الحرب في اليمن، وهو ما تمثل بتحول هذه الحرب إلى ورقة صراع بين الأطراف الخليجية، وعلى حساب معركة استعادة الشرعية في اليمن، وعلى حساب اليمنيين أنفسهم، ما أدّى إلى طول أمد الحرب. وقد أدت حالة الاستقطاب التي اتبعتها الأطراف الخليجية إلى انقسام النخب والأحزاب السياسية الداعمة للشرعية، بين معسكري الأزمة الخليجية، وهذا صبّ في صالح مشروع جماعة الحوثي التي بدأت تفتح خطوط تواصل لها مع الجانبين، الإماراتي والقطري، والسعودي أيضاً، وهو ما انعكس سلباً على سير المعركة اليمنية لاستعادة الشرعية.
وختاماً: يبقى أن القضية اليمنية وحربها هذه التي تحوّلت إلى مادة للعبث الخليجي، ستكون تداعياتها كارثية على المنطقة كلها، باعتبار أن المقدّمة التي أوصلت اليمن والخليج إلى هذا المربع من الانكشاف الأمني والاستراتيجي هي نفسها التي لا تزال حاكمة للمشهد، وهي أن الخليجيين يعتقدون أنهم سيكونون في منأى عن تداعيات الحرب والانقسامات اليمنية التي لم يتستطيعوا حتى اللحظة الانفكاك منها، فكيف بها إذا ما طال أمدها وتعقدت حلولها، في ظل انصراف العالم عنها بعيداً، كل يبحث له عن مصير في ظل الأزمة الصحية الكارثية التي يعيشها العالم اليوم.