13 أكتوبر 2024
اليمن... صناعة الحرب وتجارة السلام
خلفت الحرب في اليمن، حتى الآن، خسائر بشرية ومادية فادحة، وبقدر ما تلخص هذه الخسائر فظاعة الحرب، وألم غض العالم الطرف عن مأساة اليمنيين، تكشف الحرب، في مساراتها السياسية والعسكرية، خسارة اليمنيين نخباً كان ينتظر منها في الظروف المفصلية التي تعيشها البلاد تغليب مصلحة اليمنيين، أو على الأقل عدم استثمار نكباتهم اللاحقة، لكن هذه النخب التي طالما أدهشت اليمنيين بأدائها في فترات سابقة لم تغلب سوى مصلحتها، حيث تركت اليمنيين وحدهم، ونجت بنفسها من حربٍ مفتوحةٍ، ومصاب عظيمٍ صنعته سياسة النكاية والضعف التي مارسوها طوال سنوات ماضية.
منذ مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، يتذكّر اليمنيون نخبهم الحزبية والسياسية والحقوقية، وهم يغادرون، مع أسرهم وأقربائهم والمنظمات الدولية، سفينة اليمن الغارقة التي لا يمكن إنقاذها. وقبل ذلك بأشهر، عندما اتسعت جغرافية العنف، بعد زحف الحوثيين والقوات التابعة لعلي عبدالله صالح على المدن اليمنية، توارت هذه النخب، وظلت تحمي مصالحها، ولم تتخذ موقفاً واضحاً من العنف بصبغته اليمنية آنذاك، وظلت في انكفائها السياسي، حتى إعلان التحالف العربي، بقيادة السعودية، التدخل العسكري في اليمن، وبدء عمليات "عاصفة الحزم" في نهاية مارس/ آذار الماضي، ولأن التدخل السعودي بات مغرياً بحوافز مادية وسياسية ومعيشة مرفهة في فنادق الرياض، انفتحت شهية هذه النخب للعودة إلى تصدر المشهد مجدداً، والدفاع عن أطروحات المنتصر.
مع اشتداد وتيرة الحرب وتصاعد الانقسام المجتمعي، أعادت النخب اليمنية تموضعها واصطفافها السياسي بين نخبٍ مؤيدةٍ لسلطة الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، والتحالف العربي الداعم له، وأخرى تدعم جماعة الحوثي وصالح، للحصول، في المقابل، على استحقاقها من موارد الدولة التي نهبها الحوثيون وصالح. كعاداتها، في مبرّراتها لخوض حرب ضد اليمنيين، على اختلاف اصطفافاتها السياسية، لم تقارب هذه النخب معاناة اليمنيين، وظل تركيزها منصباً على ضمان مصالحها في يمن الحرب، ويمن ما بعد الحرب.
قراءة مواقف هذه النخب، وخطاباتها وتموضعاتها، طوال ما يقارب عاماً من الحرب، تؤكد حقيقة أن هذه النخب لم تنضجها التجربة المريرة التي عاشها اليمنيون، ولم تتعلم من إخفاقاتها العديدة في أثناء المرحلة الانتقالية، حقيقة كون تنافسها تركّز، ولا يزال، ضمن الأحقاد والأطماع الشخصية لهذه النخب. وبالتالي، فإنها لا تزال عاجزة عن القيام بمراجعةٍ نقديةٍ لأدائها ورؤيتها، بما في ذلك مراجعة مشروع الأقاليم الذي سيؤدي، في النهاية، إلى تشظي اليمن المحترب، والاستفادة من أخطائها السابقة لبلورة مشروع وطني، واضح المعالم، لجميع اليمنيين، يحميهم من المجهول الذي ينتظرهم، أو على الأقل إيجاد قوة ثالثة، تحقق توازناً سياسياً ومجتمعياً بين أطراف الصراع؛ إلا أن الخفة السياسية لا ترى أبعد من التخندق في المواقف السياسية، وتتابع قيادة اليمن إلى الكارثة، حيث أن الانتهازية وتقديم الشخصي على العام الذي ميز النخب اليمنية جعلها عاجزة عن التفكير أبعد من مقاييس الربح الشخصي، وأطروحاتها السياسية السابقة لا تزال على حالها، وكل ما تفعله هو تسطيح المشكلات الوطنية، سواء التي أنتجت الحرب، أو التي ستفرزها الحرب فيما بعد.
أكبر دليل على خفة النخب اليمنية وانحطاط مشاريعها هو قدرتها على "إعادة تدوير"
شخوصها داخل أوعية السياسة المتغيرة، بالحماسة والعدائية نفسيهما، وبالاتكال نفسه على مشاريع دون وطنية، واستمرارها أبواق حرب فصيحة، لقاء ضمان نجاتها الشخصية، إذ تحشد كل هذه النخب تقريباً طاقتها لتحقيق انتصارات صغيرة في معاركها السياسية الدائمة، غير آبهةٍ بأمر اليمنيين، وليست المصالح الوطنية لدى هذه النخب سوى يافطة لمصالحها وأطماعها.
لا تختلف النخب اليمنية الذكورية عن النخب النسوية في أدائها، أو انتهازيتها السياسية، فقد اكتفت الأخيرة بدور المشرعن لاختلالات المرحلة الانتقالية، حيث لم تكن مشاركتها في الحوار الوطني سوى تزمير (من العزف بالمزمار) لـِ"حقوق المرأة"، لافتة عريضة لاستدرار أموال المنظمات الأجنبية، بينما، في الواقع، يجري عزل حقوق المرأة عن سياقاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي، عدم ملامسة المشكلات الوطنية الحقيقية، وصولاً إلى الاحتفاء بفرض الكوتا النسوية في وثيقة الحوار الوطني، كانتصار لليمنيين.
ربما لم تتعلم النخب اليمنية من أخطائها ومغامراتها الشخصية في الشأن اليمني العام، وربما ترى من المريح لها أن لا تتعلم، لكن اليمنيين أدركوا، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن هذه النخب ليست فقط جزءاً من تشوهات المرحلة الانتقالية، بل هي جزء من تشوهات المجتمع اليمني وأزماته العميقة، معبراً عنه بتقييم الدور السلبي لهذه النخب، إزاء معاناة اليمنيين في حروبهم المشتعلة على كل الجبهات وضد كل اليمنيين.
ثبت اليوم أن النخب اليمنية لا تمتلك أي حساسية للنقد الذاتي لأدوارها ومواقفها، ولا تشعر بأي ذنبٍ أو خجلٍ من توظيفها معاناة اليمنيين في تنافسها السياسي؛ فبعد ما يقارب عاماً من الصمت والمواربة، تعود هذه النخب للاستثمار في صناعة سلام مفترضٍ بين اليمنيين، من دون الإشارة، في بياناتها ومواقفها، إلى تسمية أطراف الحرب، وإدانة انتهاكاتها في حق اليمنيين، والتأكيد على أولوية تحقيق العدالة بالنسبة للضحايا، لتبدو "صناعة السلام" تجارةً رائجةً في الحروب، للاستفادة من دعم غير محدود تقدمه منظمات أجنبية، حتى لو كان السلام الذي يبشر به قطيع النخب اليمنية مجهول الملامح، سلام لا يمت لواقع اليمنين بصلة، سلام يدور في غرف الفنادق المغلقة، ولا يقارب أبداً أسباب إنتاج الحرب، ولا ما ستفرزه في حياة اليمنيين ومستقبلهم.
يدرك يمنيون كثيرون في الداخل الذين أنضجتهم تجربة الحرب ومعاناتها اليومية، أكثر من غيرهم، حاجتهم لسلام دائم، لا ينتقص من حقوقهم، ولا يحولهم جميعاً إلى ضحايا مجدداً. لذا، هم ينشدون سلاماً حقيقياً لا علاقة له بسلام النخب التي تعتاش، مرة أخرى، على دمائهم ومصيرهم، ويوقنون، من تجربة الحوار الوطني، أن السلام ليس أمنيةً، ولا تسويقاً إعلامياً للفضيلة والأماني، وليس مجرد اتفاق أطراف الصراع وحلفائهم الإقليميين على تسويةٍ سياسيةٍ، وإنما ينبع السلام، أولاً، من تضميد معاناة آلاف الضحايا، وبناء جسور ثقة، ليس بين الأطراف المتصارعة فقط، بل وأيضاً بين اليمنيين، في تهيئة وإنتاج وعي مجتمعي بضرورة تحقيق التعايش وقبول الآخر. عدا ذلك، سيصبح السلام إثراء غير مشروع لنخب السلام التي هي نخب الحرب.
منذ مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، يتذكّر اليمنيون نخبهم الحزبية والسياسية والحقوقية، وهم يغادرون، مع أسرهم وأقربائهم والمنظمات الدولية، سفينة اليمن الغارقة التي لا يمكن إنقاذها. وقبل ذلك بأشهر، عندما اتسعت جغرافية العنف، بعد زحف الحوثيين والقوات التابعة لعلي عبدالله صالح على المدن اليمنية، توارت هذه النخب، وظلت تحمي مصالحها، ولم تتخذ موقفاً واضحاً من العنف بصبغته اليمنية آنذاك، وظلت في انكفائها السياسي، حتى إعلان التحالف العربي، بقيادة السعودية، التدخل العسكري في اليمن، وبدء عمليات "عاصفة الحزم" في نهاية مارس/ آذار الماضي، ولأن التدخل السعودي بات مغرياً بحوافز مادية وسياسية ومعيشة مرفهة في فنادق الرياض، انفتحت شهية هذه النخب للعودة إلى تصدر المشهد مجدداً، والدفاع عن أطروحات المنتصر.
مع اشتداد وتيرة الحرب وتصاعد الانقسام المجتمعي، أعادت النخب اليمنية تموضعها واصطفافها السياسي بين نخبٍ مؤيدةٍ لسلطة الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، والتحالف العربي الداعم له، وأخرى تدعم جماعة الحوثي وصالح، للحصول، في المقابل، على استحقاقها من موارد الدولة التي نهبها الحوثيون وصالح. كعاداتها، في مبرّراتها لخوض حرب ضد اليمنيين، على اختلاف اصطفافاتها السياسية، لم تقارب هذه النخب معاناة اليمنيين، وظل تركيزها منصباً على ضمان مصالحها في يمن الحرب، ويمن ما بعد الحرب.
قراءة مواقف هذه النخب، وخطاباتها وتموضعاتها، طوال ما يقارب عاماً من الحرب، تؤكد حقيقة أن هذه النخب لم تنضجها التجربة المريرة التي عاشها اليمنيون، ولم تتعلم من إخفاقاتها العديدة في أثناء المرحلة الانتقالية، حقيقة كون تنافسها تركّز، ولا يزال، ضمن الأحقاد والأطماع الشخصية لهذه النخب. وبالتالي، فإنها لا تزال عاجزة عن القيام بمراجعةٍ نقديةٍ لأدائها ورؤيتها، بما في ذلك مراجعة مشروع الأقاليم الذي سيؤدي، في النهاية، إلى تشظي اليمن المحترب، والاستفادة من أخطائها السابقة لبلورة مشروع وطني، واضح المعالم، لجميع اليمنيين، يحميهم من المجهول الذي ينتظرهم، أو على الأقل إيجاد قوة ثالثة، تحقق توازناً سياسياً ومجتمعياً بين أطراف الصراع؛ إلا أن الخفة السياسية لا ترى أبعد من التخندق في المواقف السياسية، وتتابع قيادة اليمن إلى الكارثة، حيث أن الانتهازية وتقديم الشخصي على العام الذي ميز النخب اليمنية جعلها عاجزة عن التفكير أبعد من مقاييس الربح الشخصي، وأطروحاتها السياسية السابقة لا تزال على حالها، وكل ما تفعله هو تسطيح المشكلات الوطنية، سواء التي أنتجت الحرب، أو التي ستفرزها الحرب فيما بعد.
أكبر دليل على خفة النخب اليمنية وانحطاط مشاريعها هو قدرتها على "إعادة تدوير"
لا تختلف النخب اليمنية الذكورية عن النخب النسوية في أدائها، أو انتهازيتها السياسية، فقد اكتفت الأخيرة بدور المشرعن لاختلالات المرحلة الانتقالية، حيث لم تكن مشاركتها في الحوار الوطني سوى تزمير (من العزف بالمزمار) لـِ"حقوق المرأة"، لافتة عريضة لاستدرار أموال المنظمات الأجنبية، بينما، في الواقع، يجري عزل حقوق المرأة عن سياقاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي، عدم ملامسة المشكلات الوطنية الحقيقية، وصولاً إلى الاحتفاء بفرض الكوتا النسوية في وثيقة الحوار الوطني، كانتصار لليمنيين.
ربما لم تتعلم النخب اليمنية من أخطائها ومغامراتها الشخصية في الشأن اليمني العام، وربما ترى من المريح لها أن لا تتعلم، لكن اليمنيين أدركوا، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن هذه النخب ليست فقط جزءاً من تشوهات المرحلة الانتقالية، بل هي جزء من تشوهات المجتمع اليمني وأزماته العميقة، معبراً عنه بتقييم الدور السلبي لهذه النخب، إزاء معاناة اليمنيين في حروبهم المشتعلة على كل الجبهات وضد كل اليمنيين.
ثبت اليوم أن النخب اليمنية لا تمتلك أي حساسية للنقد الذاتي لأدوارها ومواقفها، ولا تشعر بأي ذنبٍ أو خجلٍ من توظيفها معاناة اليمنيين في تنافسها السياسي؛ فبعد ما يقارب عاماً من الصمت والمواربة، تعود هذه النخب للاستثمار في صناعة سلام مفترضٍ بين اليمنيين، من دون الإشارة، في بياناتها ومواقفها، إلى تسمية أطراف الحرب، وإدانة انتهاكاتها في حق اليمنيين، والتأكيد على أولوية تحقيق العدالة بالنسبة للضحايا، لتبدو "صناعة السلام" تجارةً رائجةً في الحروب، للاستفادة من دعم غير محدود تقدمه منظمات أجنبية، حتى لو كان السلام الذي يبشر به قطيع النخب اليمنية مجهول الملامح، سلام لا يمت لواقع اليمنين بصلة، سلام يدور في غرف الفنادق المغلقة، ولا يقارب أبداً أسباب إنتاج الحرب، ولا ما ستفرزه في حياة اليمنيين ومستقبلهم.
يدرك يمنيون كثيرون في الداخل الذين أنضجتهم تجربة الحرب ومعاناتها اليومية، أكثر من غيرهم، حاجتهم لسلام دائم، لا ينتقص من حقوقهم، ولا يحولهم جميعاً إلى ضحايا مجدداً. لذا، هم ينشدون سلاماً حقيقياً لا علاقة له بسلام النخب التي تعتاش، مرة أخرى، على دمائهم ومصيرهم، ويوقنون، من تجربة الحوار الوطني، أن السلام ليس أمنيةً، ولا تسويقاً إعلامياً للفضيلة والأماني، وليس مجرد اتفاق أطراف الصراع وحلفائهم الإقليميين على تسويةٍ سياسيةٍ، وإنما ينبع السلام، أولاً، من تضميد معاناة آلاف الضحايا، وبناء جسور ثقة، ليس بين الأطراف المتصارعة فقط، بل وأيضاً بين اليمنيين، في تهيئة وإنتاج وعي مجتمعي بضرورة تحقيق التعايش وقبول الآخر. عدا ذلك، سيصبح السلام إثراء غير مشروع لنخب السلام التي هي نخب الحرب.