اليمن.. من جمهورية القبائل إلى زمن الطوائف
إذن، سقطت الدولة اليمنية التي يعرفها اليمنيون، ليبدأوا عهداً جديداً وليس حديثاً، هذا العهد بدأت خيوطه تتجمع منذ عشرين عاماً، بعد سقوط مدينة عدن في السابع من يوليو/تموز عام 1994، بيد قوات تحالف حكومة صنعاء، وهذه المرة تسقط صنعاء بيد ميلشيا طائفية يوم 21 من سبتمبر/أيلول عام 2014، يوم سيتذكره اليمنيون طويلاً، مثل ذلك اليوم في عدن.
كما قسمت تلك اللحظة الفارقة اليمنيين شماليين وجنوبيين، ينقسم اليمنيون، اليوم، شيعة وسنة، كما لم يحدث من قبل، وكما كانت لحظة انتقل فيها اليمن كاملاً، وبشكل لم يسبق له مثيل، إلى دولة القبائل، ينتقل اليمن اليوم إلى دولة الطوائف. كان النظام الشمالي، حينذاك، لا يزال يمتلك جانباً تكنوقراطياً وآخر قبلياً وعسكرياً، لكن، بعد حرب 1994 التي دمرت مؤسسات الدولة الجنوبية الأكثر حداثةً وتطوراً نسبياً، مقارنة بالشمال، كذلك انهار أداء مؤسسات الدولة الشمالية بفعل نشوة النصر التي تملكت القيادة السياسية، واستغنت عن جانبها التكنوقراطي، الضعيف، أًصلاً، وتحولت السلطة أكثر فأكثر، للتمركز بشخص علي عبد الله صالح، حتى بدأ سيناريو التوريث، وانفك عقد تحالفاته القبلية، حتى سقط عام 2011.
كانت عشرون عاماً من النظام الفاسد القبلي والهمجي فترة كافيةً لكي تعيش اليمن لحظة السقوط التالية، سقوط العاصمة صنعاء بيد ميلشيا طائفية. سقطت العاصمة ومؤسساتها السيادية، في أيام قليلة، وقاومت مدينة عمران المجاورة لها شهوراً، ولا عجب بجيش تعددت ولاءته، وانهارت معنوياته، وجنوده يتعرضون للاعتداءات المتكررة من تنظيم القاعدة، أكبرها على الإطلاق قتل نحو 100 جندي في عمل انتحاري في أثناء تدريبهم للاحتفال بعيد الوحدة اليمنية، في يوم 21 مايو/أيار 2012. كان أول اعتداء، وتوالت، بعدها، الاعتداءات بلا تحقيق، ولا حتى تعويض مادي يستحق الذكر لأهالي الجنود المقتولين، والمتروكين بلا حماية، ولا تدريب يحميهم من هجمات كهذه، وكذلك بلا مرتبات في مقابل جيش حوثي منظم، يتلقى جنوده الرواتب بانتظام وسخاء، موحد القيادة، وتم تدريبه جيداً.
كانت قبيلة الرئيس السابق علي عبد الله صالح تستحوذ على المناصب القيادية للجيش، ومع بدء الهيكلة، أزيح بعضهم، لكن، ليس تماماً، وظل الحضور القبلي واسعاً في الجيش، حتى على مستوى الجنود الذين ينتمون إلى قبيلة الرئيس السابق، زيدية شمالية. وفي ظل عملية الهيكلة العشوائية والضعيفة والتوحيد الظاهري لوحدات الجيش الذي انقسم عام 2011، والعمل المنظم من القيادات التي تم إقصاؤها لتدمير وضع الجيش من الداخل، مثل عدم صرف المرتبات والتحريض المستمر للجنود، حتى يتمردوا على قادتهم الجدد، نجح الحوثيون في اختراق الجيش محرضين مناطقياً ضد الرئيس الجنوبي، وطائفياً ضد حزب الإصلاح.
في هذا كله، كان الحوثي يستغل ضعف الرئيس، عبد ربه منصور هادي، الذي انتظرهم لينتقلوا من مدينة عمران (مفتاح صنعاء الاستراتيجي)، حتى وصلوا إلى محيط صنعاء مسلحين، موظفاً شعارات شعبية بخصوص خفض أسعار المشتقات النفطية، وإسقاط الجرعة السعرية الجديدة، لكن يتكشف كذبه ببساطة، عندما نعرف إن كل خطابات الحوثي العدائية، وظفها ضد حزب الإصلاح الذي لم يتخذ قرار الجرعة، بل الرئيس عبدربه منصور الذي لم يستعْدِه الحوثيون. انتقى الحوثي خصمه، بعناية، ليس فقط لأنه أضعف شعبية الإصلاح، بهدف تحييد الشعب والدولة، لكن، لأنه كان يريد جر المعركة منذ اللحظة الأولى إلى مربع الطائفية الذي يتحرك فيه دوماً.
لم يسقط الحوثيون صنعاء لأنها عاصمة الدولة اليمنية، بل لأنها مدينة زيدية، والمركز الحضري الأهم والأكبر للمرتفعات الشمالية التي تقطنها غالبية زيدية. لذا، يبدو جل تركيز الحوثي على مسألة إعادة تقسيم الأقاليم، وحصول إقليمهم، آزال، على منفذ بحري. ويدرك الحوثي جيداً إنه جماعة طائفية، يصعب عليه حكم جميع اليمن، فهو لا يملك شيئاً حقيقياً يقدمه لليمنيين، ونموذج حكمه واضح بصعده، أسلوب قمعي وشديد الانغلاق، بل وعيّنوا لها محافظاً، هو أحد كبار تجار السلاح والفاسديين في اليمن، ما يكشف كذبهم المتهافت، وهم يتحدثون عن حكومة تكنوقراط. يعلم ذلك الحوثيون جيداً، وهم حالياً لا يطلبون أكثر من حضور طائفي، معترف به في مناطقهم، لترتيب نصيبهم من الخارطة اليمنية المقبلة، على انفجار طائفي، تنشط فيه القاعدة جنوباً.
يفعل الحوثيون مثل منتصري حرب 94، والذي حكم تحالفه بأدوار مختلفة عشرين عاماً، ذات المنطق الانتقامي والهمجية. ها هم يعتدون على منازل خصومهم من قيادات حزب الإصلاح، بما فيها منزل الناشطة المعروفة توكل كرمان، ويخلون مستشفىً من مرضاه بعد اقتحامه بشكل لا إنساني، لمجرد أن إدارته إصلاحية، وغيرها من أساليب همجية تعبر عن لا أخلاقية الخصومة، شيء مشابه لحوادث نهب عدن، في السابع من يوليو عام 1994. أحداث تحفر عميقاً في ذاكرة اليمنيين، قسمتهم سابقاً جنوبيين وشماليين، واليوم شيعة وسنة، أو زيود وشوافع، حسب التعبير اليمني.
عشرون عاماً كانت كافيةً، لتكتمل دورة الظلم وتبدأ دورة جديدة من الظلم أيضاً، عشرون عاماً انتقل فيها اليمن إلى التمزق دويلات صغيرة، وكما كان سقوط عدن فاتحة العصر القبلي، يأتي سقوط صنعاء فاتحة العصر الطائفي، وهو سيناريو أسوأ، وينقلنا من مرحلة الفوضى إلى مرحلة الدم والتقسيم السياسي، وليس فقط الاجتماعي، لأن اليمن، الكبير من حيث حجم والسكان، والضعيف الموارد، لن يحتمل طويلاً الوصفة الطائفية ودمويتها، ولأنها كذلك، فهذه الدورة لن تطول عشرين عاماً أخرى، حتى تتحقق أحلام اليمنيين الذي انتفضوا مرات، مطالبين بحياة كريمة يستحقونها، وحرية يتلهفون إليها، تمسح عنهم تلك التقسيمات الطائفية والمناطقية التي صنعتها القوى السياسية التي أفرزتها أزمنة التخلف والجهل الطويلة.