انتخابات إسبانيا: فوز اشتراكي وهزيمة "تاريخية" للمحافظين... واليمين المتطرف يدخل البرلمان
فاز رئيس الوزراء الاشتراكي الإسباني، بيدرو سانشيز، الأحد في الانتخابات التشريعية من دون أن يحقق غالبية مطلقة، وفيما مني حزب المحافظين بـ"بهزيمة تاريخية"، فإن اليمين المتطرف يستعد للدخول بقوة إلى البرلمان بحسب النتائج الجزئية.
وهيمنت عناوين "الهزيمة الانتخابية التاريخية" التي مني بها المحافظون في "حزب الشعب" على عناوين الصحف، مقابل "انتصار الاشتراكيين بزعامة بيدرو سانشيز"، وبتقدم شعبوي للمرة الأولى على الصعيد الوطني، باقتحام حزب "بوكس" (يصنف قوميا متعصبا) البرلمان بنحو 10.3 في المائة، رغم توقع قياداته تحقيق نحو 12 في المائة من نسبة نحو 75 في المائة ممن توجهوا إلى صناديق الاقتراع أمس الأحد، بحسب ما سجلته لجنة الانتخابات في مدريد.
حقق إذا اليمين الشعبوي، بزعامة سانتياغو أباسكال، تقدما حوّل الحزب إلى قوة خامسة في برلمان إسبانيا، باحتلاله 24 مقعدا من أصل 350. لكنه انتصار قابلته هزيمة غير مسبوقة في معسكر يمين الوسط، بتراجع مقاعده من 137 إلى 66 مقعدا، فقد حصل فقط على تأييد نحو 4.3 ملايين مقترع، وهو تراجع من نحو 8 ملايين صوتوا له في الانتخابات السابقة، وإلى جانب تحقيق حزب "المواطنين" 57 مقعدا، فإنه حتى لو تحالف مع اليمين المتشدد، فلن يضمن المعسكر سوى 147 مقعدا، وهي غير كافية لتحقيق أغلبية لتشكيل حكومة.
تعني هذه النتيجة التي قال عنها فجرا زعيم المحافظين، بابلو كاسادو، إنها "أسوأ نتيجة على الإطلاق"، أن الاشتراكيين وحدهم، بنتيجة نحو 123 مقعدا، سيكونون الأقرب إلى جمع أغلبية مطلقة من 176 مقعدا لتشكيل الحكومة. والمؤشرات كلها تشير إلى أن بيدرو سانشيز، الذي حقق ما عجز عنه الباقون، هو المؤهل لجمع الأغلبية، وإن كانت التحليلات الأولية تقول بالطبع إنه "أمر لن يكون سهلا بسبب تعقيدات من يحتاج إلى تأييدهم لتشكيل أغلبية القاعدة البرلمانية".
بيدرو سانشيز، الذي جعل الاشتراكيين في المقدمة، رغم تخوينه وكيل شتى أنواع الاتهامات له بشأن مسألة انفصال كتالونيا، وتعاطيه مع المهاجرين، سيكون أيضا أمام معادلة أخرى، غير التحالف مع "بوديموس الموحد"، بمقاعده الـ42، إذ لن يوصله ذلك إلى 176 مقعدا بل إلى 166 مقعداً، قد تضطره للدخول في تحالفات مع أحزاب أخرى صغيرة اقتحمت المشهد الوطني الانتخابي من بوابات قوتها في أقاليمها، ومن بينها تلك الانفصالية في كتالونيا، كالحزب الجمهوري، اليساري، في الإقليم، إذ بضم مقاعده، نحو 15، إلى معسكر اليسار ويسار الوسط، تتحقق الأغلبية البرلمانية، بل يتجاوزها بثلاثة مقاعد إلى 179 مقعدا.
مناورات سانشيز
قد يواجه سانشيز، والاشتراكيون عموما، مزيدا من الاتهامات، مع اقتحام اليمين القومي المتعصب للبرلمان الوطني وارتفاع منسوب خطابه المتشدد. فكل خطوة اشتراكية للاستفادة من أصوات الأحزاب الصغيرة، في كتالونيا والباسك وغيرها، سينظر إليها المتعصبون القوميون، وحتى يمين الوسط في حزب "المواطنين"، على أنها "مؤشر على تفريط بوحدة إسبانيا".
هذا إلى جانب أن الانفصاليين بالتأكيد، وخصوصا في كتالونيا، وفقا لما حملته تصريحات أقطابهم قبيل الاقتراع أمس، لن يمنحوا أصواتهم بدون عائد، وبالأخص التراجع عن محاكمات قادتهم بتهمة "الخيانة"، والدخول في تعديلات دستورية تتيح الاستفتاء على انفصال الإقليم.
وكل هذه الخطوات يتأهب اليمين القومي المتشدد، والناقمون من خسارتهم في يمين ويمين الوسط، لمراقبتها بتمعن. فالمشهد والبيئة السياسية في إسبانيا اليوم، بحسب ما يقوله الكاتب والباحث السياسي، غراثيانو بالومو، في صحيفة "الـ كونفدنشيال"، أقرب إلى ما كان عليه أثناء فترة الانتقال الديمقراطي بين عامي 1976 و1977، وهي الفترة التالية لانتهاء النظام الفاشي في عام 1975. ويؤكد بالومو أن "التحديات الاقتصادية كبيرة، إلى جانب التهديد الجدي من التفكك والخطر على وحدة إسبانيا، تضعنا أمام البحث عن إجابة على تحدّ وجودي قد يأخذنا نحو الهاوية".
ومقابل هذه القراءة، وما قد يتسبب به تغير المعادلة باقتحام الشعبويين للبرلمان، وانفتاح يمين الوسط عليهم، حتى بوعود حقائب وزارية، مستلهمين من التجارب الإيطالية والنمساوية والتشيكية والبولندية، يرى مراقبون آخرون في إسبانيا أن ما حققه الاشتراكيون على المستوى الاقتصادي، وخصوصا تجاه الطبقات الفقيرة، برفع سقف الحد الأدنى للأجور بـ22 في المائة، إلى 900 يورو رغم تحذيرات الاتحاد الأوروبي، وتمرير نحو 9 قرارات حسنت من الأوضاع خلال الأشهر الماضية، من بينها منح الطلاب مساعدات مالية وتحسين التقاعد والسماح للمهاجرين بالاستفادة من النظام الصحي والإصرار على نقل رفات الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو، كلها قد تجعل الشارع الإسباني أكثر رفضا للتوجه نحو التطرف في الأجنحة السياسية.
ويستشهد المتفائلون بتراجع النزعة الانفصالية بتراجع لجناح زعيم الانفصال، ورئيس الإقليم الكتالوني سابقا، كارليس بويغديمونت، في الحزب اليساري الجمهوري، القومي الانفصالي، إلى 7 مقاعد، من أصل 15 للحزب.
ورغم ذلك، فمصاعب بيدرو سانشيز(47) عاما، ليست جديدة. فمنذ ثلاثة أعوام أراد زملاؤه في الحزب إقالته على خلفية الهزيمة الانتخابية السابقة للاشتراكيين، لكن لم يمض وقت حتى أصبح رئيسا للوزراء وأظهر، بحسب تحليلات الإسبان أنفسهم، قدرة على المناورة السياسية والبرلمانية، وخلق تحالفات لمحاربة الفساد والتركيز على النهوض بإسبانيا، وهو ما صمم عليه في 10 أشهر مضت.
وصحيح أنه لم يحقق سوى نحو 29 في المائة، إلا أن محافظة الاشتراكيين على المقدمة كأكبر الأحزاب البرلمانية ليست بالأمر السهل. صحيفة "الموندو"، المحافظة، في موقعها الإلكتروني فجر اليوم، لم تتردد بوصف ما جرى أنه " الانتصار الاشتراكي هو انتصار شخصي لـ(رئيس الوزراء الإسباني بيدرو) سانشيز"، وفقا لرئيس تحريرها فرانشيسكو روسل.
وقد يدفع تعقيد تشكيل حكومة بزعامة اشتراكية نحو التعاون الاضطراري مع أحزاب صغيرة، مع مخاوف يصفها المحللون، رغم فوز الاشتراكيين، بـ"مرحلة اللا استقرار"، خشية التحول إلى النموذج الإيطالي، بكثرة الانتخابات وسقوط الحكومات.
إضافة إلى ذلك، فإن خسارة أحزاب يمين الوسط والمحافظين لناخبيهم لمصلحة حزب "بوكس" تحمل مؤشرات، تشبه في بعض جوانبها ما يجري في بقية القارة الأوروبية، لكن مع خصوصية إسبانية، بحسب ما أظهرته نقاشات المحللين على القنوات الإسبانية، وخصوصا محطة La Sexta، "بفارق أن البرلمان في مدريد لم يكن فيه قوى يمينية راديكالية سابقا، لتكبر مع الوقت، بل دخلت مباشرة بنحو 10 في المائة، وذلك مؤشر على ما قد نواجهه في انتخابات البرلمان الأوروبي (في 23 و26 مايو القادم) أو المحلية إن حدثت لاحقا".
ويشير معظم المحللين والمختصين الإسبان، صباح اليوم، على وقع النتائج، أن الاشتراكيين، بقيادة بيدرو سانشيز، ربما يكونون قادرين خلال الأسابيع القادمة على المناورة بجذب نحو 10 في المائة من الأصوات التي منحت للأحزاب الصغيرة في الأقاليم، بما فيها من إقليم الباسك، من خلال اتفاق على قضايا تخص مناطقهم والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، ما سيقطع الطريق على معسكري الانفصال من جهة واليمين المتشدد في الأخرى.
ورغم ذلك تبقى صورة المشهد السياسي والحزبي في إسبانيا اليوم أكثر تعقيدا وانقساما عما كانت عليه خلال العقود الماضية، وربما تكون الاستعصاءات القادمة علامة فارقة لتحولات أخرى كثيرة، قد تمس تعديل الدستور لحلحلة تعقيدات باقية منذ فترة التحول الديمقراطي في أعقاب انتهاء الفاشية في عام 1975.