08 نوفمبر 2024
انتخابات البرازيل.. عندما ترتعد الفرائص
كما لو أن العالم لم يكفِه انتخابُ رجلٍ يفتقر للحكمة إلى أعلى منصب وأخطره في الكوكب، رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، حتى يأتيه انتخابُ آخرٍ، أقل ما يوصف به أنه فاشستي، إلى رئاسة عملاق اقتصادي بحجم البرازيل. فليس فوز رمز اليمين الشعبوي المتطرّف، جايير بولسونارو، في الانتخابات الرئاسية البرازيلية هيِّناً، ولا يمكن له أن يمر مرور الكرام، بسبب موقع بلاده الاقتصادي، ولما يحمله هذا الرجل من خطورةٍ تتمثل بكراهيته العمال والفقراء واللاجئين، وعنصريته تجاه الملوّنين، علاوة على عدائه القانون والقضاء وحبه السلاح والتعذيب. ولن تقتصر الخسارات المترتبة على فوزه على البرازيليين الفقراء، فحسب، بل على دول كثيرة، ستكون روسيا والصين أولها. وستأتي الخسارات ثمرة الدعم الغربي لبولسونارو، ودعم إسرائيل التي رفع أنصاره علمها في احتفالات الفوز، ربما امتناناً.
جاء إعلان فوز بولسونارو برئاسة البرازيل، في 29 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والعالم ما زال مرتعداً جرّاء تنفيذ جريمة قتلٍ همجيةٍ بحق صحافيٍّ آمنٍ في عز الظهيرة، فهل ترتعد فرائص هذا العالم بوصول بولسونارو إلى الحكم، وتنفيذ وعده بالانقضاض على الديمقراطية الحديثة؟ ربما لا، وقد نال الرجل دعماً من قوى اليمين في العالم، ومن الدول الغربية التي تتشدّق بالديمقراطية. ولكن، هل يمكن لهذا العالم تحمُّل نتائج انتخاباتٍ كهذه، تُضاف إلى نكسة انتهاك القيم الإنسانية المتمثلة بحادثة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وتقطيعه؟ وكما لم يكن في وسع السعوديين تنفيذ الجريمة في قنصلية بلادهم في إسطنبول وإخفاء جثته، لوْلا ضمانة وجود رئيسٍ كارهٍ للصحافيين في سدة البيت الأبيض، كذلك لم يكن لهذا اليميني المتطرّف أن يجاهر بعدائه المؤسسات، وتمجيده التعذيب، وتحقيره الملونين، وازدرائه المرأة، لوْلا ضمانة وجود ترامب ومباركته إياه، وهو الذي يبزّه في هذه الصفات.
أثارت حملة بولسونارو الانتخابية لغطا كثيرا، بسبب دعواته التي تظهر حنيناً لحكم العسكر
والديكتاتورية وسنوات القتل والرعب في سبعينيات القرن الماضي، من جهة، والمحمّلة بشحنةٍ زائدةٍ من العنصرية، من جهة أخرى. وأظهرت استطلاعات الرأي، في الحملات الانتخابية، خشيةَ نسبةٍ كبيرةٍ من البرازيليين من عودة الديكتاتورية في حال فوزه، فهذا العسكري السابق لم يُخفِ مرة ازدراءه القيم الديمقراطية، بل دعا، في حملته الانتخابية، إلى إطلاق النار على منافسيه في حزب العمال. وأظهر، في سنواتٍ سابقةٍ، أسفه، لأن الديكتاتوريات في بلاده، وفي تشيلي، لم تقتل مزيداً من أبناء الشعب. ويأتي مشهد الشاب الذي يلبس الثياب العسكرية، ويرفع العلم الإسرائيلي بيدٍ، ومُجسَّماً كبيراً لبندقيةٍ أميركيةٍ بيد أخرى، في الاحتفالات التي أعقبت إعلان فوز بولسونارو، ليدلّل على أن البلاد قد تسير نحو الديكتاتورية التي ستجد من فورها في إسرائيل داعماً أساسياً لها، وقد كان لهذه باعٌ طويلٌ في دعم ديكتاتوريات أميركا اللاتينية الدموية، وتزويدها بالأسلحة، وبخبراء في قمع المعارضين وبأدوات التجسّس عليهم.
أصبح مسلَّماً به، مع فوز بولسونارو، أن اليمين المتطرّف في مرحلة تثبيت أقدامه في مراكز القرار في العالم. أما في أميركا الجنوبية فهو علامة على حالة القطع مع عدم التعيين التي تعيشها دول أميركية لاتينية عديدة، شهدت منذ سنواتٍ مدّاً يسارياً، استحقّ بسبب عدم راديكالية يساره، ولا ماركسيته، تسمية المد الوردي وليس الأحمر. إذ تعيش فنزويلا، وهي أولى الدول اللاتينية التي فتحت عصر هذا المد، مخاضاً يمكن أن يُفضي إلى قلب حكم رئيسها، نيكولاس مادورو، برلمانيّاً أو بقوة العسكر الذي غالباً ما تكون هنالك بصمات للمخابرات المركزية الأميركية على خطط تحرّكه الانقلابي في هذه القارة. وفنزويلا التي استهل رئيسها السابق، هوغو تشافيز، أولى موجات هذا المد، سنة 1999، كان متوقعاً لها أن تشهد هذا الانحدار مع خطوات تشافيز اللاديمقراطية التي تبدَّت في حله الأحزاب، على الرغم من سياساته وبرامجه الاجتماعية التي غيَّرت واقع الفقر في بلاده، وخطط الاستقلال الاقتصادي عن واشنطن التي سار بها ونفَّذها بقوة.
وعلى الرغم من برامج الرئيس اليساري الأسبق، لولا دا سيلفا، الاجتماعية التي ساهمت في انتشال أكثر من عشرين مليون برازيلي من الفقر، وفي تعافي الاقتصاد وتسجيله نموّاً في عهده، حين كان الاقتصاد الأميركي في طور الانهيار، سنة 2008، كان يؤخذ على دي سيلفا محاباته واشنطن في عدد من المواضيع. فلم يكن جذرياً في التعامل مع الشركات المتعدّدة الجنسيات، والمستثمرين الأجانب الذين كانوا يستنزفون خيرات البلاد، ويستغلون عمالها. وكان هنالك موضوع الوقود الحيوي الذي كان يُستخرج من الذُّرة التي يزرعها فقراء البرازيل. يومها اعتبرت دول في أميركا اللاتينية، ولا سيما كوبا في عهد فيديل كاسترو، وفنزويلا في عهد هوغو تشافيز، أن استخراج هذا الوقود من الذُّرة يشكل استنزافاً للبيئة، وإن أفواه الجوعى الفقراء في القارة اللاتينية وفي أفريقيا أحقّ بالذُّرة البرازيلية من خزانات وقود سيارات الأغنياء. ربما كانت بعض قضايا الفساد في عهد دا سيلفا، وعدم استكمال الإصلاحات في عهد خليفته اليسارية أيضاً، ديلما روسيف، وانكماش الاقتصاد والتقشّف خلال حكمها، هو ما أدى إلى تراجع شعبية اليسار، وارتماء الفقراء في أحضان أعدائهم الطبقيين من اليمينيين، حينما أخذ بولسونارو يبني على أخبار قضايا الفساد لدى دا سيلفا وروسيف في استمالتهم.
ولكن أين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من فوز بولسونارو؟ لا بد أنه أول الخاسرين بفعل
سياسته دعم قوى اليمين في القارّة الأوروبية ومباركة صعوده في هذه القارة وأماكن أخرى من العالم. هل وضع في حسبانه، يوماً، أن صعود يمينيٍّ في أي مكان سيشيع حالةً من الدومينو التي ستساهم في وصول يميني إلى حكم رابع اقتصاد في العالم، وسيدفع هذ العملاق إلى الخروج من منظمة بريكس؟ لا بد أن فوز مقرَّبٍ من ترامب، والذي سمّاه "صديق أميركا"، سيضعضع منظمة بريكس التي لطالما عوَّل عليها بوتين لإيجاد قطبٍ اقتصاديٍّ موازٍ، أو حتى منافسٍ للولايات المتحدة، يهدئ من توحّشها الاقتصادي والعسكري، ويخفف أذاها لنظامه. ولا بد من أن انتشاء حلفاء بوتين، من يمين إيطاليا وفرنسا، وغيرهما، بفوز بولسونارو و"سحق اليسار" هي أولى الصفعات التي تلقاها الرجل من مباركته زحف اليمين.
إذا ما وجدت سياسة بولسونارو المعادية للديمقراطية طريقها إلى التطبيق، فإن من انتخب هذا الرجل قد لا يشهد انتخاباتٍ أخرى في بلاده. حيث من الممكن أن ينقضَّ على الحياة البرلمانية والديمقراطية ويعطّل الدستور، وينصِّب نفسه ديكتاتوراً لا تداول للسلطة من بعده، فلا يأمن من شرّه حتى أنصاره. ومع افتقار الرجل الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها رئيس، فإن النائبة ماريا دو روزاريو التي قال عنها، سنة 2014، تحت قبة البرلمان: "لن أغتصبها لأنها بشعة جداً"، وهو ما أثار موجة استنكار واسعة في البلاد يومها، هذه النائبة قد تلقى القتل على يد هذا المتعصب الحاضّ على القتل، إن تجرأت على معارضته في البرلمان مستقبلاً.
جاء إعلان فوز بولسونارو برئاسة البرازيل، في 29 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والعالم ما زال مرتعداً جرّاء تنفيذ جريمة قتلٍ همجيةٍ بحق صحافيٍّ آمنٍ في عز الظهيرة، فهل ترتعد فرائص هذا العالم بوصول بولسونارو إلى الحكم، وتنفيذ وعده بالانقضاض على الديمقراطية الحديثة؟ ربما لا، وقد نال الرجل دعماً من قوى اليمين في العالم، ومن الدول الغربية التي تتشدّق بالديمقراطية. ولكن، هل يمكن لهذا العالم تحمُّل نتائج انتخاباتٍ كهذه، تُضاف إلى نكسة انتهاك القيم الإنسانية المتمثلة بحادثة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وتقطيعه؟ وكما لم يكن في وسع السعوديين تنفيذ الجريمة في قنصلية بلادهم في إسطنبول وإخفاء جثته، لوْلا ضمانة وجود رئيسٍ كارهٍ للصحافيين في سدة البيت الأبيض، كذلك لم يكن لهذا اليميني المتطرّف أن يجاهر بعدائه المؤسسات، وتمجيده التعذيب، وتحقيره الملونين، وازدرائه المرأة، لوْلا ضمانة وجود ترامب ومباركته إياه، وهو الذي يبزّه في هذه الصفات.
أثارت حملة بولسونارو الانتخابية لغطا كثيرا، بسبب دعواته التي تظهر حنيناً لحكم العسكر
أصبح مسلَّماً به، مع فوز بولسونارو، أن اليمين المتطرّف في مرحلة تثبيت أقدامه في مراكز القرار في العالم. أما في أميركا الجنوبية فهو علامة على حالة القطع مع عدم التعيين التي تعيشها دول أميركية لاتينية عديدة، شهدت منذ سنواتٍ مدّاً يسارياً، استحقّ بسبب عدم راديكالية يساره، ولا ماركسيته، تسمية المد الوردي وليس الأحمر. إذ تعيش فنزويلا، وهي أولى الدول اللاتينية التي فتحت عصر هذا المد، مخاضاً يمكن أن يُفضي إلى قلب حكم رئيسها، نيكولاس مادورو، برلمانيّاً أو بقوة العسكر الذي غالباً ما تكون هنالك بصمات للمخابرات المركزية الأميركية على خطط تحرّكه الانقلابي في هذه القارة. وفنزويلا التي استهل رئيسها السابق، هوغو تشافيز، أولى موجات هذا المد، سنة 1999، كان متوقعاً لها أن تشهد هذا الانحدار مع خطوات تشافيز اللاديمقراطية التي تبدَّت في حله الأحزاب، على الرغم من سياساته وبرامجه الاجتماعية التي غيَّرت واقع الفقر في بلاده، وخطط الاستقلال الاقتصادي عن واشنطن التي سار بها ونفَّذها بقوة.
وعلى الرغم من برامج الرئيس اليساري الأسبق، لولا دا سيلفا، الاجتماعية التي ساهمت في انتشال أكثر من عشرين مليون برازيلي من الفقر، وفي تعافي الاقتصاد وتسجيله نموّاً في عهده، حين كان الاقتصاد الأميركي في طور الانهيار، سنة 2008، كان يؤخذ على دي سيلفا محاباته واشنطن في عدد من المواضيع. فلم يكن جذرياً في التعامل مع الشركات المتعدّدة الجنسيات، والمستثمرين الأجانب الذين كانوا يستنزفون خيرات البلاد، ويستغلون عمالها. وكان هنالك موضوع الوقود الحيوي الذي كان يُستخرج من الذُّرة التي يزرعها فقراء البرازيل. يومها اعتبرت دول في أميركا اللاتينية، ولا سيما كوبا في عهد فيديل كاسترو، وفنزويلا في عهد هوغو تشافيز، أن استخراج هذا الوقود من الذُّرة يشكل استنزافاً للبيئة، وإن أفواه الجوعى الفقراء في القارة اللاتينية وفي أفريقيا أحقّ بالذُّرة البرازيلية من خزانات وقود سيارات الأغنياء. ربما كانت بعض قضايا الفساد في عهد دا سيلفا، وعدم استكمال الإصلاحات في عهد خليفته اليسارية أيضاً، ديلما روسيف، وانكماش الاقتصاد والتقشّف خلال حكمها، هو ما أدى إلى تراجع شعبية اليسار، وارتماء الفقراء في أحضان أعدائهم الطبقيين من اليمينيين، حينما أخذ بولسونارو يبني على أخبار قضايا الفساد لدى دا سيلفا وروسيف في استمالتهم.
ولكن أين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من فوز بولسونارو؟ لا بد أنه أول الخاسرين بفعل
إذا ما وجدت سياسة بولسونارو المعادية للديمقراطية طريقها إلى التطبيق، فإن من انتخب هذا الرجل قد لا يشهد انتخاباتٍ أخرى في بلاده. حيث من الممكن أن ينقضَّ على الحياة البرلمانية والديمقراطية ويعطّل الدستور، وينصِّب نفسه ديكتاتوراً لا تداول للسلطة من بعده، فلا يأمن من شرّه حتى أنصاره. ومع افتقار الرجل الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها رئيس، فإن النائبة ماريا دو روزاريو التي قال عنها، سنة 2014، تحت قبة البرلمان: "لن أغتصبها لأنها بشعة جداً"، وهو ما أثار موجة استنكار واسعة في البلاد يومها، هذه النائبة قد تلقى القتل على يد هذا المتعصب الحاضّ على القتل، إن تجرأت على معارضته في البرلمان مستقبلاً.