انتخابات تونس خارج السياق العربي

07 سبتمبر 2019
+ الخط -
تشهد تونس انتخاباتها الرابعة على التوالي منذ ثورتها التي مهدت دخولها الزمن الديمقراطي من بابه الكبير. بعد الانتخابات التأسيسية لسنة 2011 التي وضعت أسس التحول السياسي، عبر دستور جديد كان إعلانا عن الجمهورية الثانية، ثم انتخابات 2014 بشقّيها الرئاسي والنيابي التي كانت فاتحةً لمعنى التداول السلمي على السلطة، في كنف احترام القانون ثم انتخابات 2018 التي مهدت لبداية الحكم المحلي في صيغته التعدّدية والاختيار الشعبي المباشر للمجالس البلدية. وتأتي انتخابات 2019 لتعزّز معنى الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع من دون وصايةٍ من حزب حاكم أو قوة عسكرية أو أجهزة أمنية على الإرادة الشعبية التي تحتكر فعليا حق اختيار ممثليها في البرلمان، ومنح الثقة لرئيس جديد للجمهورية فترة محدّدة، تضبطها المبادئ الدستورية. 
تبدو التجربة الانتخابية التونسية غريبة عن محيطها الإقليمي والعربي الإسلامي عموما، فهذا البلد الذي يعاني، كغيره من البلدان العربية، من أزمات اقتصادية واجتماعية، وما زالت بقايا سنوات التهميش السلطوي تلاحق مناطق واسعة فيه، بسبب التفاوت الجهوي واضطراب مخططات التنمية وغياب الرؤى الاستراتيجية للنهوض الاقتصادي، يخوض تجربته الديمقراطية بكل شجاعة، على الرغم من المحاذير التي تحيطها، فمبرّرات كثيرة تعتمدها أنظمة استبدادية لقمع شعوبها لم يعد لها معنى، وأثبتت تونس أن الخطابات السلطوية الاستبدادية متهافتة، ولا تصمد أمام التجربة، فالوضع الأمني ومكافحة الإرهاب لا يمنحان الحاكم صكّا على بياض من أجل الاستمرار في الكرسي، بل الحل الأمني في ذاته هو وصفة لمزيد تعفن الأوضاع وتردّيها خلافا للخيار الشعبي الذي يجعل من التصدّي للعنف والإرهاب جهدا وطنيا، بما يعزل الظاهرة ويضيق مجال حضورها في أضيق نطاق، حيث لم تعد جماعات الإرهاب تجد حاضنةً تتغذّى منها، وتقتات على مآسيها بما يمكّنها من استقطاب مزيد العناصر، وهو ما يلاحظ في التقهقر التدريجي لعمليات الإرهاب في تونس، عند مقارنة بين ما سببته عمليات هذه الجماعات سابقا وحاليا.
أما الوضع الاقتصادي، على الرغم من الصعوبات التي تعانيها البلد، وعلى الرغم من أنها تشكل مدخلا أساسيا لدى أنظمةٍ كثيرة لتبرير تسلطها، بدعوى أولوية لقمة العيش على الحق في التعبير والانتخاب، فإن التجارب التي تعيشها دول عربية تصطلي بنيران أنظمة عسكرية مغلقة. وفي الوقت نفسه، تعيش تردّيا اقتصاديا واجتماعيا كارثيا، جعل فكرة الحنين إلى زمن الاستبداد عبثيةً في الشارع التونسي، وأقل مما كانت عليه في السنوات الأولى للثورة، ذلك أن خيار الفقر مع الاستبداد ليس جذّابا إلى الحد الذي يجعل المواطن التونسي يتمناه، وهو الذي يدرك اليوم أن حقه في التعبير والتفكير والاختيار يمنحه فرصةً لتجربة نماذج مختلفة للحكم وإدارة الشأن العام، وأن التنافس السياسي والحزبي سيُحدث ديناميكية مجتمعية لإيجاد حلولٍ للأزمات والخروج منها.
غير أن هذا لا ينفي وجود مخاطر ومحاذير تتهدّد التجربة الديمقراطية الناشئة في تونس أولا 
لوجود قوى إقليمية ودول عربية تستثمر في الفوضى، وترغب في إطاحة التحول السياسي، عبر تمويل جهات معينة، ودفعها إلى محاولة تدمير النظام السياسي، والدعوة إلى الانقسام المجتمعي والاحتراب الأهلي. وما تجارب دعم الانقلاب المصري، وتمويل تمرّد خليفة حفتر في ليبيا بعيدة. ومن ناحية أخرى، فإن إمكانية استغلال مجال الحريات الواسع، واستخدام وسائل الإعلام الخاصة للتأثير في الرأي العام لفتح الطريق أمام صعود خطابات شعبوية مخادعة، وخالية من البرامج والمقترحات الفعلية، والتلاعب بمشاعر الرأي العام، بما يشكل مدخلا لإعاقة النضج السياسي الضروري لنجاح أي تحول ديمقراطي. وعلى الرغم من كل هذه المحاذير، تظل التجربة التونسية خارج السياق العربي العام، بما تحيل إليه من إمكانات، وما تمنحه من خيارات، ويكفيها تألقا أن الشعب هو صاحب القرار، وأن لا أحد في وسعه الجزم باسم الفائز في الانتخابات، قبل أن تبوح الصناديق بأسرارها.
وفي النهاية، تنطوي الديمقراطية، بطبيعتها، على إمكانية إساءة استعمال ما تتيحه من حقوق وحرّيات. ومن يحاول "علاج" الديمقراطية من هذا الخطر يقتل الديمقراطية ذاتها بهذا العلاج. ينبغي أن تقبل الحرية كما هي، بجميع مخاطرها، لا مجال هنا للاختيار.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.