تعرض الصالات الفرنسية، حالياً، فيلم "أفيريم!" للمخرج الروماني رادو جود، الذي حاز مؤخّراً على جائزة "الدب الفضي" للإخراج في "مهرجان برلين السينمائي"، كما رُشّح لجوائز عديدة أخرى.
لدينا هنا عمل جريء، متقَن ومتعدّد الأوجه، يسلّط الضوء على ماضي الغجر كعبيد في رومانيا ثلاثينيات القرن التاسع عشر، التي كانت تحمل اسم فالاشيا أو الأرض الرومانية.
من جهة، يمكن اعتباره فيلماً تاريخياً يراعي المعايير الوثائقية؛ فالسيناريو والكادر والأحداث كلّها مستوحاة من الأرشفة التاريخية للحقبة المعنية، ومن جهة أخرى، لدينا عمل بالأسود والأبيض يضرب جذوره في تاريخ السينما ويتلاعب بعدد كبير من الأنماط والأطر السينمائية الكلاسيكية.
قنستندان هو دركي يجوب الجبل على صهوة الجواد مع ابنه لونيتا بحثاً عن "غراب" (الغربان هو الإسم الذي كان يطلقه الرومانيون على العبيد الغجر بسبب لون جلدهم) فارّ ومتّهم بأنه أغوى زوجة سيّده الإقطاعي، وهي رحلة تلقينية لا يوفّر فيها الأب فرصة لوعظ ابنه وإنارته بحكمه التي تشهد على العقلية القروسطية السائدة.
إن كان السيناريو كوميديا سوداء تلامس السريالية بالنسبة للمشاهد المعاصر، فهو كان ليبدو اعتيادياً ومبتذلاً بالنسبة لروماني من تلك الحقبة. لدينا هنا كادر "وسترن" كلاسيكي (الشريف ومساعده قليل الخبرة في مغامرة تلقينية) مع خلفية قروسطية تحيل إلى الكادر المسرحي الأعتق الذي يستلهمه هذا الأخير (دون كيشوت مع مساعده سانشو).
في مواضع عدّة، تبدو الحبكة التاريخية الواقعية كما لو كانت تحاكي على نحو ساخر (بارودي) المعالجة الهوليوودية للتراث التوراتي. قصة العبد الغجري الذي يُعاقَب بعد أن أوقعت به امرأة سيّده يمكن قراءتها بوصفها محاكاة ساخرة لحكاية يوسف مع فرعون، وحين يبحث قنستندان وابنه عن "العبد" الهارب لدى "العبيد" الغجر المخيّمين على ضفاف النهر ويستجوبهم بعنف للإفصاح عن مكانه، لا يسع المرء إلا أن يتذكّر جنود الفرعون وهم يبحثون عن موسى في الكلاسيكيات الهوليوودية.
وثمّة إشارات أخرى في هذا المنحى، كما حين يروي الكاهن الأرثوذوكسي لقنستندان الأسطورة القروسطية التي تقول إن الغجر أتوا من مصر حيث كانوا عبيداً. يتجنّب المخرج المقاربة التبسيطية والبرّانية، هو يعالج العقلية القروسطية من الداخل ويعطي الكلام لقنستندان والكهنة كي يذهبوا بمنطقهم إلى آخره ويبرّروا "واجب" تأديب الزوجة واستعباد الغجر وشيطنة اليهود بمقاطع من التوراة والإنجيل، إلى جانب الأمثلة الشعبية والمعتقدات المتوارثة.
لا عجب أن النقّاد الفرنسيين، ورغم ترحيبهم بالفيلم، بدوا ميالين إلى تجاهل القضية التي يطرحها أو حصرها بسياقها الروماني، فالغجر مسألة محرجة إلى أقسى حد بالنسبة للأوروبيين، وللفرنسيين خصوصاً.
الكثيرون يجهلون أن النازيين وحلفاءهم الفاشيين لم يفرّقوا بين الغجر واليهود في المعاملة، وتتساوى نسبة من أرسلوا إلى معتقلات الإبادة بين الفئتين. وهو جهل له ما يبرّره، ففي حين سنّت فرنسا قوانين تجرّم التشكيك بمحرقة اليهود واعترفت بمسؤولية نظام فيشي فيها وخصّصت للموضوع حصة كبيرة من المناهج المدرسية، لم تعترف يوماً بواقعة تعرّض الغجر للإبادة خلال الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن مشاركة نظام فيشي فيها.
أكثر من ذلك، بعد تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني، أبقت الحكومة الانتقالية الغجر لسنتين في المعتقلات التي كانت حكومة فيشي حجزتهم فيها بنيّة إرسالهم إلى مخيّمات الإبادة. وفي ألمانيا كذلك، استمرّت السياسات القمعية والقوانين المجحفة حيالهم لفترة طويلة بعد الحرب العالمية الثانية.
وإن كانت الحكومة الألمانية اعترفت أخيراً بمحرقتهم سنة 1982، فهم لا زالوا إلى اليوم كبش المحرقة الأمثل للساسة الأوروبيين الذين لا يتورّعون عن التحريض عليهم عند كل استحقاق انتخابي. هذا عدا عن التجاوزات والممارسات العنصرية الروتينية بحقهم.
وفي السياق الفرنسي، لا يقتصر الأمر على اليمين الذي قامت حكومته سنة 2010 بالترحيل القسري والجماعي لـ 9000 غجري أوروبي بالاستناد فقط إلى أصولهم العرقية، ضاربةً عرض الحائط بالقوانين الأوروبية.
فالحكومة الاشتراكية استأنفت السياسة الساركوزية حيال الغجر، ولم يجد مانويل فالس، حين كان وزيراً للداخلية على أبواب الانتخابات البلدية سنة 2013، ضرراً في التحريض عليهم والتصريح بأن اندماجهم في المجتمع الفرنسي مستحيل "لأن نمط حياتهم مختلف جذرياً" عن نمط حياة الفرنسيين، و"الحل الوحيد هو بإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية".
وفي العام نفسه، لم يجد جيل بورودوليكس النائب عن يمين الوسط حرجاً في التصريح، خلال مشادّاة معهم، بأن "هتلر ربما لم يقتل منكم ما يكفي".
أما عن بلدان الغجر الأصلية التي يلومهم فالس على مغادرتها، فيمكن أن نقع على شيء من صورتها في فيلم "الهواء فقط" الذي حاز على جائزة "الدب الفضي" في "مهرجان برلين السينمائي" 2012، إذ يسلّط المخرج الهنغاري بنس فليغوف الضوء على المجازر الممنهجة التي يتعرّض لها الغجر في هنغاريا بتواطؤ السلطات.
في كتابه "كيف كففت عن الكون يهودياً؟"، يروي المؤرخ الإسرائيلي الفرنسي شلومو ساند كيف أنه، وفي غضون ندوة عن المحرقة في باريس، احتجّ المدعوّون الإسرائيليون بعنف على مشاركة محاضِرة غجرية، في حادثة تعبّر وفقاً له عن الرغبة الإسرائيلية في احتكار المحرقة، وهي رغبة من الواضح جليّاً أن الأوروبيين يشاركونهم فيها.
لا شيء يعبّر عن هذا المنحى أكثر من غياب الغجر في مئات الأفلام الهوليوودية والأوروبية التي عالجت موضوع المحرقة، فقد كان علينا أن ننتظر سنة 2010 لنشاهد الفيلم الأول عن محرقة الغجر، "حرية" من إخراج توني غاتليف ذي الأصول الغجرية. باختصار، جود المشاغب يعرف أين يضع رجله، فالغجر هم فضيحة الادعاءات الأخلاقية الأوروبية بامتياز.
وبهذا المعنى، فهو فيلم صاحب قضية يسلّط الضوء على الطابع الانتقائي للذاكرة الأوروبية، فماضي الغجر في أوروبا الشرقية هو بوضوح أكثر بأساً وشقاءً من ماضي قومية الييديش اليهودية، وتتساوى نسبة من أُرسلوا إلى المحرقة بين الفئتين، مع مفارقة أن وضع الأوائل في أوروبا لا يختلف اليوم كثيراً عمّا كان عليه قبيل المحرقة.
ومن وجهة نظر عربية، من شأن مصير الغجر أن يبيّن لنا عبث الخطاب الذي يريد إرجاع السياسة الأوروبية والغربية الداعمة لإسرائيل إلى الضمير الأوروبي المعذّب والرغبة بالتكفير عن المحرقة، فهذه الاعتبارات لا قيمة لها بمعزل عن الدعاية السياسية وانعكاساتها الثقافية.