08 نوفمبر 2024
انهزمنا في أنفسنا
ذات يوم قديم، دعيتُ، مع مجموعةٍ من الأصدقاء، إلى زيارة منزل عائلة صديق في قرية تابعة لمحافظة السويداء في سورية. كنا مجموعة مختلفة المذاهب، وكان من المقرّر أن نعود مساء إلى دمشق، غير أن سببا ما جعلنا نتأخر، فاضطررنا للبقاء، لنعود صباح اليوم الثاني، بصحبة صديقنا صاحب الدعوة. في الطريق أخذ يخبرنا ضاحكا عن خالته التي بقيت ساهرة طوال الليل، إذ عرفت أن بعض من في ضيافتهم سنة وعلويون، وقد يستيقظون ليلا كي يمارسوا طقسا معتادين عليه، البحث عن نساءٍ غافلات لمص دمهن، على طريقة مصّاصي الدماء، فخافت أن يحدث هذا فعلا وبقيت مستيقظة!
في المقابل، كانت تروج لدى باقي الطوائف في سورية أحاديث وقصص عن الذيل الذي ينبت للدروز، أهل جبل العرب، حيث يتحوّلون ليلا كائناتٍ نصف بشرية ونصف ذئبية. قالها لي يوما، بوصفها حقيقةً مؤكدةً، رجلٌ كبير في السن من قريةٍ (علوية) قريبةٍ من قريتي. ثم سمعتها أول قدومي إلى مصر، عن العلويين، من سائق تاكسي سألني عن الوضع في سورية، وكان يشتم بشار الأسد وطائفته كلها، وذكر لي قصة الذيل لدى العلويين. وحين سألته من أين معلومته، قال إنه سمعها من سوريين في مصر.
ليس بعيدا عن هذا أيضا ما كانت تتداوله الأقليات عن الأكثرية السنية، أنهم لا يحرّمون محرّما في العلاقة الجنسية، لا أختا ولا ابنة ولا كنّة، وعن المثلية المنتشرة لديهم. بينما تتداول باقي الطوائف الإسلامية عن المسيحين أن مظهرهم الخارجي جميل وأنيق، لكنهم لا يستحمّون، ويغطّون روائح عفن أجسادهم بالعطور، ولهذا يجب الحذر من النوم لديهم، لأن أسرّتهم حتما بالغة القذارة. عدا عن أن ولاء المسيحي للغرب وليس للوطن، وأنه خائن بطبعه، ويمكن أن يبيع بلاده بأي سعر.
أما ما كان يُروى عن الأكراد السوريين فشأن آخر، بدءا من العلاقات الجنسية المفتوحة، وليس انتهاء بمشروعهم لتدمير سورية، يهدف إلى إسقاطها واحتلالها، لتصبح كلها دولة الأكراد الموعودة، ولهذا كانت غالبية المجتمع السوري (العربي) غير معنيةٍ بالظلم الذي طاول الأكراد، فهؤلاء خونة، تُستثنى منهم العائلات الكردية القديمة التي سكنت حواضر المدن الكبرى، وتداخلت مع مشاريع النظام السياسي والاقتصادي في سورية.
تلك الأساطير التي كان يتداولها السوريون في مجالسهم الخاصة، وفي نمائمهم الاجتماعية، كان واضحا أن هناك يدا تشد الغطاء عليها، وترفعه في أوقات محدّدة. كان على المجتمع السوري أن يبقى وسط هذه المرويات التي تحفر داخله ببطء شديد، ولكن بدرايةٍ عاليةٍ تعرف كيف تصل إلى العمق الذي يظهر جليا في الأزمات الكبرى، وهو ما تفعله النظم الاستبدادية في مجتمعاتها، تشتغل على الاختلافات الموجودة، لتجذِّرها أكثر، بحيث يبقى المجتمع مشدودا إلى الخلف، ومسحوبا من مروياتٍ وسير تعزّز الهويات الضيقة والصغيرة، ضد المواطنة التي لها حقوق كاملة، بقدر ما عليها من واجبات.
لهذا لم يكن مستغربا أن تعود تلك المرويات السورية إلى الظهور، إثر قيام الثورة، واشتغال نظام الاستبداد والقتل على وأدها. كان يجب أن تخرج تلك الأساطير إلى النور، بعد أن ظلت طويلا حبيسة الجدران المغلقة. سوف يساعد خروجُها إلى النور وتداولها علنا على تجذير الانقسام في المجتمع السوري، ويساعد في الاصطفافات أكثر، فكيف سأقبل أن يقول عني شريك الوطن أنني أنتمي إلى عالم خرافي، وفيّ من الصفات الشريرة ما ينفر مني الجميع؟!
اشتغلت أذرع النظام، ولجانه الإلكترونية، على استعادة تلك المرويات بدأبٍ واضح، وتلقفتها العامة التي أعماها خوف التغيير، أو التي أعماها الإجرام الذي قوبلت به مطالبُها بالمواطنة، في وقتٍ كان فيه معارضو النظام من الإسلاميين يرافقونه خطوةً خطوةً في طريق تجذير انقسام المجتمع السوري. خرجت تلك المرويات، وأصبحت مثار حديثٍ على صفحات التواصل الاجتماعي، يتبادلها العامّة وأنصاف المثقفين. ولكن ما كان مثيرا للاستغراب دخول مثقفين علمانيين ومتنورين، من كل مذاهب سورية، بهذا، وحديثهم عن هذه المرويات بوصفها حقائق، وتقييم طوائف أو قوميات بأكملها بناء عليها، ناسفين تواريخهم الشخصية المبنية على ادعاء الفكر والتنوير والعلمانية. هل ثمّة هزيمةٌ يمكن أن تحصل لبلدٍ مثل سورية أكثر من أن تسقط نخبها الفكرية العلمانية هذا السقوط المريع، ويتحوّل خطابُها من خطابٍ فكريٍّ إلى خطاب شعبوي وشوارعي إلى هذا الحد؟ هزيمتنا الأولى هنا، في أنفسنا أولا قبل أن تكون هزيمة بلدٍ.
في المقابل، كانت تروج لدى باقي الطوائف في سورية أحاديث وقصص عن الذيل الذي ينبت للدروز، أهل جبل العرب، حيث يتحوّلون ليلا كائناتٍ نصف بشرية ونصف ذئبية. قالها لي يوما، بوصفها حقيقةً مؤكدةً، رجلٌ كبير في السن من قريةٍ (علوية) قريبةٍ من قريتي. ثم سمعتها أول قدومي إلى مصر، عن العلويين، من سائق تاكسي سألني عن الوضع في سورية، وكان يشتم بشار الأسد وطائفته كلها، وذكر لي قصة الذيل لدى العلويين. وحين سألته من أين معلومته، قال إنه سمعها من سوريين في مصر.
ليس بعيدا عن هذا أيضا ما كانت تتداوله الأقليات عن الأكثرية السنية، أنهم لا يحرّمون محرّما في العلاقة الجنسية، لا أختا ولا ابنة ولا كنّة، وعن المثلية المنتشرة لديهم. بينما تتداول باقي الطوائف الإسلامية عن المسيحين أن مظهرهم الخارجي جميل وأنيق، لكنهم لا يستحمّون، ويغطّون روائح عفن أجسادهم بالعطور، ولهذا يجب الحذر من النوم لديهم، لأن أسرّتهم حتما بالغة القذارة. عدا عن أن ولاء المسيحي للغرب وليس للوطن، وأنه خائن بطبعه، ويمكن أن يبيع بلاده بأي سعر.
أما ما كان يُروى عن الأكراد السوريين فشأن آخر، بدءا من العلاقات الجنسية المفتوحة، وليس انتهاء بمشروعهم لتدمير سورية، يهدف إلى إسقاطها واحتلالها، لتصبح كلها دولة الأكراد الموعودة، ولهذا كانت غالبية المجتمع السوري (العربي) غير معنيةٍ بالظلم الذي طاول الأكراد، فهؤلاء خونة، تُستثنى منهم العائلات الكردية القديمة التي سكنت حواضر المدن الكبرى، وتداخلت مع مشاريع النظام السياسي والاقتصادي في سورية.
تلك الأساطير التي كان يتداولها السوريون في مجالسهم الخاصة، وفي نمائمهم الاجتماعية، كان واضحا أن هناك يدا تشد الغطاء عليها، وترفعه في أوقات محدّدة. كان على المجتمع السوري أن يبقى وسط هذه المرويات التي تحفر داخله ببطء شديد، ولكن بدرايةٍ عاليةٍ تعرف كيف تصل إلى العمق الذي يظهر جليا في الأزمات الكبرى، وهو ما تفعله النظم الاستبدادية في مجتمعاتها، تشتغل على الاختلافات الموجودة، لتجذِّرها أكثر، بحيث يبقى المجتمع مشدودا إلى الخلف، ومسحوبا من مروياتٍ وسير تعزّز الهويات الضيقة والصغيرة، ضد المواطنة التي لها حقوق كاملة، بقدر ما عليها من واجبات.
لهذا لم يكن مستغربا أن تعود تلك المرويات السورية إلى الظهور، إثر قيام الثورة، واشتغال نظام الاستبداد والقتل على وأدها. كان يجب أن تخرج تلك الأساطير إلى النور، بعد أن ظلت طويلا حبيسة الجدران المغلقة. سوف يساعد خروجُها إلى النور وتداولها علنا على تجذير الانقسام في المجتمع السوري، ويساعد في الاصطفافات أكثر، فكيف سأقبل أن يقول عني شريك الوطن أنني أنتمي إلى عالم خرافي، وفيّ من الصفات الشريرة ما ينفر مني الجميع؟!
اشتغلت أذرع النظام، ولجانه الإلكترونية، على استعادة تلك المرويات بدأبٍ واضح، وتلقفتها العامة التي أعماها خوف التغيير، أو التي أعماها الإجرام الذي قوبلت به مطالبُها بالمواطنة، في وقتٍ كان فيه معارضو النظام من الإسلاميين يرافقونه خطوةً خطوةً في طريق تجذير انقسام المجتمع السوري. خرجت تلك المرويات، وأصبحت مثار حديثٍ على صفحات التواصل الاجتماعي، يتبادلها العامّة وأنصاف المثقفين. ولكن ما كان مثيرا للاستغراب دخول مثقفين علمانيين ومتنورين، من كل مذاهب سورية، بهذا، وحديثهم عن هذه المرويات بوصفها حقائق، وتقييم طوائف أو قوميات بأكملها بناء عليها، ناسفين تواريخهم الشخصية المبنية على ادعاء الفكر والتنوير والعلمانية. هل ثمّة هزيمةٌ يمكن أن تحصل لبلدٍ مثل سورية أكثر من أن تسقط نخبها الفكرية العلمانية هذا السقوط المريع، ويتحوّل خطابُها من خطابٍ فكريٍّ إلى خطاب شعبوي وشوارعي إلى هذا الحد؟ هزيمتنا الأولى هنا، في أنفسنا أولا قبل أن تكون هزيمة بلدٍ.