شعر الصحافي الروسي، تيموفيه يرماكوف (29 عاما)، بارتفاع درجة حرارته وتدهور حالته الصحية أثناء سفره على متن قطار بين مدينتي موسكو ويكاتيرينبورغ مطلع مايو/أيار الماضي، وعقب إجراء مسحة له، تأكدت إصابته بفيروس "كوفيد-19" بعد عودته إلى العاصمة الروسية التي تعد بؤرة انتشار الوباء في البلاد باستحواذها على أكثر من 40 في المائة من إجمالي الإصابات التي وصلت إلى 476 ألفا في جميع الأقاليم الروسية بحلول 8 يونيو/حزيران.
ويروي يرماكوف تجربته مع الفيروس التاجي، قائلا لـ"العربي الجديد": "ارتفعت حرارتي إلى أكثر من 38 درجة، عند وصولي إلى يكاتيرينبورغ في مهمة عمل، خضعت لاختبار كورونا أظهر نتيجة موجبة أولا، ثم أعيد الاتصال بي لنفي الإصابة. لكن بعد عودتي إلى موسكو، خضعت لاختبار مرة أخرى وكشف بواسطة الأشعة المقطعية، فتأكدت إصابتي بكورونا من دون حدوث تلف في الرئة لحسن الحظ".
ويستغرب الصحافي الروسي من إصابته بكورونا كونه لم يسافر إلى الخارج منذ عام ونصف العام ولم يلتق مع المصابين، دون أن يستبعد احتمال إصابته في مترو أنفاق موسكو الذي شهد تكدسا كبيرا في الأيام الأولى لفرض نظام التصاريح الرقمية للتنقل بين أحياء المدينة منتصف إبريل/نيسان الماضي بسبب مراجعة تصريح كل راكب.
بيئة خصبة لانتشار الفيروس
اعتبر الأستاذة بالأكاديمية الروسية للاقتصاد الوطني والخدمة العامة، تاتيانا ميخايلوفا، أن موسكو البالغ عدد سكانها نحو 13 مليون نسمة وتضم أربعة مطارات دولية كبرى، تشكل تربة خصبة لانتشار الفيروسات، مما ساهم في ارتفاع إجمالي عدد المصابين فيها إلى أكثر من 185 ألفا، متفوقة بفارق هائل على مقاطعة موسكو التي تضم ضواحي العاصمة (40 ألفا) والعاصمة الشمالية سانت بطرسبورغ نحو 17 ألفا حتى 2 يونيو.
وتقول ميخايلوفا في حديث لـ"العربي الجديد": "موسكو مدينة كبرى ومركز للنقل. كما أن سكان موسكو أرقى من سكان الأقاليم الأخرى، وهم الأكثر سفرا إلى الخارج وذهابا إلى المتاجر والحفلات وغيرها من الفعاليات الجماهيرية".
وحول إسهام وسائل النقل العام في انتشار الفيروس، تضيف: "تنقل منظومة المواصلات في العاصمة ملايين الركاب يوميا. تسلل الفيروس أولا إلى موسكو تحديدا، ووجد هنا أفضل الظروف لانتشاره، وهو نفس النموذج لتمدد الوباء في المدن العالمية الكبرى الأخرى مثل نيويورك وباريس ولندن ومدريد وهونغ كونغ وسنغافورة وغيرها".
وعبر عدة جولات في مايو/أيار ويونيو/حزيران بالشوارع الرئيسية وسط موسكو، لم يصادف معد التحقيق وجود أي عناصر أمن تعمل على تطبيق إجراءات العزل الذاتي والتأكد من التزام المواطنين به.
وعلى الرغم من إجراءات الحجر الصحي الصارمة السارية منذ 28 مارس/آذار الماضي على جميع سكان المدينة والتحقق من تحركات المصابين بواسطة تطبيق "المراقبة الاجتماعية"، إلا أن مؤشر العزل الذاتي في العاصمة ظل منخفضا نسبيا طوال فترة الوباء، وهو أمر يرجعه مدير عام مركز المعلومات السياسية في موسكو، أليكسي موخين، إلى ميل المجتمع الروسي لعدم الالتزام بالقانون، مستشهدا في تعليقه لـ"العربي الجديد" بمقولة الكاتب الساخر الروسي الكلاسيكي، سالتيكوف شيدرين، الذي عاش في القرن الـ19، إن "صرامة القوانين الروسية تُعوض بعدم ضرورة الالتزام بها".
التلاعب في أعداد المصابين
منذ 12 مايو، بدأت روسيا بالخروج التدريجي من نظام العزل الذاتي حسب الوضع الوبائي في كل إقليم والذي يشهد تحسنا ملحوظا وسط بلوغ مرحلة "الهضبة"، حين يصبح عدد حالات التماثل للشفاء متقاربا مع عدد الإصابات الجديدة، وفق الأرقام الواردة بموقع "ستوب كورونا فيروس" الحكومي الروسي.
ومع ذلك، لا يستبعد مسؤول البحوث بوكالة "داتا إنسايت" الروسية المتخصصة في سوق التجارة الإلكترونية، بوريس أوفتشينيكوف، احتمال تلاعب السلطات المحلية والفيدرالية بأرقام الإصابات بهدف تهيئة الرأي العام لإنهاء الحجر الصحي، مشككا في دقة الأرقام المعلنة.
ويقول أوفتشينيكوف في إفادته لـ"العربي الجديد": "يجب الإدراك أنه ليس هناك إحصاءات دقيقة لعدد المرضى في أي بلد في العالم، ولكن في الحالة الروسية، تثير الأرقام الصادرة على مدى الأسابيع القليلة الماضية شبهات بأن الأرقام يتم إملاؤها بموجب تعليمات غير رسمية".
ويضرب مثلا على ذلك، قائلا: "شهد إقليم كراسنودار الواقع جنوبي روسيا استقرارا غريبا في عدد حالات الإصابة بواقع ما بين 96 و99 حالة جديدة على مدى 12 يوما متتالية، وهناك حالات مشابهة في أقاليم أخرى. ليس من المستبعد أن يكون تقليل العدد المعلن للإصابات لعبة سياسية للتمهيد للخروج من الحجر الصحي. لكن من الوارد أيضا أن تكون روسيا قد بلغت ذروة الإصابات في بداية إبريل الماضي، ومع زيادة عدد الاختبارات، بدأت الإحصاءات الرسمية تقترب من الأرقام الفعلية".
ومن بين حالات مماثلة رصدها معد التحقيق عند الاطلاع على إحصاءات كورونا في روسيا بموقع ستوب فيروس كورونا، مقاطعة تامبوف الواقعة على بعد حوالي 450 كيلومترا جنوب شرقي موسكو، والبالغ عدد الإصابات فيها نحو 2700 حالة من بينها ست وفيات فقط ودون حالة وفاة واحدة بين 30 إبريل الماضي و13 مايو.
وأظهرت حسابات أجرتها صحيفة "نوفايا غازيتا" الليبرالية المعارضة أن ثلثي الأقاليم الروسية بدأت برفع القيود المفروضة خلافا لتوصيات هيئة حماية المستهلك "روس بوتريب نادزور" فيما يتعلق بمعدل انتقال العدوى المطلوب لكل مرحلة من تخفيف الإجراءات.
وأرجعت الصحيفة استعجال السلطات المحلية في إنهاء العزل الذاتي إلى تردي الأوضاع الاقتصادية وتزايد عجز الموازنات المحلية بعد أن أدت جائحة كورونا إلى ارتفاع الإنفاق بنسبة أكثر من 10 في المائة.
ويقدر كبير الاقتصاديين بوكالة "إكسبرت را" للتصنيف، أنطون تاباخ، بأن خسائر الاقتصاد الروسي جراء تعليق العديد من الأنشطة الاقتصادية أثناء فترة الحجر الصحي تتراوح بين 4% و4.5% من الناتج المحلي الإجمالي (60 مليار دولار قياسا بأرقام عام 2019 الصادرة عن البنك الدولي)، قائلا لـ"العربي الجديد": "سيتم تعويض هذه الخسائر جزئيا في النصف الثاني من العام، ولكن الخسائر الناجمة عن إجراءات الحجر الصحي في الربع الثاني ستكون لها حصة الأسد من تراجع الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020".
التستر على الوفيات
في الوقت الذي تظهر فيه الأرقام الواردة بموقع جامعة "جونز هوبكنز" الأميركية أن روسيا تتميز بأدنى عدد الوفيات جراء الفيروس التاجي بين الدول متصدرة القائمة من حيث عدد الإصابات، وأن نسبة الضحايا بين إجمالي المرضى الروس تبلغ نحو 1.2 في المائة فقط، تظهر الأرقام الصادرة عن إدارة الأحوال المدنية في موسكو ارتفاعا نسبته 19 في المائة في إجمالي عدد الوفيات المسجلة في إبريل/نيسان الماضي مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي.
وبحسب تقديرات "نوفايا غازيتا"، فإن عدد الوفيات جراء كورونا قد يفوق الأرقام المعلنة بمقدار نحو ثلاثة أضعاف، وهو وضع يعلق عليه أوفتشينيكوف قائلا: "يختلف عدد الوفيات المعلن عن العدد الفعلي، وحتى المسؤولون أنفسهم يعترفون بأنه لا يتم احتساب إلا تلك الحالات التي كان كورونا سببا مباشرا للوفاة. وفي مدينة سانت بطرسبورغ، مثلا، هناك تزايد في الوفيات جراء الالتهاب الرئوي بمقدار ما بين 300 و500 حالة إضافية وهناك انطباع بأن عددا من الأقاليم يحظر فيها فعليا تسجيل كورونا كسبب الوفاة، وقد يمر فيها أسبوع أو اثنان دون تغيير إجمالي عدد الوفيات".
وتقر ميخايلوفا هي الأخرى بأن الزيادة الأخيرة في عدد الوفيات ناتجة عن جائحة كورونا سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، مضيفة: "توفي هؤلاء الأشخاص إما جراء الإصابة بفيروس كورونا أو الضغط المفرط على المؤسسات العلاجية، إذ لم يشهد إبريل 2020 أي ظروف جوية طارئة أو كوارث طبيعية أو أي أوبئة أخرى".
ويشير موخين أيضا إلى أن المنظومة الطبية الروسية التي خضعت لترشيد النفقات في السنوات الأخيرة لم تكن مهيأة للجائحة، مما اضطر الدولة لاستثمار موارد هائلة في مواجهة كورونا، وسط تراجع بالغ الخطورة لمكافحة الأمراض المزمنة والأورام على سلم الأولويات.
عدم جاهزية المنظومة الطبية
تراجع عدد المستشفيات في روسيا من 10.7 آلاف مشفى في عام 2000 إلى 5.4 آلاف مشفى في عام 2015 قابلة للتراجع إلى 3 آلاف فقط في حال استمرار إغلاقها بنفس الوتيرة بواقع نحو 350 مستشفى سنويا، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر إحصاء مركز الإصلاحات الاقتصادية والسياسية للبحوث، (منصة برنامج الإصلاحات الضرورية لروسيا)، ويعتبر رئيس منظمة "تحالف حماية الأطباء"، سيميون غالبيرين، أن ترشيد نفقات المنظومة الصحية الروسية جعلها غير جاهزة لمواجهة كورونا، مقللا من فاعلية الإجراءات المتخذة التي قد تأتي بنتائج عكسية في بعض الحالات.
ويقول غالبيرين لـ"العربي الجديد": "خلال السنوات الماضية، خضعت المنظومة الطبية الروسية لترشيد النفقات الذي أدى إلى إغلاق نحو نصف المستشفيات في موسكو وحدها، كما تم تقليص عدد الموظفين الطبيين في الأقسام التي لا تحظى بإقبال في الأوقات العادية مثل أقسام الأمراض المعدية، وتعليق تدريبات الدفاع المدني للحالات الطارئة".