بؤس ورفاهية

04 يونيو 2018
+ الخط -
يُفاجأ من يتابع الفضائيات المصرية في شهر رمضان بكمّ هائل من الإعلانات والمواد الدعائية، حتى أن المواد الدرامية، على كثرتها، تكاد تضل طريقها إلى عيني المشاهد وعقله، وسط فيضان الإعلانات التجارية والفواصل الدعائية، إلى حد أن المشاهد يعاني من المسلسلات التي تقفز إلى الشاشة بين الإعلانات، فتفسد عليه متابعتها!.
بدأت ظاهرة كثرة الإعلانات في شهر رمضان منذ سنوات طويلة، مع زيادة نسب المشاهدة للأعمال التلفزيونية الرمضانية. لكن الأعوام الأخيرة شهدت تحولاً في محتوى الإعلانات والمواد الدعائية المصاحبة للشهر الكريم وأسلوبها. من حزمة إعلانية واحدة تركز على الإعلانات التجارية، خصوصاً للسلع الغذائية والأجهزة الكهربائية، إلى منظومة إعلانية مزدوجة، تشمل حزمة تجارية، قوامها الترويج العقاري، وحزمة تعبوية جوهرها الحث على أعمال الخير، خصوصاً التبرع للمشافي ومشروعات المرافق الأساسية في المناطق الفقيرة.
شهد رمضان العام الحالي زيادة غير مسبوقة، كماً ونوعاً، في الدعاية للتبرع، وأيضاً في الإعلان عن المشروعات العقارية. ويمكن بسهولة ملاحظة اتساع نطاق دعاية المؤسسات الخيرية، خصوصاً العلاجية، لتشمل التبرع بناء مستشفياتٍ تكاد تغطي كل التخصصات الطبية (الأورام الخبيثة/ القلب/ الحروق/ الجهاز الهضمي/..). ولافتٌ للغاية وجود أكثر من مشفى أو مركز طبي في التخصص نفسه. مثلاً، تتنافس على تبرعات المشاهدين ثلاث مؤسسات علاجية، متخصصة في الأورام السرطانية، تتبع اثنتان منها جهة واحدة هي جامعة القاهرة!.
المفاجأة التي قد لا يعلمها مشاهدون متبرعون كثيرون أن الإعلانات التعبوية الخاصة بالتبرع إلى المشافي والمؤسسات الخيرية ليست مجانية، بل مدفوعة، فالثانية الواحدة على الشاشة تصل تكلفتها في ساعات الذروة إلى عشرات آلاف من الجنيهات على بعض القنوات. ما يعني أن الحملات الدعائية التي تبثها المؤسسات الخيرية والمراكز الطبية تكلف كل منها مئات الملايين. صحيح أن بعض القنوات الفضائية تسهم في تلك الحملات بخصم نسبة من التكاليف، تتفاوت حسب التكلفة الإجمالية وتوقيتات البث وعوامل أخرى. لكن في كل الأحوال تظل نسبة الخفض أقل من نصف الثمن المقرّر للإعلان.
ولا محل هنا للتساؤل عمّ يدفع جهات خيرية غير ربحية إلى تكبد مبالغ طائلة في مقابل إعلانات ونداءات للتبرع، فالإجابة المنطقية الوحيدة أن مبالغ التبرعات المُتحصلة نتيجة تلك النداءات اللحوحة على مدى شهر في معظم القنوات الفضائية تعوّض بالضرورة المبالغ المُنفقة على الحملات، بل وتزيد بما يكفي تلك المؤسسات للاستمرار في أعمالها، وسداد تكاليف حملات جديدة للتبرع.
الحزمة الثانية من إعلانات رمضان هي المتعلقة بترويج منتجعات ومجمعات سكنية فخمة في أرقى أحياء القاهرة والمدن الجديدة في مصر. وهي تخاطب فئات معينة من المجتمع، تبدأ من الشريحة فوق المتوسطة، وصولاً إلى بدايات الشرائح الدنيا من الطبقة الغنية.
تثير المشاهد المصاحبة لتلك الإعلانات استفزاز الشرائح الأقل من المجتمع، وأصحابها هم الأغلبية بين مشاهدي رمضان، إلا أن عدد المنتجعات المعلن عنها، وكثافة (وتنوع) الإعلانات التي تروجها، تؤكد أن لتلك العقارات مستهلكوها، وأن هذه الإعلانات بالمحتوى والصورة المبالغ فيها تحقق أغراضها التسويقية، وتستوفي الجدوى الاقتصادية منها. بما في ذلك الجزء الأهم في معادلة الإعلانات، وهو العائد المتوقع في مقابل التكلفة الباهظة لحملات الدعاية والتسويق التليفزيوني.
يخطئ من يظن أن المشاهد المُستهدَف بالإعلانات العقارية هو نفسه الذي تخاطبه نداءات التبرع، فأسلوب دغدغة المشاعر واستدرار التعاطف الإنساني مع المرضى وذوي الحاجة قد يجد صدىً عند متوسطي الحال الذين يدركون، بحكم المستوى المعيشي، أهمية التكافل الاجتماعي. لكنه لا يتسق مع العقلية العملية المميزة لمعظم سكان المنتجعات. ومن يتمتع منهم بنزعة العمل الخيري، أو لديه قابلية للتأثر بنداءات التكافل الاجتماعي، غالباً لا ينتظر تلك الاستجداءات التلفزيونية.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.