رحلت المستشرقة والمؤرّخة الأميركية من أصل دنماركي، باتريسيا كرون (1945-2015)، قبل أسابيع وبقيت مؤلّفاتها تثير جدلاً وردود فعل متناقضة. اشتهرت بالبحث في تاريخ الإسلام ونشأته، وتشكّل الفكر السياسي فيه وتطوّره.
ولدت كرون في كندلوس شرقي الدنمارك. وما إن أنهت أولى مراحل دراستها الجامعيّة في كوبنهاغن، حتّى اندفعت إلى تحقيق الهدف الذي غرسه فيها أبوها: تعلّم لغات أخرى. انتقلت إلى باريس ثم لندن لتتعلّم الفرنسية والإنجليزيّة. لكنّ فضولها المعرفي دفعها إلى الاهتمام بتاريخ أوروبا في العصر الوسيط، مع التركيز على مسألة العلاقة بين الكنيسة والسلطة.
لم يكن ممكناً، في خضمّ ذلك السياق المعرفي، تجنّب المرور على الحضارة العربية الإسلامية التي كانت جزءاً من تاريخ أوروبا ومن صراعات ملوكها وأمرائها ورجال كنائسها. مثّل انتسابها إلى "معهد الدراسات الشرقية والإفريقية" في لندن منعرجاً مصيريّاً في حياتها الفكرية والعلمية، هناك شرعت في تعلّم اللغة العربيّة.
أدركت كرون أن التعدّد والانصهار هما العنوان الأبرز للحضارة العربية الإسلامية في القرون الوسطى، فأقبلت على تعلّم الفارسية والسريانية، استعداداً للمغامرة الأكبر؛ مغامرة طرح الأسئلة التي لم يسبق طرحها.
استهلّت أبحاثها في مجال الدراسات الإسلامية في أواسط السبعينيات، بأطروحة تناولت موضوع "الموالي في العصر الأموي"، وأشرف عليها المستشرق برنار لويس.
بدت الأطروحة عادية وغير مثيرة للاهتمام في مجملها، لكنها تضمّنت نقطتين هامتين، أولاهما: أن صاحبتها لم تكتف بتحليل "ظاهر" النصوص ذات الطابع التشريعي أو التأريخي، بل تجاوزتها إلى مستوى أعمق، عمدت فيه إلى المقارنة بين النظريات المجرّدة وواقع الموالي قبل الإسلام وبعده. ثانيتهما، انتباه الباحثة إلى أن النصوص تظلّ، في ظاهرها كما في باطنها، مخاتلة ولا يمكنها أن تنطوي على الحقيقة، بل إنّها تخفي نصيباً من "الباطل" أو "الزيف" الذي على الباحث أن يتفطّن إليه وأن يكشفه. وهذا هو الدرس الأهم الذي ستحفظه كرون وتظل وفية له طيلة مسيرتها الأكاديمية.
لم تنتظر طويلاً، ففي العام 1977، أصدرت بالاشتراك مع مايكل آلان كوك كتاباً أثار ضجّة بعنوان "الهاجرية: تشكّل العالم الإسلامي". كان الكتاب مربكاً للمستشرقين والمسلمين إلى درجة الصدمة، بالرغم من أن المنطلقات التي يتأسّس عليها كانت مألوفة ومستهلكة.
أسّس كرون وكوك كتابهما على المسلّمات التي لا تثير خلافاً أو جدلاً. فقد انطلقا من معلومتين تاريخيّتين بسيطتين، أولاهما أن الإسلام امتداد لليهودية والمسيحية، وثانيتهما انتشاره في أصقاع العالم بسرعة قياسية مقارنة بغيره من الديانات.
لكن الانطلاق من المسلّمات أفضى بالكاتبين إلى طرح سؤال غير مألوف: ما مدى التطابق والاختلاف بين الرواية العربية الإسلامية للأحداث المتعلّقة بنشأة الإسلام وانتشاره، من ناحية، ورواية الشعوب التي دخلت في الدين الجديد، من ناحية أخرى؟
أصرّت كرون على مواصلة طريق الشك الذي رسمته لنفسها ولمنهجها. فأصدرت عدداً من الدراسات والأبحاث، من أبرزها "عبيد على صهوة الجياد" (1980) و"القانون الروماني وقانون المقاطعات والشريعة الإسلامية" (1987) و"تجارة مكّة ونشأة الإسلام" (1987) و"في الحكم الإلهي: السلطة والإسلام" (2004) و"الأنبياء المحليون في إيران إبّان العهد الإسلامي المبكّر" (2012). إضافة إلى إشرافها على إصدار سلسلة من الكتب تحت عنوان "مُـنـشـئـو العالم الإسلامي".
لعلّ الخيط الرفيع الجامع بين تلك المؤلّفات، سعي باتريسيا كرون الدؤوب إلى مراجعة المسلّمات، ووضعها موضع المساءلة، بحثاً عن مسالك أخرى وعن دروب لا عهد لنا بها، حتى وإن كانت "دروباً لا تفضي إلى أيّ مكان" كما يقول هيدغر في أحد عناوين كتبه.