نزلتُ هنا بالريف، قادماً من الشرق، عابراً المحورَ الملحمي بين ضفّتَي هذا البلد (شرق المغرب وشماله الغربي). أنساب مع سيل التاريخ؛ كلُّ حجر هنا يذكرّك بقريبٍ لك، أو بعيد. يحمل الإنسان بين كفّيه؛ غازياً، نازحاً، مستوطناً وأميراً منتظَراً. المَشاهد عبر زجاج السيّارة تستثير فيَّ سؤلاً صغيراً: كيف أكتب عن الريف؟
سؤال من نوعية الأسئلة التي تنفلت من بين يديك كلّما حاولتَ الإمساك بها، الأسئلة التي تفتح ذراعيها لتهافُت المتنطّطين للجواب، ولا جواب، على الأقل، يلوح في أفق قمم الجبال الثلجية.
أقطع وادي ملوية الذي يُذكّرني بحكايات صديق قديم: "أتعلم أن قاع الوادي يحوي عشرات الجثث"؟ لم أكن أعرف قبلها كيف فرّ أهل الريف من المجاعة والفقر، نازحين، في بداية القرن العشرين، نحو الجزائر التي كانت مستعمَرةً حينها، بحثاً عن عمل، أو حتى كيف جرى ابتزازهم على ضفافه. يقول: "كانوا يحملونهم على ظهورهم قاطعين مياه الوادي، وفي منتصف المسافة يقايضهم الحمّال: أرواحهم مقابل أموالهم، ليموت من قال لا أمام أنظار من قالوا نعم".
يغمزني صديقي ممازحاً الوادي/ التاريخ، أو معاتباً إياه؛ أنا ابن قبائل يزناسن التي عاشت حوله. ما زلتُ أحمل وزر أجدادي. هو ابن عابري الوادي/ التاريخ، يحمل مآسيهم. أمازحه باقتباس من "الخبز الحافي": "أنت ريفي، من بلاد الجوع والقتّالة (..) الريفيّون كلّهم مرضى بمرض الجوع!".
تنتهي الحكاية. أستمرُّ في سيري لساعات. أمرُّ بين منعرجات غابات الصنوبر والعرعار المتجمّدة، تقاطيع الأرض المزروعة قنباً هندياً على مرمى حجر. إنها كتامة أو أكبر مصدّر عالمي للحشيش.
كيف أكتب عن الريف؟ أفكّر. إنها كتامة التي يجهل معظم المصريّين أنها مهد مجدهم الفاطمي. أي نعم، هي كتامة التي اكتنفت دعوة العبيديّين، وسلّحتهم لغزو الشرق. تُخالجني خاطرة ساخرة: "لولا كتامة إذن، لما بُنيت القاهرة".
تستمر السيّارة في السير. على جانب الطريق إشارة كُتب عليها "أجدير"، تشير إلى خط السير المعاكس. كيف أزور الريف دون المرور بعاصمة الجمهورية الأسطورية؟
أجدير هي مسقط رأس الأمير عبد الكريم الخطّابي، وعاصمة جمهوريته المرحلية؛ استقلال الريف في أفق استقلال المغرب الكبير.
سيدي محند، كما يُسمَّى بلسان عشيرته، والذي تغنّت بصولاته النسخةُ الأصلية من السلام الوطني اللبناني "بطل الريف"، لا يزال حاضراً بين هذه الربوع، لا يزال منتظراً قيامه من بين صدور الرجال، كالمسيح في يومه الثالث، إمام زمانٍ عجَّل الله فرجه.
ارتقاء الجبل نحو شفشاون يجعلني أعاكس سَير الأندلسيّين الذين بنوا المدينة قبل قرون. شفشاون الإمارة الأندلسية الثكلى، تجهل وجود أخت يهودية لها في الشرق، قرية دبدو المنسية أقصد، مستقر اليهود السفارديم الهاربين من بطش الإسبان بعد انتكاستهم. لهذا الجهل سلطة، في هذا الجهل نسيان.
بوصولي إلى شفشاون، اختفت من مجال سمعي عجمة اللسان الأمازيغي، أيقنتُ أن الريف، جغرافياً، ينتهي عند هذه النقطة، بيد أن السؤال الذي لا زمني على طول الرحلة لم يجد جواباً بعد. كيف أكتب عن الريف؟
أترجّل من السيّارة، فاشلاً في هذه المهمّة.
* كاتب من المغرب