حالة من الخوف تسيطر على الأم التونسية الشابة خولة، بعد انتشار القوارض في مدينتها، تخشي خولة على أطفالها، عض القوارض الضخمة التي شاهدتها في باحة منزلها، بعد انتشارها في جرجيس التابعة لمحافظة مدنين بالجنوب التونسي. "خوفي مبرر، إذ قضمت هذه القوارض جارا لنا، وهو شيخ مسن مقعد داخل منزله"، تقول خولة متابعة "تسرب جرذ إلى فراشه، قضمه في أكثر من موقع بجسده، ترك آثارا وجروحا وندوبا عميقة، ولولا سرعة اكتساف إصابته، من قبل أفراد العائلة لتطورت المسألة نحو الأسوأ".
في جرجيس يتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات مريعة حول ظاهرة انتشار قوارض كبيرة، أشهر هذه الفيديوهات، لقطات مصورة لقدم آدمية في مقبرة بالمنطقة قيل إن الجرذان أخرجتها من إحدى القبور، بعد أن التهمت جثة مدفونة هناك، أثارت هذه المقاطع مطالب بضرورة التدخل العاجل لمقاومة الظاهرة، لكن تبين أن القوارض وعلى انتشارها الواسع في جرجيس، بريئة من العبث بالمقابر، كما يرى رفيق بوزميطة كاتب عام جمعية جرجيس للتنمية، الذي قال لـ"العربي الجديد": "توظيف ظاهرة انتشار الفئران الكبيرة أو الجرذان، في ظهور هذه الساق الآدمية، في إحدى مقابر جرجيس هو حق أريد به باطل، ونشرها أصحابها لغايات مشبوهة" على حد وصفه.
بوزميطة أكد أن حقيقة الحادثة تتمثل في دفن قدم آدمية، تم قطعها في إحدى المصحات بالجهة لمريضة بالسكري، لكن الحفرة التي دفنت فيها لم تكن عميقة، وساهمت رياح قوية هبت بالمنطقة في كشف هذه القدم حديثة الردم، لكن مع براءتها من حادثة القدم الآدمية كانت هذه القوارض سببا في قضم مواطنين آخرين من جرجيس.
تغيير نمط حياة الأهالي
بسبب الحوادث السابقة، تغير نمط عيش أهالي جرجيس، إذ يحاول الأهالي التعايش مع هذه الظاهرة، كما قال عدد ممن تحدث معهم "العربي الجديد"، يؤكد الأهالي أنهم أصبحوا محرومين من السهر في باحة المنزل، بدون إحكام إغلاق الأبواب الخارجية وإحاطة منازلهم، وخاصة حظائر الأغنام وقنان الدجاج بعوازل إسمنتية، تحفر لها أساسات عميقة في الأرض. عائشة الشعافي واحدة من هؤلاء، تقيم الشعافي في ضاحية "السويحل" بجرجيس، تقول لـ"العربي الجديد" إن "استعمال الأدوية الخاصة بالجرذان قضى على القطط التي قد تقتات على الجرذان النافقة، حتى أنه أصبح من النادر مشاهدة هذه الحيوانات تتجول بين الشوارع والأحياء، مثلما جرت عليه العادة في السنوات الماضية".
كذلك نفقت عدة طيور من أبرزها الدجاج، جراء عملية مداواة القوارض، واكتفت بعض العائلات ببناء قنان مغلقة، تحبسها داخلها كامل الوقت حماية لها من آثار الأدوية، عائشة أشارت الى احتياطات متزايدة تتبعها العائلات من نوع عدم ترك الفضلات في أكياس بلاستيكية، والاستعاضة عنها بحاويات معدنية مغلقة بإحكام، وعدم ترك مأكولات أو أمتعة خارج البيت، خاصة في الليل، والحرص على المداواة الدورية لمحيط السور الخارجي للمنزل.
يؤكد رفيق بوزميطة كاتب عام جمعية جرجيس للتنمية أن هذه التدابير وأساليب العيش الجديدة التي فرضها انتشار القوارض على أهالي جرجيس، تؤكد الوضعية الكارثية للظاهرة، مما أثار تخوفات جدية من أن تتحول إلى وباء يهدد سلامة الإنسان والحيوان والطبيعة لما عرف عن القوارض من نقل للأمراض والأوبئة، حيثما حلت.
رئيس البلدية: جرجيس منطقة منكوبة
يذهب رئيس بلدية جرجيس كمال لهيذب إلى حد دعوة الحكومة التونسية إلى إعلان جهة جرجيس منطقة منكوبة، وتخصيص قسم من ميزانية الدولة العامة لمعالجة هذه الظاهرة، وإيجاد حل للانتشار الكارثي للجرذان.
وأرجع لهيذب في تصريحات لـ"العربي الجديد" أصول انتشار الجرذان في جرجيس إلى تسعينيات القرن الماضي، تاريخ افتتاح نشاط الميناء التجاري بالمنطقة الحرة في جرجيس، إذ جلبت البواخر والسفن التجارية المحملة بشتى أنواع البضائع "الأجيال الأولى والآباء المؤسسين من الجرذان، كما يقول لهيذب، متابعا "تكاثرت الجرذان على مر السنين لتصبح ظاهرة تهدد بنشر الأمراض والأوبئة".
لهيذب أوضح أن ظاهرة توريد السيارات القديمة من أوروبا وروسيا نحو ليبيا عبر ميناء جرجيس الموجود داخل فضاء المنطقة الحرة، خلال سنوات الحصار التي عاشتها الجارة ليبيا نهايات القرن الماضي، ساهمت في جلب أعداد كبيرة من هذه القوارض التي كانت تتخذ من هذه السيارات مقرا للإقامة.
ما يؤكد هذا المعطى، أن ظاهرة انتشار الجرذان، بدأت في المنطقة المحيطة بفضاء الميناء والمنطقة الحرة، وتكاثرت هناك قبل أن تتحول إلى مواقع أخرى على بعد نحو 20 كيلومترا حاليا بحثا عن الغذاء.
حل ناجح
عطية العريض الرئيس والمدير العام لفضاء الأنشطة الاقتصادية الحرة بجرجيس، أكد أن مؤسسته تقوم بحملات متواصلة لمداواة كامل مساحة المنطقة الحرة، نجحت الحملات في القضاء على الظاهرة، داخل كامل الفضاء، وعبر عن استعداد فضاء الأنشطة الاقتصادية للمساهمة في أي مبادرة، للمساهمة في القضاء على ظاهرة انتشار القوارض.
العريض أشار إلى أنه بحث هذه المسألة، مؤخرا مع مسؤولين حكوميين في جرجيس وتم اقتراح تنظيم لقاء علمي يجمع كل الأطراف ذات الصلة، لوضع تصور علمي ومنهجي لحماية جرجيس وأحوازها من انتشار الجرذان ومداواتها.
في مسعى للحد من الظاهرة، والقضاء عليها نشطت مكونات المجتمع المدني لتقديم حلول للظاهرة، رفيق بوزميطة ذكر أن جمعيته "جرجيس للتنمية" نفذت خلال الفترة من 2013 إلى 2014 تجربة وصفها بالناجحة مع وكالة التعاون الألمانية، تقوم على مبدأ توزيع أدوية مباشرة على المواطنين، وتوضع في "فخاخ" خشبية خاصة تم تصنيعها في جرجيس، وقد آتت التجربة نتائج جيدة مكنت من القضاء على أعداد كبيرة من هذه القوارض بطريقة ممنهجة، ضمنت حماية الحيوانات الأليفة والعناصر الطبيعية الأخرى من الآثار الجانبية للأدوية والمواد الكيميائية المستعملة للقضاء على الجرذان، لكن التجربة لم تتواصل نظرا لعدم قدرة جمعية جرجيس للتمنية وحدها على مواصلة الحملة، بعد انسحاب الوكالة الألمانية للتعاون نهاية سنة 2013.
ولفت بوزميطة إلى أن بلدية جرجيس لم تتفاعل مع هذه التجربة، ولم تواصلها بعد انسحاب الوكالة الألمانية بسبب إمكاناتها المحدودة لمقاومة الظاهرة، وهو ما أكده كمال لهيذب رئيس بلدية جرجيس لـ"العربي الجديد"، معبرا عن استعداد البلدية لتسخير كل جهدها متى توفرت لها الإمكانيات اللازمة، وتوفرت أيضا المشاريع الجدية والعلمية لمقاومة ظاهرة انتشار الجرذان.
واقترح لهيذب تخصيص ميزانية مستقلة لمكافحة الظاهرة تتدخل فيها كل الأطراف الحكومية والاجتماعية تستأنس بتجارب دول أخرى، تعرضت لهذا الاجتياح من الجرذان المنتشر في كل المدن الكبرى، التي تملك موانئ تجارية، مؤكدا أن البلدية في الوضع الحالي لا يمكنها مقاومة الظاهرة إلا بوسائل بسيطة على غرار الإسراع برفع الفضلات، (المصدر الرئيس للغذاء بالنسبة إلى القوارض)، وتوفير حاويات معدنية ووضع الأدوية في مراكز تجميع النفايات، وهي كلها وسائل غير كافية بالنظر إلى أعدادها الضخمة، وخطورة هذه الأدوية على الحيوانات الأليفة، وخاصة الأغنام وعلى العناصر الطبيعية الأخرى بهذه المنطقة التي يعتمد اقتصادها بشكل كبير على تربية الماشية والفلاحة.