بحلول الذكرى السنوية الثامنة للثورة السورية، يبدو ملف الجرائم التي ارتُكبت في سورية خلال هذه السنوات، مفتوحاً على كل الاحتمالات، اليوم أكثر من أي وقت مضى. ففي حين تقول رئيسة "الآلية الدولية الحيادية والمستقلة" الخاصة بسورية القاضية الفرنسية السابقة كاترين ماركي أويل، إن فريقها جمع نحو مليون وثيقة حول الجرائم المُرتكبة في سورية، فإن مستجدات جديدة سُجلت خلال مارس/آذار الحالي، تتعلق برفع دعاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس النظام بشار الأسد، ومسؤولين في حكومته، ما يُشكل "تطوراً مهماً للضحايا السوريين"، بحسب المحامي رودني ديكسون، الذي يقود أحد فريقين حقوقيين تقدما في الرابع والسابع من مارس الحالي بدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، نيابة عن مهجرين سوريين يقيمون في الأردن حالياً.
يضاف إلى ذلك، المسار القانوني الذي ما زال يسلكه حقوقيون سوريون، بالشراكة مع منظمات حقوقية غربية، لملاحقة مجرمي الحرب في سورية، مُستفيدين من مبدأ "الولاية القضائية العالمية" الذي تعتمده محاكم وطنية في أوروبا. وكانوا نجحوا فعلاً باستصدار مذكرات توقيف بحق مسؤولين بارزين بالنظام السوري، الذي قد يواجه هو وحلفاؤه عقوبات قاسية لمدة 10 سنوات، تُفرض بموجب "قانون قيصر"، الذي لم يُرفع بعد من الكونغرس ليوقعه الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
جرائم سورية تُبحث في لاهاي
وفي الرابع من آذار الحالي، قدم "مركز جيرنيكا للعدالة الدولية"، وهو فريق قانوني مُسجل في بريطانيا والولايات المتحدة، مذكرة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، تنص على أن "الوضع المتعلق بسورية، يشبه الوضع الذي تم النظر فيه بما يخص الجرائم المرتكبة ضد أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار. وعلى الرغم من أن سورية ليست دولة طرفاً في اتفاق روما الأساسي، لكن الأردن كذلك، وبالتالي يجب منح الاختصاص للمحكمة، وإن الخروج عن هذا الحكم يمثل تناقضاً وسيعكس تعاملاً مع الصراع السوري بطريقة مختلفة". وبعد ذلك بثلاثة أيام، قدم فريق محامين بريطانيين، يترأسهم رودني ديكسون، من مركز "Temple Garden Chambers"، الذي يملك مقراً في لندن وآخر في لاهاي، دعوى ضد الأسد أمام المحكمة الجنائية الدولية، نيابة عن 28 سورياً لجأوا إلى الأردن خلال السنوات الماضية، ويقيمون حالياً في مخيمي الزعتري والأزرق. وتطالب الدعوى، وهي الأولى من نوعها ضد شخص رئيس النظام السوري، بـ"فتح تحقيق في الجرائم ضد الإنسانية المتعلقة بالترحيل غير القانوني من سورية"، وتستهدف "الأسد وعدداً من المسؤولين في الحكومة السورية"، وتتضمن جرائم "تعذيب واغتصاب وهجمات كيميائية وحالات اختفاء قسري"، بحسب بيان للمجموعة القانونية التي قدمت الدعوى.
وعلى اعتبار أن سورية ليست طرفاً في نظام روما، المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، فإن الأخيرة لا تملك ولاية قضائية لفتح دعاوى تتعلق بالجرائم في سورية، إلا إنْ وافق مجلس الأمن الدولي، وهو ما يعيقه حق النقض (الفيتو) الروسي. لكنّ الدعويين المرفوعتين أمام "الجنائية الدولية" بشأن سورية، خلال الشهر الحالي، استندتا إلى أن المحكمة، التي مقرها مدينة لاهاي في هولندا، كانت قبلت في سبتمبر/أيلول الماضي، النظر في دعوى جرائم تعرض لها الروهينغا في ميانمار. وعلى الرغم من أن ميانمار ليست من الدول الموقعة على ميثاق روما، إلا أن "الجنائية الدولية" قبلت الدعوى، المتعلقة بجرائم تعرض لها الروهينغا الذين فروا إلى بنغلادش الموقعة على ميثاق روما. وتستند الدعويان إلى المبدأ ذاته، إذ إن سورية ليست طرفاً في ميثاق روما، إلا أن الأردن من الدول الموقعة عليه.
ويوضح الحقوقي السوري، الذي يترأس "تجمع المحامين السوريين الأحرار"، غزوان قرنفل، أن ما قُدم إلى المحكمة الجنائية الدولية، في الرابع والسابع من مارس، "مجرد لائحة دعوى مقرونة بأدلة، وقُدمت لمكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، للتمحيص في هذا الملف، وما إذا كانت للمُدعي العام ولاية قضائية لفتح تحقيق في الدعوى. وفي حال أقر المدعي بولاية للمحكمة الدولية، فإن الأخيرة تنظر في الدعوى"، مشيراً إلى ضرورة أن يكون هناك "موقف إيجابي واضح من الأردن للتعاون مع المحكمة، فالمحكمة لا تستطيع إلزام الأردن". ويضيف قرنفل، لـ"العربي الجديد"، أنه "في حال أقر المدعي العام ولايته القضائية على الدعوى، فإن المحكمة الدولية تقبلها دون الحاجة إلى موافقة مجلس الأمن. وأزعم أن المدعي العام سيكون أمام موقف يُفاضل فيه، هل هذه الحالة مطابقة للحالة التي سبق للمحكمة أن نظرت فيها بدعوى الروهينغا؟، وإلا ستكون مصداقية المحكمة الدولية على المحك، إذا نظرت في الحالة السورية بطريقة مختلفة"، معتبراً أن رفع دعاوى أمام "الجنائية الدولية" بمثابة "خطوة مهمة جداً، ويمكن أن تفتح فجوة حقيقية في جدار الحماية، التي تؤمنها روسيا للنظام السوري".
الولاية القضائية العالمية... و"قيصر"
وعلى اعتبار أن باب المحكمة الجنائية الدولية، بقي موصداً طيلة السنوات الماضية، بشأن الجرائم المُرتكبة في سورية، فقد نشط حقوقيون سوريون في أوروبا، بالشراكة مع منظمات ومراكز قانونية غربية، في فتح باب لملاحقة مجرمي الحرب في سورية، مستثمرين تبنّي محاكم بعض الدول الأوروبية مبدأ "الولاية القضائية العالمية"، الذي يتيح لمحاكم هذه الدول، النظر في جرائم مُحتملة، وإن لم تقع ضمن أراضيها، ولم يكن أحد مواطنيها متأثراً أو مؤثراً بها. ومن أبرز الحقوقيين السوريين، الذين يعملون في هذا الملف، المحامي أنور البني، الذي يُدير "المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية" من ألمانيا. ويُفصّل المحامي السوري، لـ"العربي الجديد"، في مسار هذه الدعاوى المرفوعة حالياً أمام محاكم وطنية في أوروبا، مشيراً إلى أنه "في ألمانيا (وحدها) أربعة ملفات، تستهدف 25 شخصية بارزة بالنظام السوري، منهم رئيس النظام، وكبار ضباط الاستخبارات. وقد صدرت عدة مذكرات توقيف بحق بعضهم من قبل المدعي العام الألماني، وسُربت منها للإعلام (في يونيو/حزيران الماضي) مذكرة توقيف بحق قائد جهاز الاستخبارات الجوية السورية اللواء جميل حسن". وأوضح أن الدعاوى المرفوعة ضد مسؤولين بارزين في النظام، من قبل لاجئين سوريين في ألمانيا، تعرضوا لانتهاكات "تشمل قضايا الجرائم في سجن صيدنايا، ومحكمة الميدان العسكرية، والانتهاكات بالمستشفيات العسكرية، وقضايا أخرى كملف صور قيصر"، وهو مصور سابق في الشرطة العسكرية كشف عن 55 ألف صورة بحوزته، تُبين حالات ما لا يقل عن 11 ألف معتقل، فقدوا حياتهم في مراكز احتجاز أجهزة أمن النظام.
ويوضح البني، لـ"العربي الجديد"، أن المركز القانوني الذي يديره، وبالشراكة مع منظمات سورية وغربية، رفع منذ أشهر دعوى عن لاجئين سوريين في النمسا، و"تستهدف 27 شخصية بفروع أمن عديدة في محافظات حلب وحماة وحمص وغيرها، وقد قبل المدعي العام الدعوى وبدأ التحقيقات فيها، وهو ما ينسحب على دعوى أخرى رُفعت من قبل لاجئين سوريين في السويد بحق 25 شخصية في فروع أمن النظام، يعملون ضمن 15 مركز اعتقال في الأمن العسكري، والاستخبارات الجوية والمستشفيات العسكرية بعدة محافظات سورية، مؤكداً أنه يتم "الإعداد حالياً لملف قضائي مشابه في النرويج، ويستهدف عدة شخصيات أخرى في النظام السوري".
في السياق نفسه تقريباً، كان القضاء الفرنسي، أصدر في أكتوبر/تشرين الأول 2018، مذكرة توقيف بحق ثلاثة ضباط بارزين، من استخبارات النظام الجوية، هم مدير الاستخبارات الجوية جميل حسن، ورئيس مكتب الأمن القومي علي مملوك، ورئيس فرع التحقيق في الاستخبارات الجوية في مطار المزة العسكري عبد السلام محمود، على خلفية دعوى رفعها مواطن سوري في فرنسا، هو عبيدة دباغ، حمل فيها هؤلاء الضباط مسؤولية مقتل أخيه مازن، وابن أخيه باتريك تحت التعذيب، وهما يحملان الجنسية الفرنسية، وكانا توفيا في سجون الاستخبارات الجوية السورية، بعد أن اعتُقلا في 2013 من منزلهما بدمشق، وحصل عبيدة لاحقاً على شهادة وفاة لهما من السجل المدني بدمشق. ويقول البني إنه وعلى "رغم الاختلاف في هذه القضية مع القضايا المرفوعة ضد مسؤولين بالنظام السوري، في ألمانيا والنمسا والسويد والنرويج، لكون القضاء الفرنسي هنا نظر في الدعوى على أن ضحاياها مواطنون فرنسيون، إلا أن القضاء الفرنسي وسع الدعوى، واعتبرها جريمة ضد الإنسانية، واستمع لضحايا تعرضوا لانتهاكات في نفس المكان الذي شهد احتجاز مازن وباتريك دباغ".
وحول "قانون قيصر"، الذي كان أقره مجلس النواب الأميركي، في يناير/كانون الثاني الماضي، وحوله إلى مجلس الشيوخ، الذي صوت عليه أيضاً، لكن مع إدخال تعديلات تتطلب إجراءات داخل الكونغرس قبل رفعه للرئيس الأميركي، فإن البني يرى أن "القرار سياسي بالدرجة الأولى، ولكن الإيجابي فيه أنه قرار مُلزم لكل الإدارات الأميركية خلال مدة سريانه بعد إقراره". أما المحامي السوري غزوان قرنفل، فقد اعتبر أن "أهمية القانون أنه يفرض عقوبات واسعة بحق النظام وشركائه، تكرس فكرة المساءلة والمحاسبة، بحيث تتم معاقبة أي دولة أو منظمة أو شخص يدعم نظام الأسد، بملفات حيوية. وأعتقد أن هذا القانون لعب دوراً بارزاً في إيقاف دول عربية لمحاولات انفتاحها على النظام وإعادة تطبيع العلاقات معه".
الآلية الدولية الحيادية والمستقلة
وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة أنشأت "الآلية الدولية الحيادية والمستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للمسؤولين عن أخطر الجرائم في سورية"، ضمن قرار صدر في ديسمبر/كانون الأول 2016، بعد أن صوتت عليه بالموافقة 105 دول، من أصل 193 دولة عضواً في الأمم المتحدة. ويعتبر حقوقيون سوريون ودوليون أن هذه الآلية أداة قانونية مهمة، لجمع أدلة حول الجرائم الأخطر التي ارتُكبت في سورية، منذ مارس 2011. ومنذ نحو أسبوع، وتحديداً في الثامن من مارس/آذار الجاري، قالت رئيسة "الآلية الدولية المستقلة والمحايدة" القاضية الفرنسية السابقة، كاترين ماركي أويل، إن مكتبها، استقبل "15 طلباً من هيئات قضائية وطنية (في خمس دول)، للتعاون في التحقيق بقضايا خاصة بسورية". وأشارت ماركي أويل، في حديث مع وكالة "رويترز"، إلى أن فريق "الآلية الدولية" مؤلف من 32 فرداً، وجمع مليون وثيقة وتسجيل فيديو وأقوال شهود، يعكف محللون ومحامون وباحثون على تحليلها، مشيرة إلى أنها تعتمد على أدلة تم جمعها، من قبل لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في سورية، وهي هيئة منفصلة، يقود فريقها المكون من خبراء مستقلين، البرازيلي باولو بينيرو منذ العام 2011.
ويقول قرنفل، لـ"العربي الجديد"، إن "الآلية الدولية" مخولة "جمع الأدلة وإعداد ملفات حول الجرائم المرتكبة في سورية، وليست هيئة قضائية بالمعنى القانوني. وباتت لديها قاعدة بيانات ضخمة تتألف من نحو مليون وثيقة (صور ومشاهد فيديو ووثائق ورقية) تُعتبر أدلة بالغة الأهمية، وتم جمعها مع مؤسسات حقوقية سورية". ويشير إلى أنه "بحسب بروتوكول الآلية الدولية، فإنها ستقدم هذه الأدلة للمحاكم الدولية والوطنية التي تطلب الاستعانة بها"، علماً أن قرار إنشائها يمنعها من مشاركة المعلومات التي تجمعها، مع أي أنظمة قضائية تتعامل بالأحكام الغيابية أو تطبق حكومة الإعدام، وهو ما يعني أن "الآلية الدولية" لن تشارك أي معلومات مع الأجهزة القضائية السورية الرسمية. ويعتبر مدير "تجمع المحامين السوريين الأحرار" أن مجموعة المسارات القانونية، التي تبحث عن سبيل لتحقيق مبدأ المحاسبة والمساءلة في سورية، ستصل بالمحصلة إلى تحقيق هذا الهدف. ويقول إن "هذا المسار (القانوني) بدون شك طويل ومرهق، لكن فكرة المساءلة تكرست الآن مع مضي السنوات الثماني الماضية، وما يلوح في الأفق أن صفحة الإفلات من العقاب قد طويت".